الشيخ كمال الخطيب يكتب .. عندما يبكي الرجال
تاريخ النشر: 8th, September 2023 GMT
#سواليف
عندما يبكي الرجال
السيخ #كمال_الخطيب
مثل العملة النادرة، ومثل المعدن النفيس الذي قلما تجده أو تراه وإن كنت تسمع وتقرأ عنه، هكذا هم؛ أصبحوا حالة نادرة في المجتمع أولئك #الرجال الذين يبكون وتسيل دموعهم من #خشية_الله.
ليس فقط أن جفاف المشاعر وقحط العيون و #قسوة_القلوب قد أصبح مرضًا منتشرًا ومتفشيًا، بل إن #بكاء_الرجال وتأثرهم عند بعض المواقف الإنسانية أو عند استشعارهم الخوف من الله أصبح كأنه أمرٌ معيبٌ، وأنه منقصة، على اعتبار أن الرجال لا يبكون، وأن البكاء هو للنساء، وأن الذي يبكي ويتفاعل قلبه وتذرف عيناه يُسمى رجلًا عاطفيًا بالمفهوم السلبي لكلمة العاطفة، أي أنه شخص انفعالي.
وإنه القرآن الكريم؛ كتاب الله سبحانه الذي تحدث عن صفات المخبتين المؤمنين من الرجال، الرجال الذين تفيض أعينهم بالدموع {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} آية 109 سورة الإسراء، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}آية 2 سورة الأنفال.
إن من الناس من يجلسون لمشاهدة فيلم فيتأثرون لبعض فصوله ومشاهده التراجيدية فيبكون، بل ويجهشون بالبكاء، مع العلم أن ما يشاهدونه هو فيلم وهي أداور يؤديها هؤلاء الممثلون بحرفية، بل لعل الواحد منهم وهو الذي بكى وأبكى غيره تجده بعد لحظات من تصوير المشهد يضحك ملء شدقيه.
وكيف لا نبكي لبكائهم
بالله عليكم، ألا يُبكي الواحد منا ذلك المشهد الحقيقي الصادق الذي قصه الله تعالى علينا في القرآن الكريم عن نبي الله لوط عليه السلام وهو يتوسل إلى قومه ألا يعتدوا على ضيوفه، وقد أرادوا انتهاك أعراضهم، وهم لا يعلمون أن هؤلاء الضيوف هم ملائكة، حتى أن لوطًا عليه السلام في مشهد محزن مؤثر يعرض عليهم بناته للزواج مقابل أن لا يخزوه في ضيوفه:{وَجَآءَهُۥ قَوْمُهُۥ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّـَٔاتِ ۚ قَالَ يَٰقَوْمِ هَٰٓؤُلَآءِ بَنَاتِى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ۖ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِى ضَيْفِىٓ ۖ أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ} آية 77 هود.
بربكم، ألا يبكيكم بكاء ودموع مريم البتول الطاهرة عليها السلام، وقد رماها قومها بالفاحشة، بينما هي على الحالة التي وصفها الله بقوله: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا} آية 22 سورة مريم.
بربكم، ألا يبكيكم بكاء يوسف عليه السلام وهو يتوسل إلى الله أن يحفظ عليه شرفه وطهره، حيث امرأة العزيز تراوده عن نفسه وتهدده بالسجن إن لم يستجب لإغرائها: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ۖ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} آية 23 سورة يوسف.
{قَالَ رَبِّ ٱلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَدْعُونَنِىٓ إِلَيْهِ ۖ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّى كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ ٱلْجَٰهِلِينَ} آية 33 سورة يوسف.
بربكم أيها الناس، من هذا الذي يتمالك نفسه ولا تسيل دموعه ولا ينفطر قلبه ولا يبكي لبكاء رسول الله ﷺ وهو يتحدث عن نفسه وعن شفاعته لأمته يوم القيامة، وعن بكائه تحت عرش الله قائلًا: “يا رب أمتي أمتي، فيقول له الله تعالى: إنا لن نخزيك في أمتك، يا محمد سل تُعط واشفع تشفّع”.
إن صاحب العاطفة الإيمانية، وإن التأثر والبكاء، وإن الدموع كما يقول الدكتور محمد موسى الشريف: “صاحب العاطفة الإيمانية القوية شخص مؤثر بلا ريب يجتمع الناس حوله وينبسطون له ويرتاحون إليه، إذ هو مفتاح الاستجابة”. وأما المرحوم الدكتور عبد الله علوان فيقول عن صاحب العاطفة الإيمانية وصاحب الدمعة السخية: “إذا خطب أو تحدث أو دعا إلى الله رأيت الإيمان يبرق من خلال عينيه، والإخلاص يشرق من تقاسيم وجهه، والصدق يتدفق من حنان صوته وخشوع لهجته وإشارة يده، كلامه يسري في القلوب ويبدد ظلام النفوس، لدعوته يستجيب الناس، بموعظته تخفق القلوب وتذرف العيون، وبتذكيره يتوب العاصي ويهتدي الضال”.
