عن «وردي» نحكي – الهضيبي يس
تاريخ النشر: 7th, September 2023 GMT
عندما رحل خليل فرح ولد محمد عثمان حسن وردي في 19 يوليو 1932 في (صواردة) لتخلف (عازة في هواك) – (احبك بتضحك واحبك عبوس).
حواء هذا الوطن ولادة، فعندما رحل الخليل جاء وردي عملاقان يفصل بينهما (نهر).
وردي قال في حوار شهير لمجلة (المجلة) ابدع فيه السر سيد أحمد توصيفا وتوثيقا انه كان قد حصل على (الطمبور) لساعة واحدة مقابل غسل صحون (100) طالب في اليوم.
وقد جاء في الحوار (كانت المدرسة توجد في (عبري) على مسافة 28 كلم من (صواردة) وقد دخلتها ومكثت في الداخلية ومعي رغبتي في تعلم الطمبور ، واذكر انني وجدت مساعد طباخ (مرمطون) يدعي عوض عبدالغني من بلدة (عمارة) كان لديه طمبور ويطلب مني غسيل صحون الطلاب قبل ان يسمح لي باستعارة طمبوره.
وكان الاتفاق ان اغسل صحون 100 طالبا يوميا ويقوم هو باعطائي الطمبور لفترة ساعة من الزمان).
هذه الارادة والعزيمة التى جعلت ودري يغسل صحون (100) طالبا يوميا مقابل الحصول على (الطمبور)هي التى جعلته بتلك الاحترافية والابداع العظيم.
ليس هناك فنان واحد في هذا الجيل مستعد ان يغسل صحن واحد لكي يتعلم مثلا العزف على (العود).
وردي عملها في سبيل الحصول على (الطمبور) لساعة واحدة فقط…وردي يفعل ذلك ويغسل صحون (100) طالب يوميا وعمره وقته (11) عام فقط.
العبقرية تبدأ من تلك السن كان وردي وهو في تلك السن عندما يغني في شواطئ النهر ..يخرج اهالي القرية للاستماع لذلك الصوت الذي يبحثون عن (الحنجرة) التى خرج منها.
كان وردي عندما يترنم ببعض المقاطع في مدرسة (عبري) وداخليتها كان يسمعه (ابراهيم عمر النحاس) ناظر مدرسته فيضرب الشباك بعصاه فيفتح وردي النافذة ويقول له (ما تخاف يا محمد انت بتقول شنو)
يرد وردي بصوت مرتجف ويقول له (بمدح).
فيضيف ناظر المدرسة(صوتك سمح ، امدح)ثم يقول له يا ولدي انت يا ح تصبح غناي يا ممثل.
هذا الناظر الذي تنبأ لوردي بتلك المكانة وردي غنى في زواج بناته السبعة تكريما له كنوع من الوفاء والتقدير.
ومن حكاية وردي التى تؤكد لنا ان العبقرية والموهبة لا تحددها (نتائج) المدارس فقد يحزر الطالب درجة متقدمة فيتأخر في الحياة وقد يكون الطالب متأخرا في المدرسة فيتقدم في الحياة.
يقول وردي في حواره الشهير الذي يشكل مرجعية اولى لتاريخ وردي (من جملة طلاب سبع مدارس من بينها مدرستنا كان المطلوب فقط 40 طالبا ليدخلوا مدرسة حلفا الوسطى من مدارس المرحلة الاولية في المنطقة . وعندما امتحنت جاء ترتيبي رقم 41 وهو ما أثار شيئا من الحزن عند اهلي).
في عام 1954 حصل الفنان محمد وردي على اول (عود) يخصه وحده وذلك بعد اشترى له ابوراس ايوب ذلك العود بعد ان كان وردي قد تعلم العزف على العود في منطقة (شكت).
العود هذا كان ثمنه (3) جنيهات وكان راتب وردي وهو مدرسا (9) جنيهات.
