لجريدة عمان:
2025-02-01@23:50:07 GMT

الإحاطة في كتاب الله

تاريخ النشر: 7th, September 2023 GMT

الإحاطة في كتاب الله

المبحر في كتاب الله، تمر به معان وألفاظ يتلمس جمالها ويبحث في دلالاتها ويحاول أن يفهمها من خلال سياقها واستخدام مساقاتها في حياته اليومية، ومن تلك المعاني معنى الإحاطة، التي لها مشتقات كثيرة منها الحائط الذي يكون حول المنزل أو المزرعة، ومنه أيضا القول المشهور: «أحاط به إحاطة السوار بالمعصم» وللقرآن الكريم استخداماته الخاصة من خلال سياقاته البديعة، التي تسبغ على المعنى دلالات إضافية فللكتاب الحكيم سياقاته المعجزة، وتراكيبه البيانية المبهرة.

فلو تأملنا قوله تعالى في سورة البقرة: «أَوۡ كَصَیِّبࣲ مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ فِیهِ ظُلُمَـٰتࣱ وَرَعۡدࣱ وَبَرۡقࣱ یَجۡعَلُونَ أَصَـٰبِعَهُمۡ فِیۤ ءَاذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَ ٰ⁠عِقِ حَذَرَ ٱلۡمَوۡتِۚ وَٱللَّهُ مُحِیطُۢ بِٱلۡكَـٰفِرِینَ» لوجدنا أن الله عز وجل يصور لنا حالة عدم الاستقرار التي يعيشها المنافقون فهم عندما يستمعون إلى القرآن لفساد فطرهم واعتلال ذواتهم يخافون من القرآن الذي ينزل على الرسول صلى الله عليه وسلم فهم ينظرون إلى المطر ليس على أنه رحمة وخصب وطمأنينة، وإنما ينظرون إليه بتوجس وخيفة لما يحتويه من ظلمات ورعد وبرق، فهم يجعلون أصابعهم في آذانهم خوفا من الصواعق وحذرا من الموت، وهذا حالهم عندما كانوا يستمعون إلى القرآن الذي ينزل على الرسول صلى الله عليه وسلم، وخاصة إذا كان الأمر يتعلق بالقتال، فقد حكى الله عنهم هذا الأمر في سورة محمد فقال تعالى: «وَیَقُولُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَوۡلَا نُزِّلَتۡ سُورَةࣱۖ فَإِذَاۤ أُنزِلَتۡ سُورَةࣱ مُّحۡكَمَةࣱ وَذُكِرَ فِیهَا ٱلۡقِتَالُ رَأَیۡتَ ٱلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِم مَّرَضࣱ یَنظُرُونَ إِلَیۡكَ نَظَرَ ٱلۡمَغۡشِیِّ عَلَیۡهِ مِنَ ٱلۡمَوۡتِۖ فَأَوۡلَىٰ لَهُمۡ»، ولكن الله عالم بخفايا نفوسهم محيط بهم، وإحاطته جل وعلا بعلمه بهم، وقدرته عليهم، فلا فائدة من اتقائهم الموت، ولو أراد لهم ذلك لكن من غير سبب.

وبين الله لنا أن الواحد الذي يملك العلم المطلق، فقال تعالى في آية الكرسي: «ٱللَّهُ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡحَیُّ ٱلۡقَیُّومُۚ لَا تَأۡخُذُهُۥ سِنَةࣱ وَلَا نَوۡمࣱۚ لَّهُۥ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِۗ مَن ذَا ٱلَّذِی یَشۡفَعُ عِندَهُۥۤ إِلَّا بِإِذۡنِهِۦۚ یَعۡلَمُ مَا بَیۡنَ أَیۡدِیهِمۡ وَمَا خَلۡفَهُمۡۖ وَلَا یُحِیطُونَ بِشَیۡءࣲ مِّنۡ عِلۡمِهِۦۤ إِلَّا بِمَا شَاۤءَۚ وَسِعَ كُرۡسِیُّهُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضَۖ وَلَا یَـُٔودُهُۥ حِفۡظُهُمَاۚ وَهُوَ ٱلۡعَلِیُّ ٱلۡعَظِیمُ» فعلمه يحيط بمستقبل الخلق، وماضيهم، ولا يحيطون أو يدركون من علمه شيء إلا بما شاء هو أن يعلمهم إياه. وقد أورد الله هذا المعنى أيضا في سورة طه فقال تعالى: «يَعلَمُ ما بَينَ أيديهِم وَما خَلفَهُم وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلمًا».

