الصراع الاقتصادى بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين
تاريخ النشر: 7th, September 2023 GMT
يشهد النظام الاقتصادى العالمى منذ أزمة الكساد عام ١٩٢٨ صراعات عنيفة، وبرز بشكل واضح صراع الهيمنة والتنافس الجيوسياسى بين عدد من القوى الكبرى، من بينها الولايات المتحدة الأمريكية والصين، اللتان تستعدان لمواجهات خشنة قد تؤثر سلبا على مجمل نمو الاقتصاد العالمى وتهدد بشكل واضح نمو ظاهرة العولمة الكونية، وفى هذا الصدد تتبع الدولتين مجموعة من السياسات الحمائية التى تتناقض كليا مع مقررات التحرر الاقتصادى التى نودى بها فى مؤتمر برايتون ودوز ١٩٤٤.
وتسعى الولايات المتحدة الأمريكية للحد من إنجازات الصين الاقتصادية والتى باتت تهدد مكانة واشنطن كقوة اقتصادية وحيدة مهيمنة على مجمل النظام الاقتصادى والنقدى العالمى بعد الحرب العالمية الثانية.
وتشير التقديرات الأولية أن من شأن هذا الصراع الأمريكى الصينى أن يؤدى الى انكماش بالاقتصادى العالمى يقدر بنحو ١.٥ ٪ وبقيمة ١.٤ ترليون دولار أمريكى على أساس سنوي.
والجدير بالذكر أن وفى عام ٢٠٢٠، بلغ إجمالى تجارة السلع والخدمات بين البلدين، ما يقدر بـ ٦١٥.٢ مليار دولار، وبلغت الصادرات ١٦٤.٩ مليار دولار، بينما بلغت الواردات ٤٥٠.٤ مليار دولار، وفق بيانات التجارة الأمريكية.
ورغم التوترات السياسية والحظر التجارى والتكنولوجي، فإن البلدين يعتبران من أكبر الشركاء التجاريين. وتشير بيانات مصلحة الجمارك الصينية، إلى ارتفاع حجم التبادل التجارى بين البلدين فى عام ٢٠٢١ بنسبة ٢٨.٧ ٪، ليصل إلى ٧٥٥.٦٤ مليار دولار.و تعتمد الولايات المتحدة بشكل مؤثر فى القطاع التكنولوجى على الصين من هواتف ذكية ومعدات خاصة وأجهزة الكمبيوتر وبطاريات الليثيوم أيون، على سبيل المثال.
وتمارس أمريكا صراعها الاقتصادى مع الصين باستخدام مجموعة من القوانين والأدوات العقابية، شملت منع وصول تكنولوجيا مكونات الحاسب الآلى العملاق ومعدات صناعة الرقائق وتكنولوجيا أشباه الموصلات المتقدمة، وفرضت الولايات المتحدة قيود على بيع واستيراد معدات هواوى و«زد تى إي»، وشركات صينية أخرى، وتبنى الرئيس الأمريكى دونالد ترامب عام ٢٠١٨ سياسات حمائية أكثر صرامة بفرض رسوم جمركية بقيمة ٣٦٠ مليار دولار بغرض إعاقة النمو الاقتصادى الصيني، لتبدأ بذلك حرب تجارية، وردت الصين على الجمارك الأمريكية بالمثل لتبلغ حجم هذه الرسوم الجمركية المتبادلة مليارات الدولارات الأمريكية.
وبلغت الرسوم الجمركية حوالى ٣٦ مليار دولار، مما أدى إلى انخفاض الصادرات الصينية من المنتجات التى فرض عليها الجمارك الى الربع، واستفادت من هذه السياسات الجمركية عدد من الأطراف مثل المكسيك ٣.٥ مليار دولار والاتحاد الأوروبى ٢.٧ مليار دولار وفيتنام ٢.٦ مليار دولار وكوريا وكندا والهند ما بين ١-١.٥ مليار دولار وبعض المنتجين الأمريكان بحوالى ١٤ مليار دولار.