وردي حتى رحيله كان يحتفظ بهذا العود الذي قدم لنا (لو بهمسة) بكل ذلك الاثر والضجيج الذي ملأ الدنيا ابداعا.
اما اول راديو اغتناه الفنان محمد وردي في منطقة صواردة فقد كان في عام 1952، وكان ثمنها (5) جنيهات.
فيه كان يسمع لابراهيم عوض وحسن عطية وابراهيم الكاشف.
هكذا كانت مملكة وردي تؤسس بهذه البساطة والاجتهاد – والبحث الدائم لذلك كانت (قيمة) وردي كبيرة – لأنه حصل على تلك الادوات بعد معاناة وجهد.
في عام 1956 ذهب الفنان محمد وردي الى مدرسة التدريب في شندي وبقى فيها حتى يوليو 1957م.
يخيل ان (شندي) فيها ذلك (العبق) الذي يعطي الذين يمرون عبرها ذلك الخلود وذلك التميز.
من الصدف العجيبة ان وردي في مدينة شندي درس الفنان الطيب عبداللـه الذي كان (مشاكسا) حسب تعريف وردي له وقد نال الطيب عبداللـه (علقة) من وردي في حصة الرياضيات.
في شندي ايضا إلتقى محمد وردي بالفنان ابراهيم عوض الذي كان وردي معجبا به، وردي وزع تذاكر حفلة ابراهيم عوض في شندي.
محمد وردي في شندي منعوه في البدء مقابلة ابراهيم عوض رغم من انه وزع (200) تذكرة من تذاكر الحفل.
وعندما سمح له اخيرا بمقابلته يقول الاستاذ السر سيد أحمد ان وردي قال لابراهيم عوض : ( انت فنان عظيم وأنا احبك جدا واقوم بتقليدك ، والناس تقول ان صوتي جميل ..من فضلك هل ممكن ادخل الاذاعة).
فيرد ابراهيم عوض وهو يلبس بدلة سوداء تلمع وكرافتة حمراء : (مسألة الاذاعة دي صعبة شوية).
بعد فترة حسب رواية وردي للسر سيد احمد جاء الفنان احمد المصطفى ونزل في منزل الدكتور احمد حسن آدم فذهب له محمد وردي واخذ منه (العود) وغني لابراهيم عوض فقال له احمد المصطفى (انت ليه بتقلد ابراهيم عوض ، انت صوتك اجمل منه .. واجمل من صوت اي فنان).
من شندي بدأت تظهر علامات وردي…وبدأ حلم الخرطوم يكبر عنده.
في عام 1957م كانت حدائق الخرطوم اكثر (ثمرا) كان (البرتقال) اكثر (حلاوة) والازهار اكثر (تفتحا).
النخل مع قلته في العاصمة – إلّا ان الناس شاهدوا تمايله (طربا) بصورة اكبر من تلك التى اعتاد عليها الناس في طرب النخيل.
حتى (الصيف) في ذلك العام كان (ربيعيا).
حتى الليالي (القمرية) في ذلك العام كانت اكثر (فرحا) وهى تفج ظلمة تلك (الليالي) ووردي يسردب بـ (القمر بوبا).
ذلك العام كان هو العام الذي جاء فيه محمد وردي للخرطوم – احتفى به اولاد اهله (النوبيين).
ومنحوا (القهوة) بفضله تلك (النكهة) التى تعرف بها الآن.
قدر وردي كان ان يغني في الخرطوم في بيت المال في زواج صلاح حسن القاضي ليغيب ابراهيم عوض او يتأخر قليلا عن الحضور وهو فنان الحفل الاساسي فيغني وردي.
ليقف وردي لاول مرة امام المايكروفون ليردد اغنيات ابراهيم عوض فليس هناك احد يعرف اغنيات وردي وقتها او يعرف وردي نفسه، وابراهيم عوض الذي وصل للحفل بعد الساعة الثانية صباحا وحفلات ذلك الزمن تستمر حتى شروق الشمس – غير ان العريس صلاح حسن القاضي استقبل ابراهيم عوض في الباب وشكره وقال له ما في داعي تغني بعد كدا.