وفي موضع آخر نجد أن القرآن الكريم يستعرض أحوال المنافقين فقال في آل عمران: «إِن تَمۡسَسۡكُمۡ حَسَنَةࣱ تَسُؤۡهُمۡ وَإِن تُصِبۡكُمۡ سَیِّئَةࣱ یَفۡرَحُوا۟ بِهَاۖ وَإِن تَصۡبِرُوا۟ وَتَتَّقُوا۟ لَا یَضُرُّكُمۡ كَیۡدُهُمۡ شَیۡـًٔاۗ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا یَعۡمَلُونَ مُحِیطࣱ» فإن أنعم الله على المؤمنين بنصر أو خصب أو خير فإنهم يستاؤون بذلك ويدخلهم الحقد، وإن تصب المؤمنين مصيبة يفرحوا بها، ويظنون أن الله لا يعلم ما يعملون، ولكن الله محيط بهم وبأعمالهم عالم بها متمكن منها، وقد ذكرهم المولى عز وجل في سورة النساء أيضا فقال: «یَسۡتَخۡفُونَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَلَا یَسۡتَخۡفُونَ مِنَ ٱللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمۡ إِذۡ یُبَیِّتُونَ مَا لَا یَرۡضَىٰ مِنَ ٱلۡقَوۡلِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا یَعۡمَلُونَ مُحِیطًا» فهم يخفون كفرهم وقبائحهم ولا يظهرونها أمام الناس، بينما يلا يراقبون الله الذي يطلع على سرائرهم ويعلم خفاياهم، وهو محيط بما يعملون، متمكن منهم مدرك لأحوالهم.

وكذلك الله محيط بأعمال المشركين عالم بها، فقال الله تعالى في سورة الأنفال: «وَلا تَكونوا كَالَّذِينَ خَرَجوا مِن دِيارِهِم بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبيل اللهِ وَاللهُ بما يَعمَلونَ مُحيط» وقد نزلت هذه الآية في مشركي بدر الذين نجت قافلتهم، ولكنهم كبرا وبطرا ولأجل أن تسمع بهم العرب، قالوا بأنهم سيقيمون ببدر ثلاثة أيام ينحرون فيها الجزون ويشربون الخمر، وتغني لهم القيان، حتى تسمع العرب بهم فلا يزالون يهابونهم، ولأجل محاربة الدين الحق، ولكن الله محيط بهم متمكن منهم، وقد مكن منهم أولياءه من المؤمنين فهزموهم في معركة بدر.

وأوضح الله مصير المنافقين والمشركين، فإنهم وإن أمهلهم في هذه الحياة الدنيا فإن مصيرهم ومستقرهم في نار جهنم، فقال تعالى في سورة التوبة: «وَمِنهُم مَن يَقول ائذَن لِي وَلَا تَفتِنِّي أَلَا فِي الفتنة سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالكَافِرِينَ» بعد أن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالتجهز إلى غزوة تبوك، أراد المنافقون أن يعتذروا عن الذهاب، فلم تكن لهم حيلة إلا أن يعتذروا بأنهم مفتونون بنساء الروم، فلا يريدون أن يعرضوا أنفسهم لهذه الفتنة، فطلبوا أن يأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمكثوا في المدينة، فهم مفتونون بنفاقهم وكفرهم ومصيرهم نار جهنم فهي محيطة بهم متمكنة منهم لا يخرجون منها.

ونجد أن المشركين كانوا يطلبون من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعجل لهم العذاب، فقال تعالى في سورة العنكبوت: «یَسۡتَعۡجِلُونَكَ بِٱلۡعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِیطَةُۢ بِٱلۡكَـٰفِرِینَ» ولكن الله أمهلهم ليقيم عليهم الحجة، وسوف يأتيهم عذاب جهنم يحيط بهم ويتمكن منهم فلا يستطيعون إلى الخروج سبيلا.