واستمرت سياسات إدارة جو بايدن على نفس النهج، وذلك عبر فرض حظر وعقوبات على شركات صينية، وخاصة فى قطاع التكنولوجيا، لا سيما أشباه الموصلات، وبذلك امتدت الحرب التجارية إلى حرب تجارية تكنولوجية عنيفة.
وأصدرت حكومة الولايات المتحدة الأمريكية قانونين غاية فى الأهمية مثل (قانون خفض التضخم) و(قانون الرقائق الإلكترونية والعلوم) تشيس آكت.
وطبقا لهذه القوانين رصدت مبالغ مالية ضخمة من بينها ٥٣ مليار دولار لدعم صناعة أنتاج أشباه الموصلات على الأراضى الأمريكية، بالإضافة الى ٤٣٠ مليار دولار لدعم الشركات المصنعة لبطاريات السيارات الكهربائية والألواح الشمسية شرط أن يتم هذا الإنتاج فى مصانع ومراكز أبحاث بالأراضى الأمريكية، ويهدف من هذه الإجراءات استبعاد الشركات الصينية من مجالات الاقتصاد الأخضر وخاصة مجالات البحث واستنباط التكنولوجيا النظيفة وتصميم وإنتاج وسائل توليد الطاقة الجديدة.
هذه الأرصدة المالية التى رصدت لن تعوض الشركات الأمريكية عن خسائرها جراء فقدان أسواق عملاقة مثل الأسواق الصينية.
وتوسع الولايات المتحدة الآن حربها الاقتصادية غير المحدودة على الصين، من خلال التعريفات الجمركية، وضوابط التصدير، والقيود المفروضة على الاستثمار الأجنبى ونقل التكنولوجيا.
تهدد الحرب التجارية والتكنولوجية الراهنة بانهيار النظام الاقتصادى العالمى، وتؤكد فشل البنك الدولى وصندوق النقد الدولى ومنظمة التجارة العالمية، وتعيد للأذهان مناخ السياسات الحمائية الذى ساد بعد أزمة الكساد العالمى والتى تسببت فى اندلاع الحرب العالمية الثانية، مما سوف يكون له آثار دراماتيكية على الاقتصاد العالمى وخاصة على الجزء الضعيف فى هذا النظام وهى بالتأكيد دول العالم النامي.
ويواجه حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية موقفا يصعب قبوله فى اتخاذ موقف داعم للولايات المتحدة الأمريكية فى صناعة من المتوقع أن يصل حجم مساهمتها إلى تريليون دولار بحلول العام ٢٠٣٠، وسوف تمثل الصين ٤٠ ٪ منها تقريبًا.
وفى هذا الإطار يمكن فهم طبيعة وأسباب أزمة تايوان والتى أدت الى تفاقم التوترات الجيوسياسية فى المحيط الهادي، فى إطار فهم أن تايوان تمثل ٨٠ ٪ من حجم صناعة الرقائق المتقدمة فى العالم.
وتشهد القارة الأفريقية جزء من هذه المواجهة الصينية الأمريكية واحتواء النفوذ الصينى المتزايد، وخاصة فى البلدان الغنية بأنواع المعادن اللازمة لإنتاج التقنيات الخضراء المستقبلية ومصادر الطاقة. هذه السياسات والإجراءات الأمريكية، قد تنجح على المدى القصير، لكنّ الأمر يختلف على المدى الأبعد، فى ضوء ما يمثله تبادل الحظر الاقتصادى والتكنولوجى من تداعيات سلبية واسعة على جميع أطراف النظام الاقتصادى العالمى وفى المقدمة منها الصين والولايات المتحدة الأمريكية
د. نور ندا: أستاذ الاقتصاد بأكاديمية السادات للعلوم الإدارية والأستاذ الزائر بجامعة التمويل الروسية بموسكو
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: الولايات المتحدة الأمريكية والصين النظام الاقتصادي العالمي الولایات المتحدة الأمریکیة ملیار دولار
إقرأ أيضاً:
أزمة الصحة العالمية.. حين تتراجع أمريكا وتتردد الصين
ترجمة: نهى مصطفى -
يخشى منتقدو قرارات إدارة ترامب المبكرة بشأن الصحة العالمية، بما في ذلك الانسحاب من منظمة الصحة العالمية وتجميد برامج الصحة الدولية الممولة من الولايات المتحدة، أن تؤدي هذه الخطوات إلى تراجع الدور القيادي الأمريكي لصالح الصين. ويرون أن ذلك سيضعف النفوذ الأمريكي بينما يعزز مكانة بكين.