كان ذلك لأن محمد وردي نال اعجاب الحضور وحصل على ادهاشهم ليغلب وردي في اول حفلاته الفنان الذي يغني له اغنياته.
في يوليو 1957 دخل وردي للاذاعة لاجازة صوته من لجنة تتكون من مدير الاذاعة متولي عيد ونائبه عبدالرحمن خانجي وكبير المذيعين بكر خاطر وعلى شمو الذي اوصاه متولي عيد على متابعة ورعاية هذا الفنان الجديد.
وردي في تلك الجلسة غنى لهذه اللجنة (3) ساعات متواصلة حتى كادت ان تفوتهم صلاة الجمعة (اليوم كان جمعة) ..واللجنة في الغالب كانت لا تستمع للفنان اكثر من ربع ساعة.
اللجنة لم تكتف باجازة صوت وردي فقط، بل اتصلت بوزير الحكومة المحلية الذي اتصل بحسن نجيلة وكان وقتها مفتشا للتعليم وطلبوا منه نقل محمد وردي من شندي ليعمل معلما في الخرطوم.
استأجروا له منزلا في الديوم ..(من غريب الصدف ان مصطفي سيد احمد عندما جاء للخرطوم من ود سلفاب ايضا استأجر في الديوم).
في عام 1957 التقي وردي باسماعيل حسن الذي اعجب به وكتب له اغنية (يا طير يا طاير) ليلحنها له خليل احمدوكتب له معها (الليلة يا سمراء)ليقدمها وردي في حفل الاذاعة لاول مرة في 19 يوليو 1957م.
يا طير يا طير او (الحب والورود) كانت فيها بساطة (المفتاح)منها بدأ وردي وتشكلت علاقة اعظم ثنائيات الاغنية السودانية.
بعد ذلك كتب وردي بنفسه اغنية (اول غرام) ولحنها وكانت تحكي عن قصة حب عاشها وردي في الخرطوم..يقول وردي عنها لمعاوية جمال الدين (انا رجل ريفي وفدت الى الخرطوم في سن ليست صغيرة و (اول غرام) كان اول حب لي في المدينة..قد اكون احببت في قريتي كثيرا ، لكن اغنية (اول غرام) كانت تعبيرا عن اول قصة حب لي في المدينة). الاسم الصحيح للاغنية هو (ليالي اللقاء) وليس (اول غرام) .
هذه الاغنية قادتنا إلى سلسلة من الاغنيات ، إلى ان انتهت قصة الحب في العام 1962 ، وكانت بدأت في العام 1957م).
وردي غني لملهمته تلك صدفة وحنية وغلطة وخاف من اللـه والمستحيل وسؤال(كده أسأل قلبك عن حالي اسألو) التى قدمها في طوكر لاول مرة سنة 1959م.
قبلها غني وردي في عام 1958 اغنية (بشوف في شخصك احلامي) لكمال محيسي…وذات الشامة ايضا كانت في 1958 لاسماعيل حسن.
وقدم معها في حفلاته الاذاعية الاولى ( يا سلام منك أنا آه) و (ليه نسيت ايامنا).
في عام 1958 اشتري محمد وردي اول عربة خاصة به.
هكذا يبدأ العملاق.
في الاكتوبريات قدم وردي العديد من الاغاني المحتشدة بالوطن، فغني للفيتوري والطاهر ابراهيم وصلاح احمد ابراهيم ومحمد المكي ابراهيم.
وقدم وردي اغنية (اصبح الصبح) ولحنها قبل ثورة اكتوبر ثم قدمها بعد 1964.
في تلك الفترة لم يغن وردي عاطفيا غير (يا اعز الناس) للحلنقي و (عذبني) لمحمد يوسف موسي.