وأما الدكتور محمد أحمد الراشد فيقول: “ومن لا يحصن نفسه بالخشوع ويسقي أشجار محبة الله بالدموع فليس أمامه إلا النكوص والرجوع، والجفاف والركوع أمام أصنام الذات وأوثان الحياة، وتلك هي الطامة الكبرى التي ما فوقها طامة، ذلك أن الجفاف الروحي والجدب المعنوي واليَبَس العاطفي أخطر آفات العمل الإسلامي التي لو تعرض لها الداعية العامل للإسلام لأفقدته أهم قوى الجذب والمغناطيسية والاستقطاب، حيث هو يدعو لإشاعة روح الصفاء والنقاء والتوكل والتعبد والدعاء”.
وأما الشاعر المسلم محمد إقبال فقد شبه العالم والداعية الذي لا يبكي بقوله: “إن العالم الديني الذي لا يحمل همًّا، إن عينه بصيرة ولكنها جافة لا تدمع، لقد زهدتُ في صحبته لأنه عِلم ولا همّ، وأرض مقدسة ولا زمزم”.
ولقد شرح الشيخ أبو الحسن الندوي هذه العبارة بقوله: “إنه العالم صاحب العلم الكثير والعقل الكبير واللسان البليغ، ولكنها لا تسيل دمعة من عينه ولا لوعة في قلبه، فإنه مثل مكة؛ لو لم تكن تجري فيها زمزم فإنها تبقى رمالًا جافة وجبالًا جرداء، إنه يكون أخذ من الأرض المقدسة خشونتها وصلابتها ولم يأخذ منها رطوبتها ونداها”.
عندما بكى الأبطال
وإنه تاريخ أمتنا في ماضيها وحاضرها يزخر بنماذج الرجال من القادة العسكريين ومن الفاتحين ومن العلماء ومن العباد، الذين كانوا بكائين، قلوبهم رقيقة وعيونهم سخية ليس لضعف فيهم وإنما كانوا هم الرجال الرجال.
من منا لم يقرأ عن حزن صلاح الدين وبكائه وقلة ضحكه، فإذا سُئل عن السبب قال: “إني أستحيي من الله أن أضحك وما تزال القدس والأقصى في يد الصليبيين”. بل إنه الذي كان في النهار بطلًا مغوارًا وفارسًا مقدامًا يمزق جيوش الصليبيين، فإذا كان الليل – كما وصفه شيخه بن شداد- يبكي بكاء الأم الثكلى يقول وهو ساجد :” إلهي قد انقطعت أسبابي الأرضية من نصرة دينك، ولم يبق إلا الإخلاد إليك، والاعتصام بحبلك، والاعتماد على فضلك، أنت حسبي ونعم الوكيل”.
وهذا عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، كان إذا قرأ قول الله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ}، يبكي حتى يغلبه البكاء.
وهذا محمد بن المنكدر كان لا يتمالك نفسه إذا قيل أمامه: “قال رسول الله ﷺ” حبًا وشوقًا لرسول الله، فبينما هو ذات ليلة قائم يصلي إذ كثر بكاؤه حتى فزع له أهله وسألوه، فاستعجم عليهم – أي لم يفهموا ما قال- فأرسلوا إلى صديقه أبي حازم فجاء إليه، فقال: ما الذي أبكاك؟ قال: مرت بي آية، قال: ما هي؟ قال: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} آية 47 سورة الزمر، فبكى أبو حازم معه فاشتد بكاؤهما”.
وهذا العالم الجليل ابن نابلس وفلسطين عبد الغني المقدسي، كان رحمه الله يقرأ الحديث يوم الجمعة بعد الصلاة بجامع دمشق وليلة الخميس بالجامع أيضًا، ويجتمع خلق، وكان يقرأ ويبكي ويُبكي الناس بكاءً كثيرًا، حتى أن من حضر مجلسه مرة لا يكاد يتركه لكثرة ما يبكي قلبه وينشرح صدره فيه، وكان يدعو بعد فراغه دعاءً كثيرًا.
وهذا الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله، هذا الذي غير وجه المنطقة بعد إذ أقام دعوة وأنشأ جماعة الإخوان المسلمين، وهو ابن 21 سنة، كان ذلك عام 1928 وقُتل وهو فقط ابن 42 سنة برصاص مخابرات الملك فاروق، يقول عنه أحد رفاقه وهو المرحوم الأستاذ عباس السيسي: “كثيرًا ما كان هذا البطل يبكي بدموع غزار، وإني لأذكر في ذلك اليوم أنه تسلم وهو بدار الشهاب برقية من والد أحد الشهداء من الإخوان الذين قتلوا في فلسطين ردًا على برقية الأستاذ البنا له، وكانت برقية والد الشهيد مؤثرة فيها تضحية وفدائية واستبسال، فبكى الأستاذ البنا كثيرًا وأبكى الحاضرين”. ولما سُجن أتباعه في مصر كان يقوم من الليل ويضع كلتا يديه على أذنيه ويقول: إنني أسمع صياح الأطفال الذين غاب آباؤهم في المعتقلات. وهذا من قوة عاطفته وجميل تأثره رحمه الله تعالى.