وبين الله في كتابه العزيز صفة النار وإحاطتها بالكافرين فقال تعالى في سورة الكهف: «وَقُلِ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَن شَاۤءَ فَلۡیُؤۡمِن وَمَن شَاۤءَ فَلۡیَكۡفُرۡۚ إِنَّاۤ أَعۡتَدۡنَا لِلظَّـٰلِمِینَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمۡ سُرَادِقُهَاۚ وَإِن یَسۡتَغِیثُوا۟ یُغَاثُوا۟ بِمَاۤءࣲ كَٱلۡمُهۡلِ یَشۡوِی ٱلۡوُجُوهَۚ بِئۡسَ ٱلشَّرَابُ وَسَاۤءَتۡ مُرۡتَفَقًا» فقد أعد الله للكافرين نارا أحاط بمن يدخل فيها سرادقها أي حائطها فلا يخرجون منها، يصلون فيها أنواعا مختلفة من العذاب.

ومن زاوية أخرى نجد الله عز وجل يتحدث عن المكذبين الذين لم يحيطوا بآيات الله علما، فقال في سورة يونس: «بَلۡ كَذَّبُوا۟ بِمَا لَمۡ یُحِیطُوا۟ بِعِلۡمِهِۦ وَلَمَّا یَأۡتِهِمۡ تَأۡوِیلُهُۥۚ كَذَ ٰ⁠لِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ فَٱنظُرۡ كَیۡفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلظَّـٰلِمِینَ» وقال في سورة النمل: «حَتَّىٰۤ إِذَا جَاۤءُو قَالَ أَكَذَّبۡتُم بِـَٔایَـٰتِی وَلَمۡ تُحِیطُوا۟ بِهَا عِلۡمًا أَمَّاذَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ» فصفة التكذيب عندهم ليست ناتجة عن تفحص وتدبر للآيات والمعجزات، وإنما إعراضا وكبرا وجحودا، فكان عاقبة ذلك النار.

كما أن في قصص الأنبياء في الكتاب العزيز ذكرا للإحاطة: فهذا شعيب عليه السلام عندما حذر قومه بأن ينقصوا المكيال والميزان فقال في سورة هود: « وَإِلَىٰ مَدۡیَنَ أَخَاهُمۡ شُعَیۡبࣰاۚ قَالَ یَـٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُوا۟ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَـٰهٍ غَیۡرُهُۥۖ وَلَا تَنقُصُوا۟ ٱلۡمِكۡیَالَ وَٱلۡمِیزَانَۖ إِنِّیۤ أَرَىٰكُم بِخَیۡرࣲ وَإِنِّیۤ أَخَافُ عَلَیۡكُمۡ عَذَابَ یَوۡمࣲ مُّحِیطࣲ» فحذرهم من عذاب يوم محيط، فقال المفسرون هو عذاب القحط وغلاء الأسعار.

وقال لهم أيضا: «قَالَ یَـٰقَوۡمِ أَرَهۡطِیۤ أَعَزُّ عَلَیۡكُم مِّنَ ٱللَّهِ وَٱتَّخَذۡتُمُوهُ وَرَاۤءَكُمۡ ظِهۡرِیًّاۖ إِنَّ رَبِّی بِمَا تَعۡمَلُونَ مُحِیطࣱ» فقد قالوا له إنه لولا عشيرتك لقتلناك، فقال لهم أعشيرتي أعز عليكم من الله، ولم تراعوا الله في رسوله، وإنما جعلتموه وراء وظهوركم غير آبهين به، فالله عالم بما تعملون محيط بكم ولو شاء لأخذكم بالعذاب.

أما في سورة يوسف عليه السلام وفي قصته مع أبيه وإخوته موضع لذكر الإحاطة، فقال تعالى: «قَالَ لَنۡ أُرۡسِلَهُۥ مَعَكُمۡ حَتَّىٰ تُؤۡتُونِ مَوۡثِقࣰا مِّنَ ٱللَّهِ لَتَأۡتُنَّنِی بِهِۦۤ إِلَّاۤ أَن یُحَاطَ بِكُمۡۖ فَلَمَّاۤ ءَاتَوۡهُ مَوۡثِقَهُمۡ قَالَ ٱللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِیلࣱ» فقد اشترط يعقوب عليه السلام على أبنائه أنه لن يرسل معهم ابنه الصغير شقيق يوسف عليه السلام إلا أن آخذ العهود والمواثيق بأنكم سترجعونه إلا أن يحاط بكم، أي إلا بأن يغلب على أمركم أو يتمكن منكم بالموت أو نحوه».