في ظل غياب دعم مستدام للمؤسسات الدولية والبرامج الصحية في الدول الأكثر فقرًا، سيؤدي هذا الانسحاب إلى فراغ يهدد الأمن الصحي العالمي. والخطر الأكبر ليس أن تحل الصين محل الولايات المتحدة في قيادة الصحة العالمية، بل أن يبقى هذا الدور شاغرًا تمامًا.
لكن الواقع أكثر خطورة. فالتراجع المستمر للولايات المتحدة في مجال الصحة العالمية يمنح الصين فرصة لاستغلال الانسحاب المفاجئ وغير المنظم للبرامج الأمريكية في بعض المناطق الاستراتيجية. وقد بدأت الصين بالفعل في تقديم تمويل بديل في جنوب شرق آسيا، وربما تفعل الأمر نفسه في أمريكا اللاتينية. ومع ذلك، في معظم المناطق التي تعتمد على المساعدات الأمريكية، وخاصة تلك الأكثر عرضة للأوبئة، لن تسد الصين هذا الفراغ. إذ تركز بكين مساعداتها على تعزيز نفوذها لدى شركائها الاستراتيجيين، دون رغبة في تحمل مسؤولية الدور الأمريكي في الوقاية من أخطر الأمراض ورصدها ومكافحتها.
على مدار 25 عامًا، ساهم التمويل الأمريكي، إلى جانب النفوذ الدبلوماسي والخبرة الفنية، في تحقيق تقدم كبير في مجال الصحة العالمية. إذ أطلقت الولايات المتحدة ومولت عددًا من المؤسسات والبرامج الدولية التي تستهدف أمراضًا تعجز الدول الفقيرة عن مكافحتها بمفردها، نظرًا للحاجة إلى حلول طبية تتطلب نطاقًا واسعًا وبنية تحتية لا يمكن توفيرها إلا من خلال تحالف دولي. ورغم أن دعم الولايات المتحدة للصحة العالمية يشكل نسبة ضئيلة من ميزانيتها الفيدرالية، إلا أنه يمثل جزءًا كبيرًا من تمويل الصحة الدولي. ففي عام 2023، بلغ الإنفاق الصحي العالمي للولايات المتحدة نحو 0.3% من ميزانيتها الفيدرالية (20.6 مليار دولار من أصل 6.1 تريليون دولار). ومع ذلك، كانت الولايات المتحدة مسؤولة عن ما يقرب من ثلاثة أرباع المساعدات الإنمائية الدولية لمكافحة فيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز، و40% من مساعدات مكافحة الملاريا، وأكثر من ثلث تمويل التصدي لمرض السل. وحتى هذا العام، كانت الولايات المتحدة أكبر ممول لمنظمة الصحة العالمية، وأكبر مزود للقاحات لمبادرة كوفاكس متعددة الأطراف، كما لعبت دورًا محوريًا في إنشاء «صندوق الأوبئة»، وهو أداة تابعة للبنك الدولي تستثمر في الدول منخفضة الدخل لمنع تفشي الأمراض المعدية.