قبلهما طبعا قدم وردي (الوصية) التى لحنها برعي محمد دفع اللـه وغني (حرمت الحب والريدة) للطاهر ابراهيم كلمات والحان.
في 1966 غني وردي للتجاني سعيد (من غير ميعاد)وغني له (قلت ارحل) سنة 1972 بعد خروجه من سجن كوبر وقد لحنها وردي في السجن دون الاستعانة بآلة موسيقية.
يقول وردي عن (قلت ارحل) انها الاغنية التى يغنيها بكل وجدانه وكامل صوته..وقد بكي وردي في هذه الاغنية عندما قدمها في حفل لندن سنة 1995م.
وغني وردي في فترة اكتوبر (بسيماتك) لعلي عبدالقيوم وقدم (الود) لعمر الطيب الدوش وغني للدوش في 1973 (بناديها) بعدها غني للدوش (الحزن القديم).
الاغنيات التى شكلت منعطفات في حياة وردي حسب قوله هي المستحيل وخاف من اللـه وبعد ايه.
بقت (الود) علامة فارقة في الكلمات وفي اللحن، والتوزيع.
بها دخل وردي على عمق الموسيقي.
الحزن القديم شكل الحالة الفلسفية كلها للاغنية السودانية .
المصدر: نبض السودان
كلمات دلالية: الهضيبي عن نحكي وردي يس فی شندی فی عام
إقرأ أيضاً:
في مناقب الباقر العفيف «1 – 3»
في مناقب الباقر العفيف «1 – 3»
النور حمد
لقد عشت ومعي العديد من الأصدقاء المقربين من الراحل العزيز، الدكتور الباقر العفيف، مراحل صراعه مع المرض، عن كثبٍ، منذ أن اكتشف إصابته به منذ حوالي سبع سنوات. وقد ظل الأمل يحدونا، طيلة هذه السنوات، أن يتحقق له منه الشفاء التام، خاصةً وأن دورات العلاج الأولى التي امتدت لسنواتٍ، وتنوَّعت بين العلاج التقليدي في الولايات المتحدة، والعلاج البديل في كل من ألمانيا والمكسيك، قد أحدثت إبطاءً ملحوظًا في تقدم المرض. ومما أنعش أملنا في تحقُّق الشفاء التام له، أن سرطان البنكرياس يُعدُّ الأخطر، فهو لا يمهل من يصيبه سوى بضعة شهور. لذلك، ما أن تعدت مقاومة الأخ الباقر له العامين، هدأت مخاوفنا قليلاً، وأصبحنا أكثر أملاً في بلوغه التعافي التام. وعمومًا مهما كان نوع المرض، ومهما كانت درجته من الخطورة، فإن الشفاء التام منه يحدث أحيانا. إلى جانب ذلك، فإن الأدب القرآني ينبهنا قائلاً: “وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ”.
إلى جانب ما تقدَّم، كانت لدى الباقر همة عالية لا تعرف الونى. كما أن الله حباه بخاصية الصبر الجميل، والتركيز العالي على معيشة اللحظة الحاضرة، دون شكوى، والانحصار في أداء واجباته التي نذر لها نفسه في التنوير، وفي الفعل السياسي، والناشطية المدنية. كل تلك الخصائص النادرة، التي اتسم بها الباقر، وعلى رأسها عدم الشكوى، جعلتنا نشعر أنه في طريقه إلى التعافي. لكن، في الشهور الست الأخيرة إزدادت عليه وطأة المرض، ومع ذلك ظل منشغلاً بالهم العام، بأكثر مما هو منشغلٌ بأمر نفسه. عاش الباقر ممسكًا بالميزان، بدقة، بين تدهور حالته الصحية وتفاقم الآلام والمقاساة، وبين أداء ما يراه واجبًا عليه. لم يجزع الباقر قط من يد الموت التي كانت تمد براثنها إليه، ولم يبعده ذلك عن الانشغال بالهم العام، حتى بلغ الكتابُ أجله، وأسلم الروح إلى بارئها راضيًا مرضيا.
