وفّر الديوانُ، البيتُ الثقافي العربي تحتَ رعايةِ السفارةِ القطريّةِ ببرلين فضاءاتٍ للحوارِ الثقافي بتنظيمِهِ معرضِ الكتابِ العربيّ الأوّل ِفي الفترةِ من الأول الى الثالث سبتمبر 2023. لم أتردّد عن تلبيةِ الدعوةِ الكريمةِ من الديوانِ للمشاركةِ في ندوةِ اليومِ الثاني التي جمعتْ كاتباتٍ من مختلفِ الدولِ العربيةِ.

 
ربمّا هي مِنَ المرّاتِ النادرةِ الّتي لم أحسْ فيها بأنَّ برلين تبتلعني، المدينةُ الكبيرةُ الضاجّةُ بالحياةِ، ففي الجانبِ الآخرِ في ضاحيةٍ غايةٍ في الجمالِ، والهدوءِ فاحتْ رائحةُ الكتبِ العربيةِ، يشدُّكَ عِطرُها من أوّل الشارعِ وعندَ المدخلِ تجسيمٌ لكتابٍ كبير، كُتبَ بخطٍ أنيقٍ. الديوان، البيت الثقافي العربي وفي صفحتهِ الأخرى كُتبَ معرضُ الكتابِ العربيّ الأوّل. رائحةُ القهوةِ والمزجِ ما بين البداوةِ وعمقِها، في خيَم ٍأنيقة، تناثرَ تاريخُها في فضاءِ المكان. 
ثمّةَ حنين ما أثارته القهوةُ والكتبُ، الخيَم، نياق الحنين، اللّهجاتُ المختلفةُ، بلادٌ مختلفةٌ قاسِمُها الأعظمُ اللغةُ العربيّةُ، لغتي الأمُ الحنون. حنينٌ لكتبِ أبي الذي ترك أثراً أتقفّاهُ قبلَ وبعدَ رحيلهِِ عليهِ الرحمةُ وهو أوّلُ مَنْ قال لي أنّ المعرفةً سرُّ الخلقِ. رأيتُهُ يقفُ في مدخلِ الخيمةِ الأولى يبحثُ عن كتابٍ كنتُ قد سلفته لصديقتي قبلَ أربعينَ عاماً ولم تُعِدهُ. ولم ينس أبي أنْ يعاتبني بحنيّةٍ وهو يبحث عنه، كان كتاباً عن سيرةِ سيّدنا محمّد عليهِ الصلاة والسلام. رأيتُ أبي يبتسمُ قبلَ أنْ يغمُرَ ضوءُهُ المكانَ مردّداً (لن تضلّي طريقاً طالما الكتبُ رفقتكِ الآمنة). رأيتني طفلةٍ أتسلّل لكتبِهِ ليلاً، أنهل منها ألفَ باء تاءِ المعرفةِ التي مازلتُ أتهجّاها وأحلمُ بها رغمَ ثلاثينَ عاماً في فيينا، أحلم بلهجةِ جدّتي السودانية وأبتسمُ لذاكرةِ دمعاتي الهتون في عامي الأول في فيينا حين سمعتُ إحداهنَّ تتحدّثُ مع أخرى باللغةِ العربيةِ، أحسسْتُ حينها أنّ الجليدَ قد ذاب من حنيني للغتي الأم، في المقابلٍ عبّرتْ عن إعجابها بأنّي أُتقنُ اللغةَ العربية وسألتني أين تعلّمتُها؟ كدتُ أبكي يومَها فأنا لا أتقنُ الإبحارَ في محيط اللغةِ العربيةِ، لغتي الأم الحنون. قلتُ لها لونيَ الأسمر يصدح بهذه اللغة فهي لغةُ أمّي وأبي وأجدادي ومع ذلك تمنّيت أنْ أعرفَ لغاتٍ أخرى يعرفها السودان منذ مبتدأه، اللغة النوبية، فاللغات بقدر ماهي ثراء فهي سلطانٌ على القلب وسُلطة عبّرتْ عنها صراعُ الحضارات، صراع ٌيحوّله مثلُ هذا المعرض والمحاضراتِ المصاحبةِ إلى فضاءٍ للتفاهمِ والتسامحِ والمحبة. 
 تبصّرتُ الخيمََ البيضاءَ والسجادَ الأحمر، لم تكن قطر فقط في قلبِ برلين ولكنّها دول وبلادٌ ومخاليق من العالم العربي والشرق أوسطي. لم يُتِح هذا المعرضُ فقط الفرصةَ للقاءِ الألمان ومحاورتِهم بل القيمةُ الأعظم أنّها فرصةٌ لِبناتِ وأبناء اللّغةِ العربيّة، لقاءٌ بعد شتاتٍ في بلاد الله الواسعة، أتاحَه البيتُ بأريحيّة ومحبّة وتواضع لمسْتُها من الفريق المنظّم لهذا العمل العظيم.