توفّر المساعدات الأمريكية لقاحات وعلاجات منقذة للحياة لملايين الأشخاص في أفقر دول العالم، عبر برامج مثل منظمة الصحة العالمية، وتحالف «جافي»، والصندوق العالمي لمكافحة الإيدز والسل والملاريا. يعتمد 21 مليون مصاب بالإيدز على «بيبفار» للحصول على العلاج، بينما تساعد «جافي» في تحصين 70 مليون طفل سنويًا. تذهب معظم المساعدات الصحية الأمريكية إلى إفريقيا جنوب الصحراء، حيث ساهمت في خفض وفيات الإيدز بنسبة 50% منذ 2003، وتقليص وفيات السل والملاريا بمقدار الثلث. كما تعزز المساعدات الأمريكية قدرة العالم على التصدي للأوبئة، إذ ساهمت في تطوير أنظمة تتبع الأمراض في 90 دولة، ومولت مختبرات وأبحاثًا ساعدت في اكتشاف كوفيد-19 مبكرًا، ومنعت تفشي إيبولا في نيجيريا عام 2014. بالإضافة إلى ذلك، دعمت الأبحاث التي أدت إلى تطوير لقاح حمى الضنك.
مع انسحاب الولايات المتحدة من الصحة العالمية، بدأت الصين في استغلال الفراغ. في نيبال، طمأن المسؤولون الصينيون السياسيين المحليين بأن بكين «مستعدة للمساعدة». في كمبوديا، أعلنت عن برامج لصحة الأطفال والتغذية والصرف الصحي، وقدمت منحة بـ 4.4 مليون دولار لإزالة الألغام بعد ستة أسابيع من تجميد ترامب تمويل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية. في بنجلاديش، أشار مدير جمعية محلية إلى الحاجة لتنويع التمويل، معتبرًا الصين «صديقة جيدة».
ورغم خطابها الطموح، لم تُعطِ الصين الأولوية للبرامج متعددة الأطراف أو مكافحة الأمراض العابرة للحدود، ولها علاقة متوترة مع منظمة الصحة العالمية. خلال تفشي السارس 2002-2003، أخفت الصين معلومات عن المرض لعدة أشهر، ما أدى إلى انتشاره في 29 دولة ووفاة 800 شخص، ودفع منظمة الصحة العالمية إلى إصدار أول تحذير سفر في تاريخها.
ولتدارك الضرر الذي لحق بسمعتها، عززت الصين تعاونها مع منظمة الصحة العالمية بعد الأزمة. فانضمت إلى شبكة المختبرات الافتراضية التابعة للمنظمة، وساهمت في إعادة صياغة لوائحها الصحية الدولية، واستثمرت في أنظمة مراقبة الأمراض. وفي عام 2006، أصبحت مارجريت تشان، المديرة السابقة للصحة في هونج كونج، أول مواطنة صينية تتولى منصب المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، ما منح الصين نفوذًا غير مسبوق داخل المنظمة.
وقد أثمرت هذه العلاقات الوثيقة مكاسب سياسية واضحة للصين. فمنذ عام 2017، وتحت ضغوط صينية، استبعدت منظمة الصحة العالمية تايوان من حضور اجتماعات جمعية الصحة العالمية كمراقب. وفي العام نفسه، وقّعت المنظمة اتفاقية مع الصين لتنفيذ أجندة التنمية الصينية ومبادرة الحزام والطريق. أما في 2019، فقد أدرجت منظمة الصحة العالمية الطب الصيني التقليدي ضمن تصنيفها الدولي للأمراض، في خطوة أثارت جدلًا واسعًا في الأوساط العلمية والطبية.
عند تفشي فيروس كورونا في ووهان يناير 2020، امتنعت منظمة الصحة العالمية عن انتقاد استجابة بكين. بسبب ضغوط صينية مزعومة، تأخر إعلان الطوارئ الصحية أسبوعًا، فيما تباطأت الصين في الاعتراف بانتقال العدوى وتقديم عينات بيولوجية. رغم ذلك، أشاد مسؤول في المنظمة بـ«انفتاح» بكين.
