يُحكى أن التاريخ عشق زهرة اللوتس فأنجبا مصر ومن عبقها كانت طيبة.. الفسطاط.. ثم أتت القاهرة التي سحرت كل من مر بها وأسرته بكل ما فيها من نيلها ومآذنها وكنائسها وقبابها، وحتى قبورها من الأهرام وصولا إلى صحراء المماليك أو مقابر الخلفاء التي كانت حديث القاصي والداني في الأيام الأخيرة، وهذا بعد أن أصدر السيسي فرمانا ليس بهدم مقابر الخلفاء فقط كما يزعمون، لا بل هو فرمان بمحو التاريخ والذاكرة من عقولنا، فرمانا يمزقون به أوراقنا التي نحتمي بها من فقدِ هويتنا التي يريدون أن يسلبونا إياها بالقوة الغاشمة، إنهم يقتلون الماضي داخلنا من أجل إنسان بلا هوية أو جذور، يعدمون في عقول الأجيال القادمة وقلوبهم معنى الانتماء للأرض.
فهذه المقابر ليست مجرد حافظة لعظام أجدادنا، بل هي حافظة للهوية التاريخية، ليس تاريخنا فقط بل تاريخ الإنسانية؛ فهنا تروي لنا الجدران والطرقات حكايات زمنٍ عتيق.. مقابر صحراء المماليك تأتي كثاني أكبر مدافن بالتاريخ الإسلامي بعد مدافن البقيع بالمدينة المنورة.
تلك القبور التي يراها السيسي عديمة القيمة لو وُجدت في أي دولة أخرى لحولتها لمزارٍ سياحي فريد يحكى للعالم تاريخا مميزا.
هذه المقابر ليست مجرد حافظة لعظام أجدادنا، بل هي حافظة للهوية التاريخية، ليس تاريخنا فقط بل تاريخ الإنسانية؛ فهنا تروي لنا الجدران والطرقات حكايات زمنٍ عتيق
مقابر الخلفاء قلب القاهرة العتيق الذي يحوي أشكالا متفردة من قباب زمنين مختلفين (المماليك والعثمانيين) وفيها مدافن الأولياء والنخبة السياسية والثقافية، تمتاز نقوش قبابها وأضرحتها بجمالها وطرازها المعماري الفريد الذي يأسر روحك فتعود بك دون أن تدري إلى عصور المماليك والسلاطين والأمراء، إلى 1400 سنة مضت؛ ففي مدينة القباب الفريدة من نوعها، تحت كل قبر تجد حكاية وتاريخا..
فتلك الرفات كانت يوما تحوي عقولا ثائرة وقلوبا خافقة عامرة. على بعد خطوات من مسجد السيدة عائشة، مئات من القباب والقبور في داخلها تاريخ سلاطين وأمراء، صعاليك وشهداء، ومغامرين وعلماء؛ فها هنا يرقد سلطان العلماء وقاضي القضاة العز بن عبد السلام الذي تولى الحشد لمواجهة المغول، تفصله خطوات عن العلامة الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي؛ المفسر والمؤرخ والأديب والفقيه الذي فاقت مصنفاته 600 كتاب.
ليست مقابر الخلفاء فقط هي التي صدر بحقها فرمان الإعدام، هناك أيضا مقابر الشافعي، والتي يوجد فيها ضريح الإمام الشافعي، وهو أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنّة، وبجواره يرقد عبد الرحمن الكواكبي وابن خلدون والمقريزي والإمام ورش، شيخ القرّاء، والشاعر حافظ إبراهيم، شاعر النيل، والشاعر الكبير محمود سامي البارودي الذي كان وزيرا للمعارف والأوقاف والحربية، رب السيف والقلم ترقد رفاته عاجزة عن الدفاع عن نفسها، وبالقرب منه توجد بعض من مقابر أسرة محمد علي باشا والخديوي توفيق وزوجته، والخديوي إسماعيل ووالدته "خوشيار قادين هانم".
