خلال جائحة "كوفيد-19" كانت هناك تجارب لاستخدام الكلاب أداة لتشخيص الإصابة بالفيروس المسبب للمرض من خلال التعرف على الرائحة المميزة التي ينتجها الأشخاص المصابون، والتي لا يمكن أن يشمها الإنسان، فهل يمكن أن يقوم روبوت بهذه المهمة بدقة تفوق الكلاب التي كانت لديها نسبة خطأ تم تقديرها بحوالي 14%؟

ويعتقد خالد مصيلحي الأستاذ في قسم العقاقير والنباتات الطبية بكلية الصيدلة جامعة القاهرة أن الباحثين قطعوا خطوة كبيرة نحو ذلك باستخدام الذكاء الاصطناعي، إذ يتبقى معرفة الباحثين المركّب المسؤول عن تلك الرائحة حتى يتم تدريب شبكة عصبية على تحديده من بين المركّبات الأخرى التي يمكن أن ينتجها الأشخاص.

ويعد التشخيص الطبي بالروائح أحد التطبيقات التي يتوقع لها مستقبل كبير بعد الإنجاز الكبير الذي تم الإعلان عنه في 31 أغسطس/آب الماضي في دراسة نشرتها دورية "ساينس"، وأثبت عبرها باحثون أميركيون أن الذكاء الاصطناعي يمكنه المنافسة في هذا المجال.

ويقول مصيلحي في تصريحات للجزيرة نت "استطاع الذكاء الاصطناعي أن يؤدي في هذه الدراسة بأداء مقارب للبشر، لكن مع مزيد من التدريب والتعلم الذاتي سيتمكن مستقبلا من التفوق على البشر في التشخيص بالرائحة".

التشخيص الطبي بالروائح أحد التطبيقات التي يتوقع لها مستقبل كبير (غيتي) وصف خمسة آلاف مركّب

وخلال الدراسة استكشف الباحثون من جامعات ريدينغ البريطانية وبنسلفانيا وأريزونا الأميركية وشركة "أوسمو" -وهي شركة انبثقت عن مختبر التعلم الآلي التابع لشركة غوغل- العلاقة بين بنية المادة الكيميائية ورائحتها، وصمموا نوعا من نظام الذكاء الاصطناعي يسمى الشبكة العصبية يمكنها تخصيص كلمة أو أكثر من 55 كلمة لوصف الرائحة، وقاموا بتوجيه الشبكة لوصف رائحة ما يقارب خمسة آلاف مركّب، وقاموا أيضا بتوجيهها لتحليل البنية الكيميائية لكل رائحة لتحديد العلاقة بين البنية والرائحة.

وحددت الشبكة العصبية حوالي 250 ارتباطا بين أنماط محددة في بنية المادة الكيميائية ورائحة معينة، وقام الباحثون بدمج هذه الارتباطات في خريطة الرائحة الرئيسية التي يمكن للذكاء الاصطناعي الرجوع إليها عندما يُطلب منه التنبؤ برائحة جزيء جديد.

ولاختبار هذا النظام على أنوف البشر قام الباحثون بتدريب 15 متطوعا على ربط روائح معينة بنفس مجموعة الكلمات الوصفية التي يستخدمها الذكاء الاصطناعي.

وبعد ذلك جمع الباحثون المئات من الروائح التي لا وجود لها في الطبيعة، ولكنها مألوفة بدرجة كافية ليتمكن الناس من وصفها، وطلبوا من المتطوعين البشر وصف 323 منهم، ثم طلبوا من الذكاء الاصطناعي التنبؤ برائحة كل جزيء جديد على أساس تركيبه الكيميائي، وكان تخمين الذكاء الاصطناعي يميل إلى أن يكون قريبا جدا من متوسط الاستجابة التي يقدمها البشر، وغالبا ما يكون أسرع من تخمين أي فرد.