داخل الصين، اكتسب المدير العام للمنظمة، تيدروس جيبريسوس، لقب «السكرتير تان»، لكن مواقفه أثارت استياء واشنطن. في أبريل 2020، علّق ترامب تمويل المنظمة ثم أعلن الانسحاب، متهمًا إياها بالتحيز للصين. استغلت بكين الموقف، متعهدةً بـ 30 مليون دولار إضافية. لاحقًا، وتحت ضغط أمريكي، أقرّ تيدروس بأن التحقيق في أصول كوفيد-19 لم يستبعد فرضية التسرب من مختبر، ما دفع الصين لرفض التعاون واتهامه بالتحيز لأمريكا. استمرت التوترات بين الصين ومنظمة الصحة العالمية بعد الجائحة. ففي 2023، رفضت بكين زيادة مساهماتها المالية بنسبة 20%، وزُعم أن تيدروس تجاهل مرشحها لمنصب مساعد المدير العام. كما أبدت فتورًا تجاه معاهدة جديدة حول الجائحة، حيث اكتفت بإرسال مسؤولين من رتب متدنية إلى المفاوضات.
ومع تعهد ترامب بالانسحاب من المنظمة مجددًا في يناير، لم تُبدِ الصين استعدادًا لملء الفراغ. ففي فبراير، أعلنت معارضتها لزيادة رسوم العضوية، رغم أنها ستصبح أكبر مساهم إلزامي حال انسحاب واشنطن. ومع ذلك، نظرًا لأن الرسوم الإلزامية لم تشكل سوى 12% من ميزانية المنظمة في 2023، فمن غير المرجح أن تغطي بكين الفجوة التي ستخلفها الولايات المتحدة. من غير المرجح أن تسد الصين الفجوة المالية في المؤسسات متعددة الأطراف، إذ تفضل النهج الثنائي. قبل الجائحة، أنفقت 600-800 مليون دولار سنويًا على المساعدات الصحية، لكن 10% فقط عبر القنوات الدولية.
ظلت مساهماتها في تحالف «جافي» متواضعة، إذ قدمت 25 مليون دولار فقط منذ 2016، مقارنةً بأكثر من ملياري دولار من الولايات المتحدة خلال خمس سنوات. كما لم تتجاوز مساهمتها في الصندوق العالمي 90 مليون دولار، مقابل 26 مليار دولار أمريكيًا. أما في صندوق الأمم المتحدة لمكافحة إيبولا، فقدمت 47 مليون دولار فقط (1% من الإجمالي العالمي)، بينما دفعت الولايات المتحدة 1.8 مليار دولار ( 49%).
رغم سعي الدول والمنظمات الدولية للحصول على دعم الصين لتعويض التمويل الأمريكي، فإن الاتجاهات تشير إلى أنها لن تحصل عليه. في 2023، تراجعت المساعدات الثنائية الصينية للصحة إلى أدنى مستوى منذ 2010، وتركزت أكثر على المصالح الوطنية. اتجهت بكين لدعم دول مبادرة الحزام والطريق، محولة مساعداتها من مكافحة الملاريا في إفريقيا إلى استثمارات بنية تحتية في جنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية. ومع ذلك، لا تزال تدعم بعض المشروعات في إفريقيا، مثل مقر المراكز الأفريقية لمكافحة الأمراض في أديس أبابا وتقنيات مراقبة الأمراض.
في جائحة كوفيد-19، ركزت الصين تبرعاتها على الدول المجاورة، حيث تلقت جنوب شرق آسيا وجنوب آسيا والمحيط الهادئ 75% من جرعات اللقاح الصينية. كما حصلت دول مثل جيانا ونيكاراجوا على اللقاحات بعد تعزيز علاقاتهما مع بكين بشأن تايوان. في المقابل، وجهت إدارة بايدن لقاحاتها للمناطق ذات معدلات الوفيات الأعلى (أمريكا اللاتينية) أو الإمدادات الأضعف (إفريقيا جنوب الصحراء).