ويذكر الله لنا قصة صاحب المزرعة الذي دخل جنته أي مزرعته وهو ظالم لنفسه وقال بأنه لا يظن أن تبيد هذه المزرعة أبدا، تشكيكا في يوم القيامة، وكبرا وتفاخرا على صاحبه الذي كان يحاوره، فقال الله في عاقبة هذا الأمر في سورة الكهف: «وَأُحِیطَ بِثَمَرِهِۦ فَأَصۡبَحَ یُقَلِّبُ كَفَّیۡهِ عَلَىٰ مَاۤ أَنفَقَ فِیهَا وَهِیَ خَاوِیَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَیَقُولُ یَـٰلَیۡتَنِی لَمۡ أُشۡرِكۡ بِرَبِّیۤ أَحَدࣰا» أي أحاط الهلاك والفساد بثمره، فأصبح متحسرا يقلب كفيه من الندم والحسرة على الأموال والجهد الذي أنفقه فيها لأجل تثميرها والعناية بها.

والمتأمل في قوله تعالى في سورة يونس: «هُوَ ٱلَّذِی یُسَیِّرُكُمۡ فِی ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِۖ حَتَّىٰۤ إِذَا كُنتُمۡ فِی ٱلۡفُلۡكِ وَجَرَیۡنَ بِهِم بِرِیحࣲ طَیِّبَةࣲ وَفَرِحُوا۟ بِهَا جَاۤءَتۡهَا رِیحٌ عَاصِفࣱ وَجَاۤءَهُمُ ٱلۡمَوۡجُ مِن كُلِّ مَكَانࣲ وَظَنُّوۤا۟ أَنَّهُمۡ أُحِیطَ بِهِمۡ دَعَوُا۟ ٱللَّهَ مُخۡلِصِینَ لَهُ ٱلدِّینَ لَىِٕنۡ أَنجَیۡتَنَا مِنۡ هَـٰذِهِۦ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّـٰكِرِینَ» يعلم أن الإنسان بطبيعته ينسى نعم الله ويغفل عنها ولا يذكر الله إلا وقت الشدة والعسر، فإذا ركب في السفينة وعصفت به الريح وهاج الموج وتقاذف تلك السفينة، وأحيط به أي أنه علم أنه لا نجاة إلا باللجوء إلى الله، دعا الله مخلصا، فإذا أنجاه مر كأن لم يدعُ الله إلى ضر مسه فنجاه منه.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الرسول صلى الله علیه وسلم تعالى فی سورة علیه السلام ولکن الله ع م ل ون

إقرأ أيضاً:

” الحِكمة ” في مشروع الشهيد القائد

أينما تجد الحكمة تجد العقل، تجد التدبير الصحيح، تجد الأخلاق السامية، تجد المواجهة ضد الظالمين وعدم الاستسلام للمستكبرين … سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات أو المجتمعات..

فلا رقي ولا حضارة ولا عزة ولا كرامة إلا بوجود الحكمة واستخدامها في السير في هذه الحياة وفق المنهج الإلهي الذي رسمه لنا في كتابه الكريم الذي قال فيه(وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شيء) .

وإذا ما فقدت المجتمعات الحكمة كانت الفرقة والشتات والجهل والتخلف والخنوع والاستسلام لأعداء الله تعالى

إن الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي – رضوان الله عليه – عندما تكلم عن الحكمة إنما تكلم عنها بالمفهوم الواسع وليس بالمفهوم الضيق، لأنه – رضوان الله عليه – كان يحمل هموم أمة يريدها أن ترتقي من التخوم إلى أعالي النجوم يريدها أن تنطلق وتتحرك بحركة القرآن الكريم كما كان نبيها العظيم – صلى الله عليه وآله وسلم – قرآناً يمشي على وجه الأرض، يتحرك بحركته، ويسير على منهجه (إن اتبع إلا مايوحى إليَّ)[الأحقاف:9] .

ولهذا قال الشهيد القائد- رضوان الله عليه – : ((الحكمة أن تكون تصرفاتهم حكيمة، أن تكون مواقفهم حكيمة، أن تكون رؤيتهم حكيمة … وقال – أيضاً- الحكمة هي تتجسد بشكل مواقف، بشكل رؤى، بشكل أعمال، هي تعكس وعياً صحيحاً، وعياً راقياً، تعكس زكاء في النفس تعكس عظمة لدى الإنسان ….)).

