فتاوى يجيب عنها فضيلة الشيخ د. كهلان بن نبهان الخروصي مساعد المفتي العام لسلطنة عمان
تاريخ النشر: 7th, September 2023 GMT
هل هناك إشارة أو دلالة معينة على تقديم كلمة للناس في آية الإسراء: «وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَِذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَىٰ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا» وبين تأخيرها في سورة الكهف: «وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا»؟
هناك نكت بلاغية ظاهرة في هذا التقديم والتأخير لكلمة «للناس» بين آيتي سورة الإسراء وسورة الكهف، وبيان ذلك ابتداء هو أن سورة الإسراء تتحدث عن الناس بمختلف مواقفهم وفئاتهم، وتوجه الخطاب إليهم في المقام الأول، وتنصب لهم الكثير من الأمثال بما فيها الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم تنبيها وتحذيرا ولأن موضوعها الأول هو الإنسان والناس فإننا نجد التقدمة لذكر الناس في قوله تبارك وتعالى: «وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَىٰ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا»، أما الموضوع الأظهر لسورة الكهف فهو القرآن الكريم فبه ابتدأت، بقوله تعالى: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا» ثم ذكر في هذه السورة جملة من الأمور الغيبية التي لا تقوم الحجة فيها إلا بما أظهره كتاب ربنا تبارك وتعالى من قصة أصحاب الكهف ومن قصة ذي القرنين، ومن قصة موسى مع العبد الصالح عليهم السلام، فلأن موضوعها القرآن الكريم كانت التقدمة في هذه الآية الكريمة للقرآن، ولذلك قال في سورة الكهف: «وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا» إذن التقديم والتأخير بداية يتناسب مع موضوعات كل سورة منهما.
والوجه الآخر هو أنه في سورة الإسراء تقدمة هذه الآية الكريمة قول الله تبارك وتعالى: «قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا» فقد تقدم ذكر أن الإعجاز والبيان والهداية والتحدي متجهة إلى الإنس والجن بالإتيان بمثل هذا القرآن، فلما قدم ذكر الثقلين الإنس والجن، نصب التحدي في حق الإنس لأنهم المعنيون بالخطاب، ولبيان شرفهم ومنزلتهم، ولإقامة الحجة عليهم، بعد أن ذكر الإجمال، ذكر جنسا منهم يقيم عليهم الحجة ويريد أن يظهر فضلهم وشرفهم فقال: «وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ».
والوجه الآخر في هذه الآية الكريمة أيضا أن ذكر الناس تأخر، فمرة أخرى قال في نفس الآية الكريمة: « فَأَبَىٰ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا» فلو أن ذكر الناس تأخر، لتقارب مع ذكر الناس في آخر الآية فأدى ذلك إلى الثقل، أو أن يستبدل بالاسم الظاهر الضمير، وهذا يفوت المقصود من نصب الحجة والدعوة إلى التحدي وكشف حقيقة هذا الإنسان.
أما سورة الكهف التي تقدم آية «وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ» تقدمها قوله تعالى: «وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا» فالذي يتقدمها يتعلق بما لا سبيل إلى معرفته إلا في كتاب الله عز وجل ومنه ما يتعلق باليوم الآخر، فناسب ذلك مع موضوع السورة كلها ومع السياق الذي وردت فيه إذ لم يتقدم ذكر للثقلين، وإنما كل الذي يتقدم يتعلق بما في القرآن الكريم، فقدم ذكر القرآن الكريم لأنه الأهم، هذه من أبرز الوجوه التي كان بها التقديم للناس في الإسراء، والتقديم لهذا القرآن في سورة الكهف والله تعالى أعلم.