ما أحوجنا اليوم إلى الدعاة والخطباء أصحاب الحس المرهف والعاطفة الرقيقة والدمعة السخية حتى يساهموا في مواجهة المحْل الذي أصاب مرابع قلوب الناس واليبوسة التي جففت ما في عيونهم، وإن هذا لا يتعارض أن يكون صاحب هذا الحس يتكلم في السياسة وفي الاقتصاد وفي كل المواضيع، دون أن يكون صاحب تلك الروح الرقيقة. يقول الأستاذ محمد موسى الشريف: “ما قيمة واعظ يتحدث عن التقوى والتوبة والرغبة والرهبة، والوعد والوعيد، والجنة والنار، واليوم الآخر، ماله من أهوال وعظائم، أو يتحدث عن الخشية والإنابة وعن أمثال هذه المعاني في خطب ومحاضرات، ثم إنه لا يذرف له دمعة ولا تفر منه عبرة، إن دمعة واحدة خير من محاضرة، وإن بكاءً مؤثرًا صادقًا خير من خطبة، وهذا مشاهدٌ معلوم، ولا يملك هذا ولا يستطيعه إلا أصحاب العواطف الإيمانية”.
لما بكى الرجال
وكيف لا يبكي الرجال وقد رأيتهم قبل أيام يبكون بعشراتهم ومئاتهم وألوفهم على فقدان ورحيل ومقتل داعية إلى الله تعالى وإمام مسجد صاحب مواقف مشرفة وتاريخ دعوي حافل، إنه الأخ الفاضل المرحوم الشيخ سامي مصري إمام مسجد قباء من بلدة كفرقرع مطلع هذا الأسبوع.
إن رحيل داعية ومصلح في هذا الزمان هو خسارة عظيمة، وكيف لا تكون خساره والدعاة هم الأعلام والنجوم التي تضيء لنا ليلنا المظلم. وإذا كانت النجوم في السماء تهدي المسافرين والضالين في الصحراء {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} آية 16 سورة النحل، فإن نجوم الأرض هم العلماء والدعاة الذين ينيرون الطريق للسائرين والحيارى التائهين في دروب الضلالة والجهل والشك {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} آية 73 سورة الأنبياء.
قال ابن القيم عنهم: “هم في الأرض بمنزلة النجوم من السماء بهم يهتدي الحيران في الظلماء، وحاجه الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب، وإن موت العالم مصيبة لا يجبرها إلا خلف غيره”. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “لموتة عابد أهون من موت عالم بصير بحلال الله وحرامه”. وقال الإمام أحمد في وصف العلماء والدعاة الى الله: “يدعون من ضلّ إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى ويبصرون بنور الله أهل العمى. فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه وكم من ضالّ تائه قد هدوه”.
لنبكِ مثل الأطفال
إنه رسول الله ﷺ سيد الذاكرين وسيد العابدين قد بين لنا قيمة الدمعة السخية التي تسيل من عيني العبد المؤمن، وكيف أنها تكون هي السبيل إلى الجنة، بل إلى التفيؤ تحت ظل عرش الله يوم القيامة، حيث قال صلى الله عليه وسلم عن السبعة الذين يظلهم الله تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله وأن واحدًا منهم كما قال: “…ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه”، نعم أن تفيض عينك بالدموع من خشية الله وأنت ساجد وأنت قائم وأنت في خلوة وأنت في عتمة الليل، فإنها الطريق السريع وتذكرة المرور بإذن الله إلى ذلك المقام؛ تحت ظل عرش الله يوم القيامة.
إن من الناس من إذا غلبهم الضحك تسيل دموعهم لشدة تفاعلهم مع ذلك المشهد الذي رأوه فأضحكهم ولا يعاب عليهم ذلك، فكيف يُعاب على من تسيل دموعه ويبكي خوفًا أو تأثرًا أو تذللًا بين يدي ربه سبحانه؟
إن الطفل يطلب من أمه أو أبيه حاجة فلا يقضيانها له ولا يستجيبان لطلبه، وإذا به يستخدم سلاح البكاء والدموع، وإذا به يخترق أعماق أعماق قلب أمه وأبيه، فما بال الواحد منا لا يستخدم سلاح الدموع وسلاح البكاء بين يدي الله جل جلاله، ونحن ساجدون أو رافعو أكف الضراعة إليه نقول له ونرجوه ونتوسل إليه: {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ} آية 47 سورة هود، لماذا لا نجمع بين البكاء وبين الدعاء وبين الرجاء ونحن نقول له: “وعزتك لن أبرح بابك ولن أغادر أعتابك حتى تغفر لي” ، ونقول له: “يا رب عبيدك غيري كثير، أما أنا فليس لي ربٌ سواك”.
إننا في زمان أحوج ما نكون فيه ليس إلى البكائين عند أعتاب الظالمين من طواغيت الأرض، نتوسل إليهم أن ينصفونا وأن يرفعوا الظلم عنا وعن شعوبنا، فأمثال هؤلاء البكائين من ملوكنا ورؤسائنا وأمرائنا هم سُبة الزمان والعار الذي لا ينمحي، وإنما نحن أحوج ما نكون إلى البكائين منهم بين يدي الله خوفًا منه جل جلاله وخوفًا من تقصيرهم في حق الرعية من أبناء الأمة الذين أستأمنهم الله عليهم.