رأيته محاطاً بهالةٍ منَ المحبّةِ والاحترام، دكتور حامد فضل الله، السوداني الذي ترك بصماتِه في كلّ مكانٍ في ألمانيا بإسهاماته المقدَّرة، ودورُهُ في ترسيخِ الثقافةِ العربيّةِ، لم ألتقي به مِنْ قبلٌ رُغمَ زياراتي العمليةِ السريعةِ وها هو البيتُ يتيحُ لي هذا اللقاءُ بقامةٍ من قامتِنا السودانيّة، شاهقاً كالنيلِ والنخيل وتبلّدي شكل إنسانيته. كان السودان حاضراً بيننا، وفي القلبِ غَصّةٌ وفي الحلم أماني وآمال فألمانيا نهضَتْ بعد حروبِها الطويلة لتكونَ دولةً عظمى وسيكونُ لأجيالنا القادمة ذاتِ الرفاهية.. يوماً ما! 
البيت؟ يا لجمالِ الاسم، يا لعمقِ فكرتِه! الحنينُ لبيتٍ في الذاكرة، قابعُ حجرٍ كريم لا ثمنَ له في بيتنا في كوستي بالسودان، في الديوان، أسمعُ حفيفَ الصحفِ اليوميّة يلتهمها أبي بذاتِ شغفِ التهامهِ للكتبِ. ليتَهُ كانَ معي، لَتابعَ معي المحاضرات.
لم أحتَج أنْ أبحثَ عن جمالياتِ المكانِ وتعلّقنا به لغستوف باشلار، إذْ كثيراً ما اعتقدتُ أنّه عاش في بيوتنا المشرّعة فكيف نخافُ من الآخر؟ المكانُ في البيتِ، البيتِ العربي، فما أحوجَنا في مهاجرِنا العريضةِ لبيت، بيتٍ تسمعُ فيها لغتَكَ الأم بمختلفِ اللّهجاتِ، وعلى اختلافها تشحذُ خيالي لأدخلَ كلّ بيوتِ الّلغةِ العربية، البيوت التي احتضنت دموعي غائمة في بيوت لا ولن تمحي الحرب حنيتها وأبوابها المشرعة نحو الإنسان. 
 المحاضراتُ والحواراتُ التي صاحبَتْ المعرض أعظمُ نجاحٍ للبيت، مساهمةٌ فعّالةٌ لتغييرِ الكثيرِ من الكليشيهات والتنميطات الجاهزةِ بخلقِ فضاءٍ إبداعي وثقافي. لم تنشغلِ المحاضراتُ بشأنِ الحواراتِ وأهميّتِها ولكنّها أيضاً تناولتْ عبر ما أُثيرَ مِنْ قضايا مع الألمان الذين شاركونا محبّةَ اللغة العربية، تناول قضايا تعلّم اللغة العربية للأجيال الجديدة التي ولدتْ في المهاجر. النقاش تعمّق في بؤرة تحتاج إلى بصيرة لا تنسينا التاريخ بل تغوص في الحاضر، حاضر الإنسان.
تأتي أهميّة هذا المعرض في فتح فضاءات مع الآخر، الآخر الذي ليس لدينا مايخفينا في التقرّب منه، فتح نوافذ مشرعة نحو التعرف على الثقافات المختلفة، لن يزولَ الغبار إنْ ظلت الأبوابُ مغلقة، سنغرقُ في عتمة الخوف منه، الآخر الذي تمكّن من تعلّم لغتنا العربية، يحاورنا بها وكأنّه ولدَ من رحمها النضر، ومن هنا كان الحوارُ حول المناهج التي تُدرّسُ بها اللغة والثقافة العربية، هل هي ثراء اللهجات المختلفة أم التركيز على إنّها لغة كونيّة جمعتْ كلّ هؤلاء كما خلقهم الله ليتعارفوا؟ كثيرٌ من المفاهيم والرؤى عصفَتْ بذهني أثناء وبعد محاضرة (دور المؤسّسات الأكاديميّة في تعزيز التفاهم الثقافي بين المجتمعات الألمانية والعربية) وبحكم انخراطي لسنواتٍ طويلة في هذا الجانب الأكاديمي أعرفُ أنّ هناك الكثير الذي يحتاج إلى غربلة، غربلة في المفاهيم، فاللغة العربية أكبر من حصرها في قوالب محدّدة. تعزيز هذا التفاهم يحتاجُ إلى معرفةِ الثقافة العربية وعدم حصرها في القواعد بل عمقها منذ تعلّم حروفِ الهجاء في الطفولة ونكبر معها ثقافةً، تاريخاً وحاضراً. معرفة الثقافات العربية تتيحُ للآخر معرفتنا، معرفة خلفياتنا، تنوّعنا الثر الذي عبرت عنه اللّغة العربية. 
بابها المشرع في البيت الكبير كتاب (جسور لا أسوار) لسعادة الدكتور حمد بن عبدالعزيز الكواريّ. عنوان عبّرَ تماماً عن هدفِ هذا العمل الخلاّق، الحوارُ مدخلٌ أوّل لإزالةِ الأسوار وبناء الجسور، وهذا يتطلّب الاستمرار في الحوار والإيمان بقيمةِ العدالة في عالمنا. الثقافة والإبداع طريقُنا نحو الآخر، الآخر مرآتنا التي نرى فيها حقيقتنا وواقعنا الذي نعشمُ في تغييره ليكونَ جديرًا بالإنسان. 
تجربةُ ثلاثينَ عاماً في العاصمة النمساوية فيينا علّمتني قيمة التشبيك مع الآخر، التشبيك الذي يبني جسوراً مِنَ المحبّة والتفاهم، رغم أنّنا لو تأمّلنا قليلاً لعرفنا أنّ قيمةَ التشبيك في معناه البسيط العميق يبدأ من التفافنا معاً لتناول الطعام، تتشابك أيادينا تقتسمُ الخبزَ حامدةً شاكرة. كانتْ هي أيادي رفيقاتي من الكاتبات، أحد عشرة كاتبة جمعهنّ البيتُ وإدارة الحوار الدكتور أماني الصيفي بعدالة ولطف يشبه المكان. أغلبيتنا مهاجرات، فما أحوجنا للتشبيك، التشبيك بيينا قبل أنْ يكونَ مع الأوربيين، بالتشبيك نبني جسورنا، نعبر إلينا، نبني بيتنا الكبير ونمضي أكثر ثقة نحو الآخر. 
التفاعل كان كبيراً في إحدى محاضرات اليوم الثاني التي أدارتها باقتدار الأستاذة الجامعية الدكتورة عواطف حسون، مدير قسم اللّغة العربية في مركز اللّغات التابع لجامعة هومبولدت في برلين، عن دورِ تعلّم اللّغة العربية في انتشار الكتاب العربي. كيف يمكن للّغة العربية العالمية أن تكون ضمن اللّغات التي يتم تدريسها في المدارس للأطفال لتظل لغةَ أمّ تعبّر عن نواة هويتهم الإنسانية؟ الحوار في هذه المحاضرة أكّد على أهميّة استمراره والتأكيد أنّ الآخر الذي تعلّم لغتنا وشاركنا محبّتها يساهم في ترسيخ كونيّتِها. 
عدتُ إلى فيينا مفعمة بالأمل، محمّلة بالكتب، أعظم الهدايا، فمن أهداني كتاباً أهداني عمراً جديداً، أمامي ساعة لتقلع الطائرة، بدأتُ أقرأ (حين يبوح النخيل) وغرقتُ في تفاصيل طفولةِ الدكتورة القطرية وسيمة الفكرة الروائيّة هدى النعيمي، بدأتُ أتتبّع ذاتَ الزئبق، أشهقُ لبوح النخيل، أبتسمُ مرّةً وأدمع ُمرّات، مالذي أتى بي هنا؟ كنتُ معها في بيت طفولتها ونباهتها الأولى و..... وعلى الركاب التوجّه نحو بوّابةِ المغادرة! لم أكن أرغب في المغادرة إلاّ إلى بيت النخلةِ الدكتورة هدى النعيمي، بيتِ طفولتِها الذي يشبه لحدٍّ كبير بيت طفولتي... بيتنا!