الملاحظ أن المسلمين الذين فتحوا تقريبا ثلثي العالم لم يعمدوا إلى نشر اللغة العربية وفرضها على الشعوب التي وصلوا إليها إنما فقط بقدر ما تحقق لهم أمور العبادة، هل سبب ذلك لأن المسلمين لا يمتلكون استراتيجية معينة تسعى إلى فرض لغتهم، أم أن الإسلام يدعو إلى المحافظة على الهويات اللغوية ولا يسعى إلى التدخل فيها؟
هي ليست بانعدام الاستراتيجية، وإنما لأن هذا الدين يريد أن يبني عقيدة راسخة في النفوس، ليجعل من هذه العقيدة موجهة لهذا الإنسان في مسيره في هذه الحياة فعلا وتركا، التزاما وخلقا، ليكون بعد ذلك ما ينطبع على نفسه ما هو إلا أثر لهذه العقيدة ولطاعته لربه تبارك وتعالى، فهذا الدين يمكن الالتزام به والقيام بما يفرضه دون اشتراط أن يتعلم صاحبه العربية إلا بالقدر الذي يؤدي به العبادات، ومع ذلك فإن اللغة لم تكن أبدا حاجزا من انتشار الإسلام وقبول الناس له، وبراعتهم في علومه، فنحن نجد أن كثيرا من علماء الإسلام والعربية والتفسير، والسنة النبوية، هم من غير العرب، وهم من أبرع العلماء وأكثرهم تحقيقا وتدقيقا في هذه العلوم، وما ذلك إلا لأن الدين خالط قلوبهم فصاغ منهم أناسا لهم رؤيتهم، ولهم ما يدفعهم إلى العناية بعقيدتهم، وبإيمانهم الذي دخلوا فيه، وهذا الدين الذي التزموا به، ولذلك نجد أن الشعوب التي دخلت في الإسلام، من الشعوب من اختار أن تكون العربية لسانه، ومن الشعوب من اختار أن تكون العربية رسم حروفه، ومن الشعوب من اختار الأمرين معا، ومن الشعوب من لم يلتزم، فأخذ رسم الحرف فقط دون الكلمات، كل هذا يثبت عالمية هذا الدين، وأن البشرية جميعا قابلة له، متمكنة منه وأن الله تعالى يسره للعالمين لأن شواهد التاريخ تثبت ذلك من أقصى شرق الصين إلى أدغال إفريقيا إلى أقصى العالم الغربي المعمور، إلى الشمال والجنوب في الكرة الأرضية، نجد أن أناسا وشعوبا وقبائل وأفرادا قبلوا هذا الدين وتمكنوا منه وظهر منهم علماء ونوابغ، ولم تكن اللغة أبدا حاجزا لا في قبوله ولا في الإتقان فيه والإبداع في علومه والإتيان بتحقيقات رائعة من مختلف أقطار هذه الأرض، ولا نجد أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يدعو الأمم التي خاطبها إلى أن تلتزم اللغة العربية أما القدر الذي يحتاج إليه الناس جميعا لأداء عباداتهم فهذا هو القدر اللازم عليهم، وأما ما سوى ذلك فإن هؤلاء الذين دخلوا في هذا الدين هم الذين كانت نفوسهم تدفعهم للاستزادة من هذه اللغة التي اختارها الله تبارك وتعالى وعاء لهذا الدين.
وأذكر في اجتماع مجمع الفقه الإسلامي الأخير لمناقشة قضية لما ظهر من دعوات غريبة لقراءة القرآن وكتابته في الصلاة وفي غيرها، إلى قراءته ورسمه باللغات القومية والمحلية، مع حفظ نطق كلماته، أو مع الإتيان بترجمة معانيه، وأكثر المسلمين اليوم هم من غير العرب في الحقيقة، فذكروا أن تعلم هذه المعاني وحفظها بلغاتهم القومية أصعب بكثير من تعلم سور القرآن الكريم باللغة العربية، فمثلا أن يتعلم الفاتحة نطقا وحفظا باللغة العربية هو أسهل بكثير جدا من أن تترجم له المعاني إلى لغته، ثم يحفظ نطقها بلغته الأم، وأن ذلك يستغرق أياما في حين أن تعلمه لسورة الفاتحة مثلا قد لا يستغرق إلا ساعات، وذكروا شواهد ممن دخلوا الإسلام حديثا، أنه يؤتى إليه بالترجمة ويؤتى إليه بنص الآيات الكريمة التي يتعلمها، فيعلم هذه اللغة ويحفظ العربية، فيكون حفظه للعربية ونطقه لها أسهل وأسرع من اللغة الأم التي يتحدث بها بلسانه، فلذلك لم نشهد دعوى أننا نحتاج أن نعرف العالم اليوم بالقرآن الكريم وبعلوم هذا الدين تستدعي منا أن ننقل هذا إلى اللغات، فهذه دعوى فارغة، لأن تاريخ الإسلام يشهد على خلاف ذلك، فالذين دخلوا في هذا الدين منذ القرون الأولى إلى يومنا هذا، هم من مختلف القارات ومن مختلف الشعوب والقبائل وبمختلف الألسن، ولم تكن اللغة عقبة أبدا في سبيل قبولهم لهذا الدين، بل وفي سبيل إبداعهم في علومه ومعارفه.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: القرآن الکریم اللغة العربیة من الشعوب من ذ ا ال ق ر آن سورة الکهف هذا الدین فی سورة فی هذه
إقرأ أيضاً:
الفرق بين ترتيب النزول وترتيب المصحف
أجابت دار الإفتاء المصرية، عن سؤال ورد إليها عبر موقعها الرسمي مضمونه: "ما هو الفرق بين ترتيب النزول وترتيب المصحف في القرآن العظيم؟".