إننا أحوج ما نكون إلى البكائين في جوف الليل والناس نيام تلهج ألسنتهم بالرجاء، وترتفع أيديهم بالدعاء، وتفيض أعينهم بالدموع، يختلون بذي الجلال كما يختلي الحبيب بحبيبه، وقد أنِسَ بقربه ولقياه يستجيبون لقول الزاهد المحب:
يا رب قد ثقلت عليّ كبائرٌ بإزاء عيني لم تزل تترددُ
يا رب إن أُبعدتُ عنك فإن لي طمعًا برحمتك التي لا تبعدُ
يا رب مالي غير لطفك ملجأٌ ولعلني عن بابه لا أطرد
يا رب هب لي توبة أقضي بها دينًا علي به جلالك يشهدُ
أنت المجيب لكل داعٍ يلتجي أنت المجير لكل من يستنجدُ
من أي بحرٍ غير بحرك نستقي ولأي بابٍ غير بابك نقصدُ
فما أصدقها تلك العبرات والدمعات التي تكون بين العبد وبين خالقه ومولاه وهو يناجيه! فما أصدق ولا أنفع من أن يبكي الرجال بين يدي الله خوفًا منه سبحانه وخشية من عذابه وناره وسخطه بعد ذنب اقترفوه أو جُرمٍ عملوه! ومثلها بل أصدق منها دموع الفرح بالنجاة من إثم ومعصية كان سيقع فيها لولا أن الله سبحانه قد نجاه وعصمه، فبكى فرحًا وشكرًا لله أنه لطف به ونجاه من الحرام.
إنها الدمعات والعبرات يسكبها الرجال وتسيل من عيونهم على خدودهم ستشهد لهم يوم القيامة، لا بل إن الدموع خير وأفضل وأنجع المراهم التي تزيل آثار الذنوب مثلما تزيل المراهم والعلاجات آثار الجروح أو الحروق.
أيها الرجال؛ لا تقولوا إن البكاء عيبٌ ومنقصة، وإن الرجال لا يبكون، فابكوا أيها الرجال، وإن لم تبكوا فتباكوا لعل الله أن ينظر إليكم فيرحمكم، واعلموا أن أول طريق عز الدنيا وفلاح الآخرة هو عندما يبكي الرجال.
المصدر: سواليف
كلمات دلالية: سواليف كمال الخطيب الرجال یوم القیامة الله تعالى بین یدی لا یبکی ما یبکی ل الذی کثیر ا
إقرأ أيضاً:
عبد الله حمدوك.. المدني الذي آثر السلامة فدفعه الجيش إلى الهامش
في صباح الأول من يناير/كانون الثاني عام 1956، وقف رئيس الوزراء السوداني إسماعيل الأزهري وزعيم المعارضة محمد أحمد المحجوب في ساحة قصر الحاكم العام بالخرطوم، الذي أصبح يُعرف فيما بعد بالقصر الجمهوري، وسط حشد جماهيري مهيب، ورفعا على السارية علم السودان ذا الألوان الثلاثة: الأخضر رمز الزراعة، والأصفر رمز الصحراء، والأزرق رمز الماء والنيل، الذي تغيَّر لاحقا في عهد الرئيس جعفر النميري عام 1970.
على بعد حوالي 700 كيلومتر من مشهد إعلان استقلال السودان في العاصمة، وبالتحديد في مدينة الدبيبات بولاية جنوب كردفان، كانت أرملة المرحوم آدم حمدوك تضع مولودها عبد الله، الذي سيصبح فيما بعد رئيسا للوزراء وأحد أبرز الوجوه السياسية في السودان المعاصر.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2كيف نفهم خريطة الصراع في السودان؟list 2 of 2النظرية خضراء والتجربة رمادية.. لماذا تعثر الإسلاميون في السودان؟end of listمن كردفان إلى مانشستر
تعود أصول عبد الله آدم حمدوك إلى قبيلة بني كنانة العربية في سهول كردفان، وقد تلقى تعليمه المتوسط في مدينة الدلنج، ثم انتقل إلى مدينة الأُبيِّض بولاية شمال كردفان، حيث أكمل تعليمه في مدرسة خور طقت الثانوية، وهي إحدى ثلاث مدارس ثانوية تأسست في عهد الاستعمار البريطاني في السودان.
بعدئذ، شدَّ حمدوك الشاب الرحال إلى الخرطوم، فالتحق بجامعة الخرطوم العريقة، التي كانت امتدادا لكلية غردون التذكارية التي أنشأها البريطانيون، وتخصَّص هناك في الاقتصاد الزراعي وتفوَّق فيه، حتى حصل على درجة الإجازة مع مرتبة الشرف عام 1975.
في الجامعة، أدّى الحراك الطلابي دورا محوريا في تشكيل الحياة السياسية السودانية؛ بداية من مؤتمر الخريجين عام 1938 مرورا باشتعال ثورة أكتوبر 1964 ضد نظام الرئيس إبراهيم عبود.
إعلانوقد استمر التفاعل السياسي النشط في الجامعة طوال السبعينيات، فظهرت حركة الطلاب المحايدين، وتلتها صراعات عنيفة في الثمانينيات بين طلاب الجبهة الإسلامية وطلاب اليسار والقوى التقليدية.
وفي خضم هذا الزخم، انضم حمدوك إلى الحزب الشيوعي السوداني أثناء دراسته، لكنه لم ينخرط في السياسة كليًّا، إذ انشغل بالتحصيل الأكاديمي وترك عضوية الحزب بعد وقت قصير.
بدأت مسيرة حمدوك المهنية عقب تخرُّجه عام 1981 حين عمل في وزارتي الزراعة والمالية والتخطيط الاقتصادي حتى عام 1987، قبل أن يتوجَّه إلى بريطانيا لإكمال دراسته العليا بكلية الدراسات الاقتصادية في جامعة مانشستر ضمن بعثة حكومية، رغم إحالته لاحقا إلى "الصالح العام" عام 1990.