هذه مجرد مجموعة صغيرة من علماء وحكام ومشاهير مصر الذين ينكل السيسي برفاتهم، هذا بخلاف عامة الناس، وإن كانوا مجهولين لنا فلهم أهل وأقارب هم معلومون لديهم بالتأكيد ويمثلون لهم قيمة.. إنها قيمة الإنسان صنيعة الله التي يهينها السيسي بكل مناسبة ممكنه، فلم يكتفِ بإهانة الأحياء وإذلالهم فها هو يهين الأموات
هذه مجرد مجموعة صغيرة من علماء وحكام ومشاهير مصر الذين ينكل السيسي برفاتهم، هذا بخلاف عامة الناس، وإن كانوا مجهولين لنا فلهم أهل وأقارب هم معلومون لديهم بالتأكيد ويمثلون لهم قيمة.. إنها قيمة الإنسان صنيعة الله التي يهينها السيسي بكل مناسبة ممكنه، فلم يكتفِ بإهانة الأحياء وإذلالهم فها هو يهين الأموات الذين لا يملكون حولا ولا قوة.
ومن جبروت ذاك الفرعون أن طلبت حكومته من أسر أصحاب المقابر مجموعة من الإجراءات من أجل نقل رفات الموتى، وأكدت لهم أن "نقل الموتى يكون بمعرفة صاحب الشأن.. على نفقته الخاصة".
وبحسب شهادة شاهد عيان، وهو طالب الدكتوراه في الدراسات الإسلامية محمد عبد العزيز، لموقع الحرة:، فإن هناك أسرا تمكنت من نقل رفات ذويها، بينما هناك "من لا أهل لهم أو من انقطع عنهم أقاربهم"، فانتهى الحال بالهدم فقط وتسوية القبور على من فيها.
السيسي هنا لا يتحدى قانون الإنسانية؛ فهو لا يعرف عنها شيء، بل يتلاعب بالقانون بزعم أنه لا يهدم آثارا مسجلة، وهو يعلم جيدا أن ما هو مسجل كأثر في تلك المنطقة لا يتعدى 20 في المئة من الآثار، والباقي غير مسجل بحجة عدم القدرة المالية لمراعاة تلك المباني التاريخية.
السيسي هنا لا يتحدى قانون الإنسانية؛ فهو لا يعرف عنها شيء، بل يتلاعب بالقانون بزعم أنه لا يهدم آثارا مسجلة، وهو يعلم جيدا أن ما هو مسجل كأثر في تلك المنطقة لا يتعدى 20 في المئة من الآثار، والباقي غير مسجل بحجة عدم القدرة المالية لمراعاة تلك المباني التاريخية
وهذا بجانب تحدي السيسي أيضا للدستور المصري الذي صنعه على عينه، حيث حدد القانون عقوبة هدم المباني التراثية والتاريخية (أي أنه لو لم يكن المبنى مسجلا كأثر ولكنه تاريخي ينطبق عليه نص القانون)، حيث تنص المادة الثانية عشر من قانون تنظيم هدم المباني والمنشآت غير الآيلة للسقوط والحفاظ على التراث المعماري، المعدل بالقانون رقم 3 لسنة 2020، على: "يعاقب كل من هدم كليا أو جزئيا مبنى أو منشأة مما نص عليه في الفقرة الأولى من المادة الثانية من هذا القانون بالحبس مدة لا تقل عن سنة ولا تزيد على خمس سنوات وبغرامة لا تقل عن مائة ألف جنيه ولا تزيد على خمسة ملايين جنيه".
ووفقا للمادة، يترتب على هدم المبنى أو المنشأة المشار إليها في الفقرة السابقة عدم جواز البناء على أرضها لمدة خمسة عشرة عاما.
ولكن لا يتوقف العجب العجاب الذي وعدنا به السيسي عند هذا الحد فقط، بل في ظل مذبحة التاريخ تلك نجد سيسي آخر مرهف الحس يقوم بترميم مقابر اليهود (مقابر ليشع ومنشا) وافتتاحها كمزار سياحي.