لقد انطلق الشهيد القائد في كلامه عن الحكمة من قوله تعالى : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا)[البقرة:269] .

والحكمة اسم لإحكام وضع الشيء في موضعه، والحكيم هو من تصدر أعماله وأقواله عن رويّة ورأي سديد…

يُقال: فلان من أهل الحكمة أي من أهل العلم والمعرفة والتبصر بحقائق الأمور وكنهها ….

والحَكَمَة (بفتح الحاء والكاف) هي في اللغة ما أحاط بحنكي الفرس وتُسمى بحَكَمَة اللجام وهي حديدته التي تكون في الفرس لإحكام لجامه وسميت بذلك لأنها تمنعه من الجري الشديد وتذلل الدابة لراكبها حتى تمنعها من الجماح ومنه اشتقاق الحِكمة- التي نحن في صدد الكلام عنها – لأنها تمنع صاحبها من أخلاق الأراذل ومن المهانة والابتذال ومن الانحطاط في سفاسف الأمور وما يخل بالمرؤة والفتوة .

والحكمة المذكورة في قوله تعالى :(ويُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)[البقرة:129] ليس المراد بها السنة كما ذهب إليها المفسرون..

فقد استبعد الشهيد القائد هذا المعنى وقال رداً عليهم : ((إن الله تعالى قال في آية أخرى لنساء النبي ( وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ)[الأحزاب:34]، هل معنى ذلك أنهن يقرأن أحاديث في البيوت ؟ لا…)).

قلتُ: لايُعقل أن يكون المراد بالحكمة هي السنة في قوله ( و يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) وذلك لأمور كثيرة منها -إضافة لما ذكره الشهيد القائد -:

– أن الحكمة هي من القرآن وليس منفصلة عنه قال تعالى:(وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ..)[النساء:113] فالإنزال واحد، والحكمة هي من الكتاب مما يتلى على نساء النبي- صلى الله عليه وآله وسلم – قال تعالى:(وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ) فهل الأحاديث كانت تتلى على نساء النبي – صلى الله عليه وآله وسلم-؟! مع أن الأحاديث بدأ تدوينها مع مطلع القرن الثاني للهجرة، قال ابن حجر في فتحه[ 1/ 277] : (( وكان ابن شهاب الزهري أول من دوّن الحديث على رأس المائة بأمر من عمر بن عبدالعزيز ))

– إن كلمة الحكمة مجردة عن إضافة الرسول أو النبي يعني لم يقل الله : “ويعلمهم الكتاب وحكمة النبي أو وحكمة الرسول وإنما قال:(ويُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) وأما واو العطف  فهو مثل قوله تعالى:(وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ)[الحجر:87] فالسبع المثاني هن من القرآن وليس هن السنة !! .

– إذا كان المراد بالحكمة هي السنة فكيف نفهم معناها في قوله(وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ..)[آل عمران:81] .

فهل الله آتى أنبياءه الأحاديث التي لم يتم تدوينها إلا في مطلع القرن الثاني الهجري والتي قام بتدوينها الزهري؟!

قال الشهيد القائد – رضوان الله عليه – : (( كلمة (حكمة) في القرآن الكريم لا تعني سنة إطلاقاً، رسول الله – صلى لله عليه وآله وسلم – مهمته هو أن يعلِّم الناس هذا القرآن بما فيه من آيات وهي: أعلام وحقائق في كل مجال تتناوله )).

قلت: من هذا نعلم أن المراد من ذلك المفهوم الواسع للحكمة حسب ما تكلم عنها الشهيد القائد وهي منبثقة من القرآن وهي أيضاً آيات من القرآن تمنح الإنسان الحكمة إذا ما أتمر بأوامر القرآن وانتهى عن نواهيه..

قال الشهيد القائد: ((القرآن الكريم فيه أشياء كثيرة تتجه نحو الإنسان لتمنحه الحكمة (ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ)[الإسراء:39] كما قال في سورة الإسراء بعد أن ذكر عدة وصايا ثم قال (ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ)….)).

وهذا يعني أن الوصايا هن آيات الحكمة لأنه تعالى قال عقبها: (ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ) .