وقد حصل حمدوك على الدكتوراه عام 1993، وفي أثناء دراسته تعرف على زوجته منى، الحاصلة على الدكتوراه في التنمية من جامعة لايدن بهولندا، التي تولت منصبا رفيعا في الاتحاد الأفريقي، ولديه منها ولدان، هما علي وعمرو.
من العمل الدولي إلى المرحلة الانتقاليةفي نهاية الثمانينيات، ترك حمدوك العمل الحكومي في السودان وهو في الثلاثينيات من عمره، متوجها إلى زيمبابوي للعمل في شركة "ديلويت"، وهي إحدى أكبر أربع شركات عالمية تعمل في مجال التدقيق والاستشارات المالية، وعمل بها حتى عام 1995، ثم تولَّى منصب كبير المستشارين الفنيين في منظمة العمل الدولية في جنوب أفريقيا وموزمبيق حتى عام 1997.
وبعد ذلك عُيِّن حمدوك في بنك التنمية الأفريقي في ساحل العاج (1997-2001)، ثم انضم إلى اللجنة الاقتصادية لأفريقيا التابعة للأمم المتحدة في أديس أبابا (2001-2003)، حتى أصبح نائبا للأمين العام التنفيذي للجنة، كما عمل أيضا مديرا إقليميا للمعهد الدولي للديمقراطية والمساعدة الانتخابية (2003-2008).
انتقل حمدوك إلى منصب كبير الاقتصاديين ونائب الأمين التنفيذي للجنة الاقتصادية لأفريقيا منذ عام 2011، قبل أن يُعيِّنه بان كي مون، الأمين العام السابق للأمم المتحدة، في منصب القائم بأعمال الأمين العام التنفيذي للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأفريقيا لمدة عام واحد عام 2016.
إعلانشغل حمدوك فيما بعد منصب كبير مستشاري بنك التجارة والتنمية حتى اختير رئيسا لوزراء السودان بعد الإطاحة بنظام البشير عام 2019.
على خلفية سقوط النظام، تأسَّس في يناير 2019 تحالف قوى الحرية والتغيير، وفي أبريل/نيسان 2019 أعلن وزير الدفاع الفريق عوض بن عوف عبر بيان تلفزيوني "اقتلاع النظام والتحفُّظ على رأسه بعد اعتقاله في مكان آمن"، إلى جانب حلِّ الحكومة وتعطيل الدستور وتشكيل مجلس عسكري انتقالي يتولى إدارة البلاد لمدة عامين.
ولكن بيان بن عوف لم يلق قبول الشارع السوداني الذي رأى فيه إعادة إنتاج نظام البشير، وبعد يوم واحد فقط خرج بن عوف في بيان جديد وأعلن استقالته وكلَّف الفريق عبد الفتاح البرهان برئاسة المجلس العسكري الانتقالي، مع التعهد بتشكيل حكومة مدنية تدير البلاد.
لم تنل تلك الخطة رضا قطاعات من المُحتجين الذين اعتصموا أمام مقر القيادة العامة للقوات المسلحة، مطالبين بتولي حكومة مدنية. وفي يونيو 2019 وقعت مجزرة القيادة العامة، حيث قتل أكثر من 125 معتصما وانتشرت تسجيلات توثِّق تورط عناصر من قوات الدعم السريع، وجدير بالذكر أن نتائج التحقيقات لم تظهر حتى الآن.
بعد محادثات ووساطة برعاية إثيوبيا والاتحاد الأفريقي، أُعلِن عن الوثيقة الدستورية في أغسطس/آب 2019، وهي صيغة لتقاسم السلطة بين المجلس العسكري الانتقالي والقوى المدنية، وفي مقدمتها قوى الحرية والتغيير، ثم تشكَّل مجلس السيادة الانتقالي لإدارة البلاد لمدة 3 سنوات تقريبا، على أن تتولى رئاسة الوزراء شخصية مستقلة تُرشِّحها قوى الحرية والتغيير، وبناء على هذا الاتفاق أصبح البرهان رئيس مجلس السيادة الانتقالي، ومحمد حمدان دقلو (حميدتي) نائبا له.
وقع اختيار القوى المدنية على حمدوك لرئاسة الحكومة، وعزز ذلك الاختيار رفض حمدوك تولي وزارة المالية في حكومة معتز موسى، التي تشكلت تحت رئاسة البشير قبيل ثورة ديسمبر، إلى جانب كونه شخصية تكنوقراطية لم يُعرَف لها انتماء أو نشاط سياسي صريح، وكذلك خبرته في التنمية الاقتصادية التي اكتسبها في سنوات عمله، ومشاركته في مبادرات سلام أفريقية للتوسُّط في نزاعات دارفور وكردفان والنيل الأزرق، علاوة على دوره في وضع سياسات النمو الاقتصادي في إثيوبيا أثناء حكومة ميليس زيناوي.
إعلان براغماتي في عاصفة الثورةفي يوم 21 أغسطس 2019، وعلى متن طائرة قادمة من أديس أبابا إلى الخرطوم، وصل الدكتور عبد الله حمدوك، الذي اقترب حينها من منتصف عقده الستين، وأدى اليمين الدستورية أمام البرهان، ليصبح أول رئيس وزراء للسودان عقب الإطاحة بنظام البشير.