نحن أمام حالة غريبة لشخص كاره لمصر وتاريخها وجغرافيتها وأهلها، فإلى متى سيصمت الأحياء وهم يرون بأم أعينهم أولادَهم يذهبون إلى الشتات بقوارب الهجرة غير الشرعية فيموتون على حدود أوطان يفرون إليها هربا من وطن يخرج رفات أجدادهم إلى شتات؛ ولم تشفع لهم أمام بلدوزرات الظلم جملة كتبت على أحد القبور التي هدمت: "يا زائري لا تنسني".
وكأن العسكر لم يكتفوا بلعنة الدم التي تطارد مصر فأضافوا عليها صرخات الموتى.
انقش على الصخر الأصم:
"يا نابشا قبري حنانك، ها هنا قلبٌ ينام، لا فرق من عامٍ ينامُ أو ألف عام، هذي العظام حصاد أيامي فرفقا بالعظام".
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه التاريخ مصر مقابر الآثار مصر مقابر آثار تدمير تاريخ مقالات مقالات مقالات اقتصاد سياسة اقتصاد صحافة سياسة صحة مقالات رياضة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
معرض يستعرض الروابط التاريخية بين سلطنة عُمان والبحرين بالمتحف الوطني
مسقط "العُمانية": افتتح المتحف الوطني بالتعاون مع وزارة الخارجية معرضًا بعنوان "الصور التاريخية لقادة سلطنة عُمان ومملكة البحرين"، بالتزامن مع انعقاد الدورة الثامنة للجنة العُمانية البحرينية المُشتركة، بحضور معالي السيد بدر بن حمد البوسعيدي، وزير الخارجية.
ويضم المعرض صورًا تاريخية توثّق عمق العلاقات الأخوية بين قادة سلطنة عُمان ومملكة البحرين عبر التاريخ، بدءًا من عهد السُّلطان تيمور بن فيصل وصولًا إلى عهد نهضة عُمان المتجددة بقيادة حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المعظم - حفظه الله ورعاه -.
ويحتوي المعرض على مجموعة منتقاة من المقتنيات التي تجسد الروابط التاريخية بين البلدين الشقيقين، منها: ختم من الحجر الصابوني يعود للفترة 1600-1100 ق.م (فترة حضارة مجان ودلمون) من موقع نفعاء في ولاية بدبد (محافظة الداخلية)، ولوحة "أطلال مسجد في البحرين - الخليج العربي" للرسام القبطان تشارلز جولدينج كونستابل تعود إلى عام (1843م)، بالإضافة إلى نسخة طبق الأصل من رسالة ودية من السيد نادر بن فيصل البوسعيدي إلى الشيخ عيسى بن علي آل خليفة حاكم البحرين تعود إلى (1924م).
كما يضم المعرض درعًا تذكاريًّا مُهدى إلى السُلطان قابوس بن سعيد بن تيمور - طيب الله ثراه -، بمناسبة وضع حجر الأساس لمشروع الجسر البحري بين المملكة العربية السعودية ومملكة البحرين، يعود لعام 1982م، وخنجر احتفالي من مقتنيات السُّلطان قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه - من مملكة البحرين يقدر بأنه يعود إلى الفترة ما بين نهاية القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين.
ويتضمن المعرض إصدارًا متحفيًّا بعنوان "مجموع علم البحار" وهو قراءة لمخطوطة "مجموع مخطوطات الفوائد في علم البحر والقواعد وحاوية الاختصار في أصول علم البحار والأراجيز" للملاح العُماني أحمد بن ماجد السعدي، الذي أتى على ذكر "البحرين" في مواضيع عدة في المخطوط.
وتخلل حفل الافتتاح تقديم عرض مرئي من إعداد وزارة الإعلام يستعرض العلاقات التاريخية والأخوية التي تجمع البلدين الشقيقين.
حضر الحفل سعادة الدكتور عبد اللطيف بن راشد الزياني، وزير خارجية مملكة البحرين، وعدد من أصحاب المعالي والسعادة والمهتمين بالشأن الثقافي والمتحفي.
جديرٌ بالذكر، أن المعرض سيستمر لعموم الزوار لمدة أسبوع، ليمثل نافذة للزوار لاستكشاف تاريخ مشترك وروابط متينة أرسى دعائمها قادة البلدين على مدار العقود الماضية.