ثورة في أبحاث الشم

وتؤسس هذه النتائج لثورة في أبحاث حاسة الشم، حيث تضعها على قدم المساواة مع أبحاث البصر والسمع، وتقول جين باركر الباحثة المشاركة في الدراسة من جامعة ريدينغ في تقرير لموقع "ساينس" إن "لأبحاث الرؤية طولا موجيا، ولأبحاث السمع تردد، ويمكن قياسهما وتقييمهما بالأدوات، ولكن ماذا عن الرائحة فليس لدينا حاليا طريقة لقياس رائحة الجزيء أو التنبؤ بها بدقة بناء على تركيبه الجزيئي؟".

وقد ظهرت محاولات سابقة لتوصيف الروائح اعتمادا على البنية الجزيئية، ولكن كانت هناك العديد من الاستثناءات حيث لا تتطابق الرائحة والبنية، وهذا ما أربك النماذج السابقة.

وتوضح باركر أن "الشيء الرائع في هذا النموذج الجديد الذي أنشئ بواسطة التعلم الآلي هو أنه يتنبأ بشكل صحيح برائحة تلك الاستثناءات".

وتعود قصة العمل على هذا النموذج الجديد إلى عشر سنوات مضت، حيث كانت هناك مسابقة جماعية تتحدى الباحثين لاستخدام الذكاء الاصطناعي للتنبؤ برائحة المركّبات من البنية الجزيئية، وعندما طُلب من الخوارزميات الفائزة "شم" 69 مادة كيميائية تمكنت من انتقاء ثمانٍ من أصل 19 رائحة محتملة نسبها الأشخاص إلى هذه العينات، لكن لم تتمكن من تجميع العينات وفقا لمدى تشابه رائحتها كما يقول جويل ماينلاند عالم الأعصاب في مركز مونيل للحواس الكيميائية الذي ساعد في تنظيم التحدي، وهو أحد المشاركين في الدراسة الجديدة.

وكان ريتشارد جيركين عالم الأعصاب في شركة الذكاء الاصطناعي "أوسمو" أحد الفائزين، ونظرا لأن عدد جزيئات الرائحة المميزة لتدريب "الخوارزميات" في مجال الذكاء الاصطناعي قد زاد بشكل كبير منذ المنافسة فقد اعتقد أنه يمكنه القيام بعمل أفضل.

وبالتعاون مع ألكسندر ويلتشكو في شركة "أوسمو" قام جيركين وزملاؤه بإدخال الهياكل وأوصاف الرائحة لخمسة آلاف جزيء للشبكة العصبية التي تعلمت التعرف على الأنماط الموجودة في بيانات التدريب، وربط رائحة الجزيء بخصائص الذرات المكونة له، مثل هوياتها وأحجامها وروابطها المتصلة.

الشبكة العصبية ليست قادرة بعد على تقييم خليط من الجزيئات، أي أنواع الروائح المعقدة التي نواجهها في الواقع (غيتي) التحدي القادم

وعلى الرغم من أن الشبكة العصبية تظهر أنه من الممكن رسم بنية المادة الكيميائية حسب الرائحة فإنها تلقي القليل من الضوء على البيولوجيا الأساسية للرائحة كما تقول ليندا باك عالمة الأعصاب في مركز فريد هتشينسون للسرطان بالولايات المتحدة، والتي لم تشارك في الدراسة.

وتقول باك في التقرير الذي نشره موقع "ساينس" إن "الشبكة العصبية لم تثبت بعد قدرتها على تقييم خليط من الجزيئات، أي أنواع الروائح المعقدة التي نواجهها في العالم الحقيقي، وهذا ما نأمل أن تتعلم الخوارزميات كيفية القيام به".

ويؤكد ويلتشكو ما ذهبت إليه باك، ويقول إن "الخطوة التالية هي معرفة كيفية دمج الروائح والتنافس مع بعضها البعض لخلق ما يفسره الدماغ البشري على أنه رائحة مختلفة تماما عن رائحة كل مركّب على حدة، وهذا سيكون صعبا للغاية، لأن خلط 100 جزيء فقط في مجموعات مختلفة مكونة من عشرة جزيئات ينتج 17 تريليون تباين، وسرعان ما يصبح عدد المجموعات المحتملة أكبر بكثير من أن يتمكن الحاسوب من تحليلها".

