سؤال الفن.. الواقع العربي بأجوبة قديمة
تاريخ النشر: 7th, September 2023 GMT
حينما نشاهد أحوال الإنسان في العالم العربي المعاصر، نقتنع بأنه ليس على ما يرام، وذلك بسبب افتقاره إلى الجاهزية التي تمكنه من الانخراط في العالم الجديد، وليس فقط المساهمة فيه وفق منطقه الثقافي والقيمي. تلك المساهمة تمنحه خصوصية بقدر ما تعطيه عالمية، بفضل قدرته على تفعيل قيمه مع متطلبات زمانه.
والواقع أن غياب الفعل العربي عن هذه المساهمة وذلك الانخراط يرجع إلى اختلال العلاقة بين الزمان والسؤال، أو إلى اختلال العلاقة بين طبيعة السياق وتوجيه الجواب الملائم للسؤال الضمني الذي يفرضه هذا السياق.
ولقد تغيرت خصائص العالم بتغييرات فرضت على كل الأمم أسئلة خاصة. وإذا استطاعت أمة أن تجد الجواب عنها، فقد ضمنت استمراريتها وحققت إبداعًا وفق قدرتها، مما يتيح لها أن تطور أنماطها وتؤثر في تشكيل العالم وفق رؤيتها.
إذا كانت علاقتنا بالزمان والمكان قد اختلت كما اختلت علاقتنا بالفنون، فسيكون لدينا عواطف مختلة أيضًا، مادامت الفنون هي التعبير عن هذه العواطف
أما العالم العربي، فلم يدرك بعد أن السؤال قد تغير، وتبعاً لذلك، يجب أن يتغير الجواب. الواقع أن الواقع العربي ما زال يعيش بأجوبة قديمة لأسئلة جديدة، أو بأجوبة من سياق ثقافي آخر على أسئلة سياقه الثقافي الحالي. ومن بينها سؤال الفن الذي ما زال محصوراً بمقاييس فقدت أسبابها وابتُلِعت آفاقها. ونتيجة لذلك، فضلنا شعور الآخرين على شعورنا، معتقدين أنه شعورنا، وتعلقنا بسردياتهم، مغررين بأنفسنا بأنها سردياتنا. وبالتالي، انحسر أفقنا من ناحية، رغم اعتقادنا بأننا نوسعه، وتوارى استشرافنا للمستقبل من جهة، على الرغم من اعتقادنا بأننا نستعد له.
والملاحظ أن غياب سؤال الفن عن سياقنا العربي بشكل عام، وعن مؤسساتنا الثقافية والتعليمية -وخصوصاً تلك المسؤولة عن وضع البرامج التربوية- أدى إلى غياب فني لدينا. هذا الغياب نتج عنه انحطاط في سلم الأذواق وفي ممارساتنا الاجتماعية واليومية.
ومن أجل ذلك، يجب تحريك الذهنيات لملامسة الوقائع الراهنة وإعادة ترتيب مقامات السؤال بهدف الإجابة وفقاً لمقتضيات السياق الجديد، الذي لم يعد يلائمه الإطار القديم. إذ إن مساحة السياق الجديد اختلفت كثيرًا عن مساحة السياق القديم، كما أن حجمه لم يعد مشابهًا للحجم الذي يتناغم مع جواب سؤال اقتضته التمثلات السابقة.
وإن سؤال الفن المعاصر يجب أن يُجاب بطريقة تعيد ترتيب العلاقة مع الشعور والزمان والمكان، خصوصًا وأن علاقة الإنسان العربي بهذه العناصر قد بلغت أشد درجات الاختلال من قبل.
فالموسيقى، مثلًا، إذا استثمرناها جيدًا وأبدعنا من خلالها، فإننا سنحقق توليفة قادرة على إعادة ترتيب علاقتنا بالزمان. إذ هي مجموعة من الأصوات التي تتناغم بطريقة خاصة مع الزمن، تسعى لرصد أرقى الجمال في زمن الأصوات، حتى تنتج نغمات تصل بين العمق الإنساني والعمق الكوني. ولكن، طالما كانت علاقتنا بالزمن مختلة، فإن علاقتنا بالفن ستظل مشوهة.
الموسيقى إذا استثمرناها سنحقق توليفة قادرة على إعادة ترتيب علاقتنا بالزمان (غيتي)كما أن الموسيقى هي مجموعة من الأصوات التي تتواءم بشكل خاص مع المكان، تسعى لرصد أسمى حسن في مكان الصوت، حتى تُنتج نغمات تربط بين العمق الإنساني والعمق الكوني أيضًا. ولكن، مادامت كانت علاقتنا بالمكان ملوثة ومخربة، فستظل علاقتنا بالفن مشوهة.
وإذا كانت علاقتنا بالزمان والمكان قد اختلت كما اختلت علاقتنا بالفنون، فستكون لدينا عواطف مختلة أيضًا، مادامت الفنون هي التعبير عن هذه العواطف. وعليه، يعيش عالمنا العربي أزمة عاطفية نظرًا لفقدانه الوجهة التي ينبغي أن تسعى إليها العواطف، ونظرًا لفقدانها الوسيلة التي ينبغي استخدامها لبلوغ تلك الوجهة. حتى إذا استطعنا إعادة الاعتبار للفن، استطعنا أيضًا إعادة ترتيب مشاعرنا، وبالتالي استرجاع قيمة الإنسان.
وإن الفن قادر على تربية العاطفة من خلال عدة وسائل؛ فحين يرسم لنا صورة إيجابية، يحرك فينا شعور الإعجاب بها حتى نتبنى ما فيها من سلوك أو موقف.