المصدر: العرب القطرية

كلمات دلالية: قطر برلين

إقرأ أيضاً:

سفارتنا بالقاهرة تحتفل باليوم العالمي للغة العربية

القاهرة- العُمانية

نظمت سفارة سلطنة عُمان بالعاصمة المصرية القاهرة احتفالية بعنوان "صالون أحمد بن ماجد" بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية الذي يوافق الـ18 من ديسمبر من كل عام.

وقال سعادة السفير عبد الله بن ناصر الرحبي سفير سلطنة عُمان المعتمد لدى جمهورية مصر العربية ومندوبها الدائم لدى جامعة الدول العربية في كلمته: "نلتقي في صالون أحمد بن ماجد، الذي طاف العالم عبر سفينته ربانًا وعالمًا عربيًا، لنبحر نحن بدورنا عبر صالونه في عوالم متجددة من بحار اللغة العربية، هذه اللغة التي وصفها أديب مصر عباس العقاد باللغة الشاعرة، ونحن نقول إنها اللغة الحية المُبدِعة المُتجدِّدة". وأضاف سعادته أن خدمة العُمانيين للغة العربية لم تكن منحصرة في أولئك اللغويين، بل حمل العُمانيون اللغة العربية على سفنهم، وبنوا جسرًا بينها وبين أفريقيا.

من جهته، أكد فضيلة الدكتور نظير محمد عياد مفتي جمهورية مصر العربية رئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم- في كلمته- أن اللغة العربية وسيلة المُسلم لفهم مقاصد النص القرآني ومعانيه وغاياته الكبرى المتمثلة في تلقي الأحكام الشرعية منه، ولذلك استعان العلماء باللغة العربية وفنونها في فهم مراد الله سبحانه وتعالى في كتابه والكشف عن أسراره، وتحديد دلالاته. وقال فضيلته إن العلماء نظروا إلى هذه اللغة على أنها من الدين حيث إن فهم مراد القرآن الكريم والسنة النبوية من أوجب الواجبات، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، مشيرًا إلى أن اللغة العربية مهمة جدًا للعلوم الشرعية بشكل عام ولعلوم القرآن والتفسير بشكل خاص.

مقالات مشابهة

  • اللغة العربيَّة بوصفها حصناً ثقافيًّا وجوهراً معرفياً
  • افتتاحية.. لحظة اللغة العربية الفاصلة
  • سفارتنا بالقاهرة تحتفل باليوم العالمي للغة العربية
  • صخر الشارخ.. قصة العربي الذي جعل الحواسيب تتحدث بالعربية
  • مكتبة الإسكندرية تنظم ملتقى "حماية التراث الثقافي المغمور بالمياه بالدول العربية" |صور
  • جلسة حوارية بالنادي الثقافي حول "الحفاظ على لغة الضاد"
  • جلسة حوارية تناقش اللغة العربية والذكاء الاصطناعي في النادي الثقافي
  • احتفالية بالقاهرة تبرز إسهام العمانيين في خدمة اللغة العربية
  • انطلاق "الملتقى الإقليمي لحماية التراث الثقافي البحري المغمور بالمياه في الدول العربية" الإسكندرية
  • نقيب الأشراف: معرض الشئون الإسلامية حول إصدارات آل البيت علامة فارقة بالمشهدين الثقافي والفكري