في كلمته، وصف حمدوك نفسه بأنه "لا يحمل عصا موسى"، وأنه سيسلك نهجا براغماتيا لإصلاح الاقتصاد السوداني عن طريق وقف الحرب، ثم تنفيذ إصلاحات مستندة إلى نماذج التنمية الغربية ونماذج التنمية التي طُبِّقَت في النمور الآسيوية وكوريا الجنوبية.
ولكن في غضون عشرة أشهر من توليه رئاسة الحكومة، اندلعت مظاهرات في يونيو/حزيران 2020 احتجاجا على ضعف أداء الحكومة تحت وطأة الأزمة الاقتصادية والغلاء المعيشي، وطالبت بتعديلات وزارية وتصحيح مسار الثورة، كما نادت بإصلاح النظام القضائي وإقالة المدير العام للشرطة وتعيين ولاة من الدفة المدنية، واستجابةً لطلبات المتظاهرين، اضطر سبعة وزراء إلى مغادرة الحكومة، بينهم وزراء المالية والخارجية والصحة، إضافة إلى الزراعة والثروة الحيوانية والبنى التحتية، كما أقيل المدير العام لجهاز الشرطة.
وقد سبق ذلك تشكيل لجنة طوارئ اقتصادية لمواجهة تحديات الاقتصاد السوداني، وهي لجنة طالتها انتقادات حادة تساءلت عن كفاءتها، خاصة أنها جاءت برئاسة حميدتي، الذي لم تُعرف عنه أي خبرة اقتصادية سابقة، في حين اكتفى حمدوك بأن يكون نائبا له.
ظهر تهميش المكون المدني المتمثل في حمدوك داخل بنية السلطة الانتقالية بشكل أوضح عندما قاد حميدتي الوفد الحكومي في مفاوضات سلام جوبا مع حركات الجبهة الثورية المسلحة، رغم العداء التاريخي بين الطرفين، وهي خطوة كان من المفترض أن يضطلع بها رئيس الوزراء المدني بخبرته السابقة.
ولكن الأخير اكتفى بإجراء مشاورات مع الحركة الشعبية لتحرير السودان شمال (جناح عبد العزيز الحلو)، التي رفضت الانضمام لمشاورات جوبا.
إعلانولم تسفر محادثات حمدوك والحلو، إلا عن اتفاق مبادئ لم يتطور لدمج الحركة بفعالية في عملية السلام. وعلى صعيد آخر ساهم حمدوك عبر مباحثات مع الولايات المتحدة في رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب في ديسمبر/كانون الأول 2020، وذلك بعد أن وافقت السلطات السودانية على تطبيع العلاقات مع إسرائيل، رغم أن حمدوك سبق أن رفض ربط التطبيع برفع السودان من قائمة الإرهاب وشدَّد على أن قضية التطبيع تحتاج إلى نقاش عميق في المجتمع السوداني.
أعلن حمدوك تشكيل حكومته الثانية في فبراير/شباط 2021 استجابة لمتطلبات اتفاقية جوبا للسلام، وتشكيل حكومة جديدة من 26 وزيرا تضم ممثلين من قوى الحرية والتغيير، والحركات المسلحة الموقعة على الاتفاق.
وبعد حوالي شهر، تعرض حمدوك لمحاولة اغتيال بعبوة ناسفة استهدفت موكبه في الخرطوم، دون إعلان جهة مسؤولة عن الحادث، وتشكَّلت لجنة تحقيق دون صدور نتائج رسمية حتى الآن.
وقد واجهت الحكومة عدة تحديات من جائحة كوفيد إلى تنفيذ اتفاق السلام الهش مع الجماعات المتمردة، والسعي للتفاوض على اتفاق مع الجماعات التي لم تنضم للاتفاق، وإصلاح قطاع الأمن، وسن قوانين الانتخابات، وعقد مؤتمر دستوري لتشكيل حكومة دائمة، واستكمال هياكل الوثيقة الدستورية، وفي مقدمتها المجلس التشريعي.
علاوة على ذلك، برزت العديد من التحديات الإقليمية، مثل الخلاف بين مصر وإثيوبيا حول سد النهضة على النيل الأزرق قرب حدود السودان، والنزاع الحدودي مع إثيوبيا في إقليم الفشقة، واستقبال 65 ألف لاجئ إثيوبي نتيجة الصراع في إقليم تيغراي، وكل ذلك في خضم وضع اقتصادي عصيب، وارتفاع أسعار السلع الأساسية ونقص الخبز والوقود، ووصول معدل التضخم إلى 141% عام 2020.
الطريق إلى الأزمةبدا أن حمدوك عازم رغم كل ذلك على السير نحو إصلاحات اقتصادية متوافقة مع أجندة صندوق النقد الدولي متقشفة، ومنها رفع الدعم عن الوقود، وتخفيض قيمة العملة، كما سعى إلى فرض سيطرة الحكومة على الشركات المملوكة لقوى الأمن.
إعلانولكن سياسة التقشف في بلد يفتقر إلى بنى تحتية أساسية وبعد ثورة شعبية عارمة حفَّزتها أزمة اقتصادية عنيفة، سرعان ما فاقمت من معاناة المواطنين، وزادت من الغضب الشعبي، ولذا اعترف حمدوك بالصعوبات الناجمة عن الإصلاحات، لكنه أبدى أمله أن يظهر أثرها الإيجابي بسرعة، وقال إن الشعب السوداني دفع ثمنا غاليا للإصلاحات ولا بد من تحقيق تطلعاته.