الواجب المباشرفي وصيته التي قمت بنشرها الأسبوع الفائت، أشار الباقر إلى “الواجب المباشر”. و”الواجب المباشر” تعبيرٌ استخدمه الأستاذ محمود محمد طه ليسمى به سلسلة من ندوات التربية الداخلية للجمهوريين والجمهوريات التي كان يقيمها. وقد هدفت ندوات الواجب المباشر إلى تنمية قدرة الفرد على معرفة أي واجباته هو الأوجب، الذي ينبغي أن يجد عنده الأولوية على غيره. كانت تلك الندوات ضمن مئات الندوات الداخلية التي طرقت مواضيع أخرى متعلقة بالسلوك وبالعرفان. ولقد كانت أولى الندوات الداخلية التي حضرتها للأستاذ محمود محمد طه، في منزل أحد إخواننا الجمهوريين في عام 1972، واحدةً من ندوات “الواجب المباشر”. حينها، كنت طالبًا في السنة الثانية في كلية الفنون. وهو الوقت الذي بدأت أتعرف فيه على فكر الأستاذ محمود محمد طه وأقترب من الدخول في مجتمعه الصغير الذي صنعه.
ما تعلمته من جلسات الواجب المباشر، أن معرفة الواجب المباشر ومنحه الأولوية تعتمد على عنصرٍ آخر، هو الحيدة العقلية. والحيدة العقلية لا تأتي إلا عن طريق العبادة المجوَّدة والتَّفَكُّر الذي يقود إلى الرضا بما اختاره الله لك. وقد ورد في حكم ابن عطاء الله السكندري، قوله: “من وثق بحسنِ اختيارِ الله له، لم يتمنّ غير الحالة التي هو فيها”. وهذا مقامٌ لا يقومه إلا من بلغوا شأوًا في التوحيد والمعرفة بالله والرضا به. فالمرء قد يختار، أحيانًا، واجبًا أقلَّ مباشرة، وأقل أهمية، فيندفع إلى أدائه، جاعلاً منه واجبًا مباشرًا، في حين يكون السبب هو مجرد الهروب من الواجب المباشر الحقيقي، الذي يكون أداؤه أكثر مشقةً من الذي اختاره. فالمرء، على سبيل المثال، قد يتحجج أمام نفسه ويخدعها بأن واجبه المباشر هو زيارة قريبٍ له مريض في المستشفى، ليتجنب واجبًا آخر يقتضي منه سفرًا شاقًا وخروجًا عن الروتين المعتاد. وهذا مجرد مثال لنقيس عليه عليه.
الذي أعاد إلى ذهني ذكرى تلك الأيام وتلك الجلسات ما شاهدته من الباقر في الأعوام الأخيرة من حياته الخصبة المثمرة. لقد جسَّد الباقر العفيف ما تلقاه من تربيةٍ علي يد الأستاذ محمود محمد طه، في هذا المضمار، تجسيدًا لافتًا. لم يعذر الباقر نفسه، وهو تحت ضغط الآلام الهائلة واعتلال الصحة وضعف البدن عن واجبٍ قط. وهذا من المَحَكَّات التي يظهر فيها نور المعرفة الذي يجعل صاحبه قادرًا على تحييد عقله وتحديد أي الواجبات أوجب، وهو ما يقود إلى الإمساك بزمام النفس، وإلزامها بأداء الواجب المباشر في الوقت المطلوب. لقد كان في وسع الباقر أن يجعل من الإخلاد إلى الراحة، بين جلسات العلاج التي تتقارب أحيانًا، وتتباعد أحيانًا أخرى، عذرًا عن المشاركة في العمل العام، لكنه، لم يفعل. لقد ظل يقوم برحلاتٍ متعاقبة في أوقاتٍ متقاربةٍ من أمريكا إلى شرق إفريقيا. شملت أديس أبابا ونيروبي وكمبالا، وهي تمتد أحيانًا إلى عشرين ساعة، وهي مما يصعب حتى على الأصحاء.