وفي المقابل، حين يرسم لنا الفن صورة سلبية، فإنه يحرك فينا شعور الازدراء بها حتى نرفض ما فيها من سلوك أو موقف. وبناءً على ما سبق، يجب المسارعة في نقل الفن من سؤال العقيدة، الذي اقتضاه سياق بناء الدين ومواجهة الأوثان والأزلام، إلى سؤال الذوق والتربية الذي يتطلبه بناء المجتمع المعاصر ومواجهة الانبطاح والاستسلام.
إنه، باختصار، انتقال هذا السؤال من بعده الديني إلى بعده الجمالي. ولا ننفي إمكانية ارتباطه مستقبلاً ببعد آخر يستدعيه المجتمع آنذاك.
وإن البيان القرآني نفسه راعى في هذا السؤال طبيعة البعد الذي يختضم داخل المجتمع. ولنُبعِدْ في المثال بصناعة التماثيل، التي حين كانت تمثل مدرسة عقدية وثنية، أشار إليها بالآتي: (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَٰذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) الأنبياء: 52-54.
وحين كانت تمثل مدرسة فنية جمالية، لم يرَ الله بأسًا في صناعة تمثال الطير مثلًا. بل اعتبر التوفيق إلى هذا البعد الجمالي نعمة من نعمه، فأومأ إلى ذلك بقوله: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي…) المائدة: 110.
وفي الختام، لابد من توجيه كلمة إلى الإنسان، مفادها أن الفن في كثير من صوره يُفكِّك العلاقة الطبيعية بين الدال والمدلول، كما هي مقررة في اللغة. ذلك بأنه يؤسس لمدلول أعمق يعكس حقيقة الوعي بالمطلق اللامتناهي، محاولًا فتح مغلق ألغاز الكون وأسرار الحياة. إنه في جميع حالاته ارتفاع بالإنسان من طوره المادي إلى طور أرقى وأسمى يربط المدارك بالروح، حتى إذا هذبه، عاد به إلى منطق الوجود ليمارس الحياة بميزانه وليس بميزان المادة وحتميتها.
الفن في كثير من صوره يُفكِّك العلاقة الطبيعية بين الدال والمدلول كما هي مقررة باللغة (غيتي)إن الفن يعمل على تنمية حضور الشخصية وقدرتنا على الإبداع، لأنه عمل يبرز تميز كل إنسان على حدة، باعتباره فردًا مميزًا له وجود مستقل عن الآخرين. ومن خلال هذا الاستقلال والتميز، والتحرر من تأثير الآخرين، يظهر الإبداع الذي يُسهم في بناء الإنسان من الناحية الثقافية والحضارية، مما يمكنه من استمرار في تقديم مساهمات قيمة في الوجود.
ويتيح لنا الفن الحفاظ على هوية الإنسان ووجوده. وعند النظر إلى التداخل المتزايد للعالم الرقمي في مجال الفن، من خلال استخدامه خوارزميات قادرة على إنتاج الألحان والألوان وغيرها من الإبداعات الفنية، نجد أن الإنسان الحديث يغرق في هذه الخوارزميات. فهي تزيف الواقع أمامه بإظهار قدرات هذا العالم الرقمي في خلق محتوى فني، وفي الوقت نفسه، يبدو الإنسان كأنه يتنازل عن دوره الفني، مستسلمًا لهذا العالم الافتراضي على حساب تواصله مع الطبيعة والواقع. وهذا هو أحد التحديات التي تواجه الحضارة المعاصرة؛ حيث تتجه الحضارة نحو تقليل أهمية الإنسان وقيمه، بعيدًا عن التركيز على العمق الإنساني والبحث عن المعاني الحقيقية التي تحفز فهمنا للوجود.
الإنسان الحديث يغرق بخوارزميات تزيف الواقع بإظهار قدرات هذا العالم الرقمي (مجلة العلوم الأميركية Scientific American)إذ أصبحت فنون الحاسوب، التي تميل إلى التجميل والتطرية، تفتقد إلى الهدف والاتجاه الصحيح نتيجة لغياب المرجعية العليا التي توجه وتؤسس.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معناوظائف شاغرةترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssجميع الحقوق محفوظة © 2023 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: سؤال الفن الذی ی
إقرأ أيضاً:
المفتي: العالم العربي والإسلامي يواجه العديد من الشائعات الكاذبة
قال الدكتور نظير محمد عياد، مفتي الجمهورية، إن مسئولية دار الإفتاء تتلخص في مهمة الرد على الشائعات والأكاذيب والتهديدات التي تواجه الدولة، بجانب دورها في توعية الرأي العام.
وأضاف المفتي، في حوار خاص مع الإعلامي أحمد موسى ببرنامج “على مسئوليتي” المذاع على قناة “صدى البلد”، أن الوقت الحالي الذي نعيش فيه؛ تتعدد فيه الأزمات وتتنوع فيه المشكلات خاصة في العالم العربي والإسلامي.
وأشار “عياد”، إلى أن العالم العربي والإسلامي يواجه العديد من الشائعات الكاذبة والمفاهيم التى تدعو إلى تزييف الوعي باستخدام الوسائل الحديثة.
وأكد مفتي الجمهورية، أن الوسائل التكنولوجية الحديثة أحد أهم النعم التي حباها الله للإنسان لكن البعض أساء استخدامها بشكل مهين، فالدول والجماعات المتطرفة تستخدم مواقع التواصل الاجتماعي للقضاء على الشخصية وطمس الهوية والقيم الإنسانية وتصدير كل ما تريده.
وأشار إلى أن هناك دولاً عديدة خصصت الكثير من مليارات الدولارات لهدم القيم الإنسانية وطمس الهوية الشخصية.