على ضوء التملمُل الشعبي والمشهد الانتقالي المُحتقِن بين المكونين المدني والعسكري، أرسل حمدوك يوم 27 يناير 2020 خطابا إلى الأمين العام للأمم المتحدة دون التنسيق مع المكون العسكري، طالبا إرسال بعثة أممية تحت البند السادس من الميثاق لمساعدة السلطة الانتقالية في دفع عملية السلام.
وقد فُسِّرَت هذه الخطوة حينها بأنها التفاف على مجلس السيادة الذي عَدَّ الطلب استقواء بالأمم المتحدة. وبعد عام واحد، مرَّر الكونغرس الأميركي "قانون التحول الديمقراطي في السودان والمحاسبة والشفافية المالية"، وجاء القانون، الذي وقف وراءه ناشطون سودانيون، مُلوّحا بفرض عقوبات إذا لم يُسلِّم العسكريون رئاسة مجلس السيادة إلى المدنيين بعد انقضاء دورتهم وفقا للوثيقة الدستورية.
وصل التوتر بين الطرفين المدني والعسكري إلى ذروته في سبتمبر/أيلول 2021 عندما أُعلِن عن إحباط محاولة انقلابية دبَّرتها مجموعة عسكرية، وقال حمدوك حينها إن المحاولة رتبتها عناصر من داخل المؤسسة العسكرية وخارجها، وأشار إلى سعيها لتقويض المسار الديمقراطي بالبلاد.
ومن جهته انتقد البرهان المدنيين في خطاب له أثناء تخريج دفعة من الضباط قائلا إن "القوى السياسية انشغلت بالصراع على السلطة والمناصب"؛ مما أسهم في وقوع المحاولة الانقلابية، وإن المؤسسة العسكرية لن تترك جهة واحدة تتحكم في مصير البلاد. وقد سار حميدتي على نهج البرهان في مهاجمة المدنيين، وتأكيد مسؤوليتهم عن فشل المرحلة الانتقالية.
انتقلت التجاذبات إلى الشارع وخرجت مظاهرات مؤيدة لكل طرف، كما حدث انقسام بين القوى المدنية ذاتها؛ مما أدّى إلى انشقاق تحالف الحرية والتغيير إلى جناحين، هما المجلس المركزي والكتلة الديمقراطية، إضافة إلى تصاعد الاحتجاجات المناطقية ضد اتفاق جوبا وبعض بنود الوثيقة الدستورية، وتجلَّى ذلك في إغلاق طريق شرق السودان، الذي تتدفق منه 70% من احتياجات البلاد من الخارج، مع تصاعد انتقادات لحمدوك تتهمه بضعف الأداء وغياب الإنجازات في الملفات العاجلة التي تمس حياة المواطن.
إعلانوقد أعلن حمدوك منتصف أكتوبر/تشرين الأول 2021 خريطة طريق من عشرة بنود للخروج من الأزمة، لكن بعد أقل من أسبوعين تحرَّك الجيش بمساندة الدعم السريع، ووضع حمدوك تحت الإقامة الجبرية، وحلَّ الحكومة ومجلس السيادة، وعطَّل العمل بالوثيقة الدستورية، وألقى القبض على أغلب أعضاء الحكومة وشخصيات سياسية بارزة.
أتى التحرُّك المفاجئ من الشارع السوداني، فرغم التردي الاقتصادي الذي عاشته قطاعات واسعة من السودانيين أثناء حكومتيْ حمدوك، فإنها خرجت في مظاهرات ضخمة رافضة قرارات الجيش، واعتبرت ما حدث انقلابا على ثورة ديسمبر، ولذا حظي حمدوك بتأييد شعبي كبير ورفع المتظاهرون صوره مطالبين بعودته.
ونتيجة لذلك أفرِج عن حمدوك، وجرى توقيع اتفاق سياسي مع البرهان عاد بموجبه إلى منصبه في نوفمبر/تشرين الثاني، وهي خطوة لم تلق تأييدا من مناصريه وخسر بها جزءا من مصداقيته في صفوف المعسكر المؤيد للانتقال المدني الديمقراطي، إذ تحوَّل في نظر هؤلاء إلى خائن متحالف مع الجيش ويُسهِّل عودة النظام السابق.
برَّر حمدوك موقفة حينها بأنه كان يهدف لحقن الدماء، وقطع الطريق على قوى الثورة المضادة، وحذَّر من أن البلاد "تواجه تراجعا كبيرا في مسيرة الثورة، يهدد وحدتها واستقرارها"، لكن الشارع لم يهدأ، وزادت الانقسامات، وخرج السودانيون في مظاهرات شهدت مناوشات مع الأمن وأسفرت عن ضحايا ومصابين، وهو ما أجَّج الوضع، وجعل حمدوك في موقف أكثر حرجا. وفي 2 يناير 2022، أعلن حمدوك استقالته رسميا من منصبه في خطاب بمناسبة عيد استقلال البلاد، معترفا بفشله في إيجاد توافق سياسي لعبور الفترة الانتقالية.
الحرببعد استقالته، اختفى حمدوك عن الساحة السياسية وتصاعدت الانقسامات داخل المجتمع السوداني، وتعدَّدت المبادرات الإقليمية والدولية للتقريب بين وجهات نظر الفرقاء، إلى أن وُقِّع اتفاق إطاري في ديسمبر 2022 بين الجيش وقوات الدعم السريع من جهة والمجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير من جهة أخرى.