عندما تعرَّفتُ على الباقر في نهايات سبعينات القرن الماضي، كان طالبًا في كلية التربية بجامعة الخرطوم. ولقد لمحت فيه منذ ذلك التاريخ، سمات الشخصية المستقلة دفَّاقة الحيوية. افترقنا عقب إعدام الأستاذ محمود محمد طه في عام 1985، ولم ألتقه مرةً أخرى، إلا عندما زرته في مانشستر في عام 1997، وهو في معمعة التحضير لدرجة الدكتوراه. ثم افترقنا مرة أخرى ولم نلتق إلا في واشنطن حوالي عام 2005، عندما جرى اختياره زميلا باحثًا في معهد الولايات المتحدة الأمريكية للسلام، لمدة عام. وحين قدمت في واحدةٍ من زياراتي من قطرٍ إلى الخرطوم، في عام 2007، بعد غيابٍ مستمر عن السودان، بلغ 18 عامًا، وجدته قد أسس مركز الخاتم عدلان للاستنارة والتنمية البشرية. كنت أزوره في كل زيارة لي من الدوحة إلى الخرطوم، وأدهش من مقدراته الإدارية وصبره على العمل. كان الباقر يسكن في الطابق الثاني من مبنى المركز، لا يفصل بين غرفته ومكتبه سوى جدار. ويمكن أن يلخص المرء حياته في تلك الأيام بأنها انتقالات متكررة بين سرير نومه وكرسيه في مكتبه المجاور لغرفته، الذي كان يجلس عليه، أحيان كثيرة، لأكثر من اثنتي عشر ساعة في اليوم.
تأسس مركز الخاتم عدلان في يوليو 2007م وتم إغلاقه ومصادرة أصوله بواسطة مفوضية العون الإنساني في 31 ديسمبر 2012. وقد ظل المركز منخرطًا عبر سنواته الخمس تلك في صراع لا يتوقف مع مفوضية العون الإنساني التي يهيمن عليها جهاز الأمن الكيزاني. كانت تلك الفترة هي فترة ما بعد اتفاقية نيفاشا. وكان على السلطات أن تبدي مرونة تجاه حرية الرأي وإفساح المجال لأنشطة المجتمع المدني المختلفة. لكنها كانت تمنح المساحة باليد اليمنى، ثم لا تلبث أن تقلصها باليد اليسرى, فالكيزان، كما هو دأبهم، لا يخشون شيئًا مثلما يخشون مناخ الحرية والديمقراطية وحيوية المجتمع المدني. لقد كان المركز في سنواته الخمس تلك شعلة من النشاط لا تهدأ أبدًا. فقد أجرى العديد من الدورات التدريبية للشباب من الجنسين في مختلف جوانب بناء القدرات. كما أقيمت فيه الندوات في مختلف المواضيع، إلى جانب العروض الموسيقية. أيضًا، أسس المركز ناديًا للسينما، كما شرع في إصدار الكتب. تزايد الإقبال على المركز، الأمر الذي أزعج السلطات. باختصار، حرك المركز ركود المجال العام، وركود المجال العام حالة يعشقها الكيزان ويعملون على خلقها واستدامتها. لذلك، ما أن انتهت الفترة الانتقالية، وانفصل الجنوب، سعوا عبر عديد المسوغات الواهية إلى إغلاقه. فكان الإغلاق وكان الانتقال إلى يوغندة. (يتواصل الأسبوع المقبل).
الوسومالأستاذ محمود محمد طه الباقر العفيف الواجب المباشر د. النور حمد مركز الخاتم عدلان مناقب