ويتابع "لكن هذه هي الطريقة التي يشم بها البشر في الواقع، فحتى رائحة معينة مثل القهوة تحتوي على مئات من المواد الكيميائية، والتنبؤ برائحة المزيج هو التحدي القادم".

لكن أندرياس غراسكامب عالم الأحياء العصبية الذي يدرس الإدراك في معهد فراونهوفر الألماني لهندسة العمليات والتغليف يصف ما تحقق حتى الآن بأنه خطوة مهمة.

وبالإضافة إلى التطبيقات الطبية التي تحدث عنها يرى غراسكامب في التقرير الذي نشره موقع "ساينس" أن "ما تحقق يؤسس لتطوير لاحق في التقنيات سيساعد على تسريع البحث عن منتجات استهلاكية ذات رائحة أفضل".

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: الذکاء الاصطناعی

إقرأ أيضاً:

مخاطر الذكاء الاصطناعي على التعليم والبحث العلمي

يحظى موضوع الذكاء الاصطناعي باهتمام واسع عبر العالم في المناقشات والمنتديات والمجادلات حول الموضوع. ولقد سبق أن تناولت هذا الموضوع في مقالين بهذه الجريدة الرصينة: أحدهما عن الذكاء الاصطناعي والإبداع، والآخر عن الذكاء الاصطناعي والترجمة. ولكن هذا الموضوع يحتمل المزيد من التأملات دائمًا، إذ إن له أبعادًا كثيرةً لا حصر لها؛ ولذلك فإنني أريد في هذا المقال التنويه إلى تأثير الذكاء الاصطناعي على العملية التعليمية والبحث العلمي.

وقد يبدو أن استخدام كلمة «تأثير» أفضل من استخدام كلمة «مخاطر» الواردة في عنوان هذا المقال؛ لأن هذه الكلمة الأخيرة قد لا تبدو محايدة، وإنما تنطوي على حكم مسبق يتخذ موقفًا متحيزًا ضد تقنيات الذكاء الاصطناعي. وهذا تفسير غير صحيح؛ لأن كلمة «مخاطر» تعني أن هناك طريقًا نسير عليه -أو ينبغي أن نسير فيه- ولكنه يكون محفوفًا بالمخاطر التي ينبغي أن ندركها لكي يمكن اجتنابها. فلا مراء في أن الذكاء الاصطناعي يمثل ثورة كبرى في المعرفة البشرية.

هذه الثورة المعرفية تتمثل في القدرة الهائلة للآلة على توفير بيانات ضخمة في أي مجال معرفي، بل يمكن لبرامج هذه الآلة أن تؤلف نصوصًا أو موضوعات بحثية أو تصمم ابتكارات ومخترعات باستخدام هذه البيانات.

ولقد أثمرت هذه الثورة المعرفية بوجه خاص في مجال تطبيقات العلوم الدقيقة، وعلى رأسها الرياضيات البحتة التي تمتد جذورها في النهاية في المنطق الرياضي، كما لاحظ ذلك برتراند رسل بشكل مدهش في مرحلة مبكرة للغاية في كتابه أصول الرياضيات!

ولا شك أيضًا في أن الذكاء الاصطناعي له استخدامات مثمرة في مجال العملية التعليمية، إذ إنه يسهِّل على المعلم والطالب معًا بلوغ المعلومات المهمة والحديثة في مجال الدراسة، ويقدِّم المعلومات للطلبة بطريقة شيقة ويشجعهم على البحث والاستكشاف بأنفسهم.

وهنا على وجه التحديد مكمن المشكلة، فعندما نقول: «إن الذكاء الاصطناعي يشجع الطلبة على البحث والاستكشاف بأنفسهم»، فإننا ينبغي أن نأخذ هذه العبارة بمعناها الدقيق، وهو أن الذكاء الاصطناعي هو ذكاء الآلة، والآلة دائمًا هي أداة للاستخدام، وبالتالي فإنها لا يمكن أن تكون بديلًا لدور المستخدِم الذي يجب أن يقوم بنفسه بالبحث والاستكشاف. وهذا يعني أن سوء استخدام الذكاء الاصطناعي والتعويل عليه في عملية التعلم، سيؤدي إلى القضاء على روح المبادرة والاكتشاف، وسيحول دون تعلم مهارات التفكير الناقد critical thinking وتنميتها من خلال عملية التفاعل المباشر بين الطلبة والمعلم. وتلك كلها مخاطر حقيقية على التعليم.