وردت دار الإفتاء موضحة أن جمهور العلماء على أن ترتيب المصحف -أي ترتيب السور- وترتيب النزول أمرٌ توقيفيٌّ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وهناك من يقول إن ترتيب النزول توقيفيٌّ على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن القرآن كان ينزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مُنجَّمًا فيقول لأصحابه وكتبة وَحْيِهِ أن يضعوا هذه الآية في المكان كذا من سورة كذا، واجعلوا هذه السورة بعد سورة كذا، أما ترتيب المصحف فبعضه توقيفي وبعضه اجتهادي.
- إخلاص النية لله -عزّ وجل- عند قراءة القرآن الكريم.
- التسوك؛ كما ورد في السنة النبوية، بحيث يبدأ من الجانب الأيمن من فمه.
- الطهارة؛ فإذا قرأ القرآن محدثًا جاز له ذلك، وإن كان القارىء بفعله هذا قد ارتكب المكروه، وترك الأفضل.
- قراءة القرآن الكريم في مكان نظيف؛ ولذلك يُستحب القراءة في المسجد؛ لكونه نظيفًا، بالإضافة إلى أنه محصل لفضيلة أخرى هي الاعتكاف؛ ولكن لا بدّ من الإشارة إلى أنه قبل دخول المسجد يُفضل أن ينوي المسلم الاعتكاف.
- استقبال القبلة عند قراءة القرآن الكريم، والجلوس بخشوع ووقار، ولا بدّ من الإشارة إلى جواز القراءة في حالة الوقوف، أو الاستلقاء، ولكن أجر قراءة الجلوس أفضل.
- الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، قبل الشروع بالقراءة، وذلك بقوله: «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم»، أو يزيد عليها بقوله: «من همزه ونفخه ونفثه».
- البسملة بقول:«بسم الله الرحمن الرحيم» في بداية كل سورة من سور القرآن الكريم، باستثناء سورة البراءة.
- ترديد الآيات القرآنية للتدبر، فإذا مرّ بآية من آيات العذاب، استعاذ بالله من شر العذاب؛ فيقول: «اللهم أني أسألك العافية»، وإذا مرّ بآية تنزيه نزه الله؛ فيقول: «سبحان الله، أو تبارك الله وتعالى».
- تعظيم القرآن الكريم بتجنب الحديث أثناء تلاوته، وتجنب النظر إلى ما يشتت الذهن.
- قراءة القرآن الكريم من المصحف أفضل من قراءته غيبًا؛ لأن النظر في المصحف عبادة يؤجر عليها القارئ؛ حيث تجتمع القراءة والنظر.
- تجنب ترقيق الصوت أثناء القراءة.
- التوقف عن القراءة عند التثاؤب حتى يزول.
- تشفي الإنسان من الحيرة التي تصيبه، كما أنّ قراءته تبعد عن اليأس والإحباط.
- يبين المساواة بين الرجل والمرأة في التكليف، والتشريف، والمسئولية.
- يبعد الإنسان عن الخوف، والخرافات، والأوهام.
- يقدم تفسيرًا دقيقًا للحياة، والكون، والإنسان.
- يبعد الإنسان عن جميع أنواع الشبهات.
- يلقي في قلب القارئ الطمأنينة والسكينة.