إعلانوحدَّد الاتفاق فترة انتقالية جديدة مدتها عامان تبدأ بتولي رئيس الوزراء الجديد مهام منصبه. وقد انقسمت المواقف حول الاتفاق بين داعم ورافض، سواء في الشارع السوداني أو بين القوى المدنية، واستمرت الانقسامات والمظاهرات إلى أن ظهرت بوادر خلاف داخل المكون العسكري بإعلان حميدتي أن خطوة الإطاحة بحمدوك في أكتوبر 2021 خطأ فتح الباب أمام عودة النظام القديم، فيما عدَّه كثيرون إشارة إلى تقارب بين قائد قوات الدعم السريع والمجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير.
وفي صباح 15 أبريل 2023 اندلعت الحرب التي ما زالت تدور رحاها بين القوات المسلحة السودانية بقيادة البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة حميدتي.
عاد حمدوك إلى المشهد بعد حوالي شهرين من اندلاع الحرب على رأس تحالف "تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية" المعروفة اختصارا بـ"تقدُّم"، وذلك من أجل طرح "رؤية سياسية لوقف الحرب وإعادة الإعمار"، وأعلن التحالف وقوفه على مسافة واحدة من طرفي الصراع الدائر، واعتبر الطرفيْن متساويَّين.
وهي خطوة تسبَّبت في عدد من الانتقادات وأثارت الشكوك حول انحياز "تقدُّم" إلى الدعم السريع، وتواطئها في محاولة إنقاذ مشروع حميدتي بعد فشل انقلابه على الجيش، خاصة بعد أن وقع حمدوك مع حميدتي في أوائل عام 2024 إعلان "أديس أبابا" لوقف الحرب، بعد أن مرَّ حوالي عام على الحرب، التي ارتكبت خلالها قوات الدعم السريع انتهاكات جسيمة بحق المدنيين شملت عمليات تصفية عرقية واغتصاب وتهجير قسري وثَّقتها المنظمات الدولية؛ مما دفع حكومة الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته جو بايدن إلى اعتبارها أعمال إبادة جماعية بحق المدنيين.
وتأكَّد هذا التصوُّر لمنتقدي "تقدُّم" عندما انشق فصيل مُهِم عنها أوائل العام الجاري، وانضم صراحة إلى قوات الدعم السريع لتشكيل حكومة سودانية موازية على الأراضي الواقعة تحت سيطرة حميدتي، فيما سُمي بتحالف تأسيس، وهي خطوة تفتح الباب أمام تقسيم فعلي ثانٍ للسودان بعد انفصال الجنوب عام 2011، لكن الإعلان لاقى رفضا إقليميا ودوليا واسعا.
إعلانمن جهته، اكتفى حمدوك ومن بقي معه في "تقدُّم" بإعلان حل التنسيقية، وإنشاء كيان جديد أطلق عليه "صمود"، متبنيا الخطاب السابق نفسه الداعي إلى وقف الحرب، الذي فشل على مدار عامين في تحقيق أي إنجاز يُذكَر.
وقد أطلق حمدوك في أوائل الشهر الجاري عبر حسابه الرسمي على موقع إكس ما أسماه "نداء سلام السودان"، داعيا طرفي الصراع إلى التفاوض برعاية مجلس الأمن والاتحاد الأفريقي، وهي خطوة اعتبرها كثيرون تفتقر إلى الواقعية السياسية وتتجاهل تطوُّرات الأوضاع الميدانية على الأرض وتقدُّم الجيش في محاور مختلفة وسط هزائم متتالية للدعم السريع، مع احتمال فتح جبهات جديدة للقتال.
ويحدث كل ذلك في ظل أسوأ أزمة إنسانية في العالم يعيشها السودانيون منذ عامين، بحسب تقديرات المؤسسات الأممية، أسفرت عن أكثر من 150 ألف قتيل حتى الآن.
من المؤكد أن شخصية عبد الله حمدوك أتت في ظرف محوري في تاريخ السودان، وأن حبرا كثيرا سيسيل لتقييم دوره، بين منتقد يعتبره مسؤولا عن ضياع ثورة عظيمة أريقت فيها دماء السودانيين الذين بذلوا فيها الغالي والنفيس، بسبب سوء تخطيطه وافتقاره إلى الرؤية والحكمة اللازميْن، وبين مؤيد يعتبر أن الرجل بذل ما في وسعه، وأنه ضحية تآمر العسكر وبقايا نظام البشير.
لكن المؤكد أن حمدوك كان في موضع القيادة وفشل -حسب تعبيره في بيان استقالته- في إيجاد توافق وطني بين مكونات مجتمع غني بتنوعه الثقافي والإثني والسياسي للعبور بالسودان وثورته في لحظة فارقة من تاريخه، ولعل اختيار شخصية تكنوقراطية تفتقر إلى الحس السياسي لقيادة فترة التحول الحاسمة في خضم ثورة شعبية، أمرٌ لم يكن مناسبا.
مع كل ذلك، سيظل حمدوك رمزا للتجربة الانتقالية في السودان؛ مما سيجعل إرثه موضوع نقاش طويل في كتب التاريخ والسياسة.