وهذه حقيقة تفرد بها الشهيد القائد وغفل عنها العلماء، ولا أظن أحداً تفطن إليها ونحن فهمناها من مضمون كلامه -رضوان الله عليه – وإليك توضيح ذلك :

ذكر الله تعالى آيات في سورة الإسراء تشتمل على وصايا

وكل آية منها تبدأ بصيغة (لا تفعل) وبعضها تبدأ بصيغة (افعل) وهي الأقل :

– (لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ…..   وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا – وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ…

– وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ….

– وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا….

– وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ….

– وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ …..

– وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ…

– وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ …

– وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا…..)[انظر سورة الإسراء من آية 22 – 27 ]

ثم قال تعالى عقب هذه الوصايا (ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ) يعني أن هذه الآيات

– الوصايا – هي مما أوحى الله لنبيه من الحكمة …

كذلك قال الله تعالى في لقمان الحكيم(وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ)[لقمان:12] ثم ذكر بعد هذه الآية وصايا لقمان لابنه وهي من الحكمة التي آتاها الله إياه :

_ (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ……

– يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ…

– وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا…

– وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ …)[انظر سورة لقمان من آية 13 – 19]

وهكذا كل آية تبدأ بصيغة (افعل) أو (لا تفعل) تدخل ضمن آيات الحكمة التي ذكرناها آنفا.

وآيات الحكمة هن المراد من الحكمة في قوله(وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ..) ومن قوله (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ..) ومن قوله (وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) وغيرها من الآيات التي تُعرف بالقرينة والسياق وهذه الآيات – الوصايا الحكيمة  – تمنحك الحكمة كما أشار إلى ذلك الشهيد القائد.

نعم تمنحك الحكمة بالعمل بها بأن تأتمر بأوامرها وتنتهي عن نواهيها بل إن العمل بمنهجية القرآن هو من سيجعلنا كلنا حكماء لأنه (كتاب أُحكمت آياته.) .

قال الشهيد القائد – رضوان الله عليه-(( إنه _ أي القرآن _ في الأخير يجعل كل من يسيرون على وفق توجيهاته ويتثقفون بثقافته يُمنحون الحكمة، والعكس الذين لا يسيرون على ثقافة القرآن، لا يهتمون بالقرآن، سيفقدون الحكمة، وسيظهر مدى حاجة الناس إلى الحكمة في المواقف المطلوبة منهم في القضايا التي تواجههم…))إهـ .. ثم أتى الشهيد القائد بمثال عن من فقدوا الحكمة قال – رضوان الله عليه – :((الآن في هذا الوضع الذي نعيش فيه وتعيش فيه الأمة العربية، الأمة الإسلامية، ونحن نسمع تهديدات اليهود والنصارى، تهديدات أمريكا وإسرائيل وسخريتها من الإسلام ومن المسلمين ومن علماء الإسلام ومن حكام المسلمين بشكل رهيب جداً تجد موقف الناس بكل فئاتهم يتنافى مع الحكمة أي هم فقدوا الآن الموقف الحكيم مما يواجهون، الرؤية الحكيمة لما يواجهون، النظرة الصحيحة للوضع الذي يعيشون …)).

إذاً لا مخرج لهم من هذا الإنحطاط الذي وصلوا إليه إلا بالتمسك بالقرآن الكريم وذلك بالتثقف بثقافته والسير على نهجه حتى يمنحهم الله الحكمة ويكونوا كما قال الله (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ)[المائدة:54].

 

 

 

 

 

مقالات مشابهة

  • الأطفال يسألون وشيخ الأزهر يجيب .. هل ما يحدث للمسلمين غضب من الله؟
  • أفضل سورة تقرأ في شعبان كل صباح.. تفتح لك أبواب الرزق الواسع
  • حقيقة عديدة يس.. وكيف تحصن نفسك بالسورة الكريمة
  • محافظ الإسماعيلية ورئيس هيئة قناة السويس يفتتحان مسجد "الكريم" بمساكن القرش بالإسماعيلية
  • "ربيع وجلال ومندور" افتتحوا مسجد "الكريم" بمساكن القرش بالإسماعيلية
  • من هو (الصياد) الذي سُمِّي عليه متحركٌ قاده العميد جودات وتولى تحرير مدينة أم روابة؟
  • فضل يوم الجمعة والأعمال المستحبة به.. سورة الكهف والصلاة على النبي
  • ” الحِكمة ” في مشروع الشهيد القائد
  • تأملات قرآنية
  • حكم قول "بلى" بعد قوله تعالى: ﴿أليس الله بأحكم الحاكمين﴾