عندما تنتهي مراجعة إدارة ترامب للمساعدات الخارجية الأمريكية التي تستمر 90 يومًا في 19 من أبريل، من غير الواضح ما الذي سيبقى من النظام البيئي الصحي العالمي الذي بنته القيادة الأمريكية بشق الأنفس على مدى السنوات الخمس والعشرين الماضية. أولًا، مهما فعلت الولايات المتحدة تاليًا، فإن الاضطراب الذي بدأته سيستمر في الانتشار. انسحبت الأرجنتين، على غرار ترامب، من منظمة الصحة العالمية في وقت سابق من هذا الشهر، وأفادت التقارير أن المجر وروسيا ستقومان بالشيء نفسه. أعلنت المملكة المتحدة، أكبر مانح لتحالف جافي، مؤخرًا أنها ستخفض مساعداتها الإنمائية من 0.5% من الناتج المحلي الإجمالي إلى 0.3% بحلول عام 2027 من أجل زيادة الإنفاق الدفاعي ردًا على التزام الولايات المتحدة المتذبذب تجاه أوكرانيا. اقترحت حكومة الأقلية الفرنسية التي تعاني من ضائقة مالية خفض ميزانية مساعداتها بنسبة تصل إلى 40%. قد تجد الحكومة الألمانية المنتخبة مؤخرًا صعوبة في الحفاظ على التزام ألمانيا تجاه منظمة الصحة العالمية وسط تزايد الضغوط الاقتصادية وزيادة الإنفاق الدفاعي.
في ظلّ تراجع ثقة المستهلك، وأزمة عقارية طويلة الأمد، وحرب تجارية متصاعدة مع الولايات المتحدة، أشارت الصين إلى أنها ستُركز أموالها بشكل أقل على المساعدات الخارجية، وبشكل أكبر على تعزيز «التنمية عالية الجودة والأمن رفيع المستوى» في الداخل. ورغم أن مؤسسة جيتس تُعدّ مصدرًا محتملًا للتمويل الإضافي، إلا أنها تُفضّل تقليديًا المساهمات المُخصصة (مثل تلك المُخصصة لاستئصال شلل الأطفال) بدلًا من الدعم العام لعمليات منظمة الصحة العالمية. وتستكشف الحكومات المحلية سبل تحمّل المزيد من العبء، ولكن قد لا يكون ذلك مُمكنًا في كل مكان، لا سيما في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، حيث يُنفق البلدان، في المتوسط، 92 دولارًا أمريكيًا فقط للفرد على الصحة سنويًا.
في ظل تعطل المساعدات الأمريكية، قد تستغل الصين الفرصة لتعزيز نفوذها في جنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية، لكن الخطر الأكبر هو أن الدعم الأمريكي للصحة العالمية لن يُستبدل. قد تستمر بعض البرامج مثل توزيع الناموسيات وعلاجات فيروس نقص المناعة، لكن تفكك برامج الأمن الصحي الأمريكي وأزمة التمويل في المؤسسات الصحية الدولية يهددان منظومة الوقاية والكشف والاستجابة للأمراض. يؤدي هذا إلى خلق فجوات تتيح انتشار الأمراض قبل وصولها إلى الولايات المتحدة، ما يمنح الأمريكيين شعورًا زائفًا بالأمان – حتى فوات الأوان.
توماس ج. بوليكي أول رئيس كرسي بلومبرج للصحة العالمية في مجلس العلاقات الخارجية CFR، يدير برنامج الصحة العالمية.
يانزونج هوانج زميل بارز في مجال الصحة العالمية في مجلس العلاقات الخارجية.
نشر المقال في Foreign Affairs