ولا تقل عن ذلك مخاطر الذكاء الاصطناعي في البحث العلمي الذي يصبح تكريسًا لسوء استخدام هذا الذكاء في مراحل التعليم المختلفة. بل إن المخاطر هنا تصبح أشد وأكثر ضررًا؛ لأنها تتعلق بتكوين باحثين وأساتذة يُرَاد لهم أو يُرجى منهم أن يكونوا علماء حقيقيين في مجالاتهم البحثية المتنوعة. ولعل أشد هذه المخاطر هو شيوع السرقات العلمية من خلال برامج الذكاء الاصطناعي التي تقوم بعملية التأليف من خلال كتابات ودراسات وبحوث منشورة؛ وهو ما قد يشجع الباحث على استخدام المادة المُقدّمة له باعتبارها من تأليفه ودون ذكر للمصادر الأصلية التي استُمدت منها هذه المادة.

حقًّا أن الذكاء الاصطناعي نفسه قد ابتكر برامج لاكتشاف السرقات العلمية (لعل أشهرها برنامج Turnitin)؛ ولكن هذا لا يمنع الباحثين الذين يفتقرون إلى أخلاقيات البحث العلمي من التحايل على مثل هذه البرامج من خلال التمويه، وذلك بتطعيم البحث بمادة موثقة من مصادرها، بحيث يبدو البحث مقبولًا في الحد الأدنى من نسبة الاقتباسات المشروعة! وهذا أمر لا ينتمي إلى البحث العلمي ولا إلى الإبداع والابتكار.

وبصرف النظر عن مسألة السرقات العلمية، فإن الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في البحث العلمي له مخاطر أخرى تتمثل في أن المادة المقتبَسة كثيرًا ما تكون مشوهة أو غير دقيقة، وهذا يتبدى -على سبيل المثال- في حالة النصوص المقتبسة المترجَمة التي تقع في أخطاء فادحة وتقدم نصًا مشوهًا لا يفهم مقاصد المؤلف الأصلي، وهذا ما فصلت القول فيه في مقال سابق. وفضلًا عن ذلك، فإن برامج الذكاء الاصطناعي لا تخلو من التحيز (بما في ذلك التحيز السياسي)؛ ببساطة لأنها مبرمَجة من خلال البشر الذين لا يخلون من التحيز في معتقداتهم، وهذا ما يُعرف باسم «الخوارزميات المتحيزة» biased algorithms.

ما يُستفاد من هذا كله هو أن الذكاء الاصطناعي ينبغي الاستعانة به في إطار الوعي بمخاطره؛ ومن ثم بما ينبغي اجتنابه، ولعل هذا ما يمكن تسميته «بأخلاقيات الذكاء الاصطناعي»، وهي أخلاقيات ينبغي أن تَحكم برامج هذا الذكاء مثلما تَحكم المستخدم نفسه.

مقالات مشابهة

  • مخاطر الذكاء الاصطناعي على التعليم والبحث العلمي
  • الماضي الذي يأسرنا والبحار التي فرقتنا تجربة مُزنة المسافر السينمائية
  • كِتابة جِنيّ المصباح تجارب روائية ولَّدها الذكاء الاصطناعي
  • كتَّاب عرب: لن نترك الذكاء الاصطناعي يأخذ مكاننا!
  • ما هي الشبكة الكهربائية الأوروبية المشتركة التي شهدت تعطلاً اليوم؟
  • الذكاء الاصطناعي والرقمنة في العمل
  • هذه أبرز وظائف المستقبل التي تنبأ بها الذكاء الاصطناعي
  • “عراب الذكاء الاصطناعي” يثير القلق برؤيته حول سيطرة التكنولوجيا على البشرية
  • كيف خسرت آبل عرش الذكاء الاصطناعي لصالح ميتا؟
  • عسكرة الذكاء الاصطناعي .. كيف تتحول التكنولوجيا إلى أداة قتل عمياء؟