في غياب مثير لمصر الشريك التجاري والاقتصادي والاستراتيجي والأمني لكل من دولة الاحتلال واليونان وقبرص، وقعت الدول الثلاث، اتفاقية شراكة بمجال الطاقة الأهم عالميا لتصدير الغاز من الأراضي الفلسطينية المحتلة إلى أوروبا، وللربط بين شبكات الطاقة الخاصة بهم، وفق ما نقلته وكالة "رويترز".

وأشارت الوكالة، إلى أهمية ملف الغاز في إقليم شرق المتوسط ولأوروبا، موضحة أنه جرت اكتشافات غازية كبيرة بشرق البحر المتوسط بالعقد الماضي، معظمها قبالة إسرائيل ومصر، لافتة إلى ارتفاع الاهتمام الأوروبي بملف الغاز منذ أن أدى الغزو الروسي لأوكرانيا إلى التأثير على التدفقات إلى القارة العجوز.



"مشروعات منافسة لمصر"
وعقد زعماء الدول الثلاث القبرصي نيكوس خريستودوليدس، واليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس، والإسرائيلي بنيامين نتنياهو، قمة بالعاصمة القبرصية نيقوسيا، الإثنين، وسط حديث جديد عن مقترح إنشاء خط أنابيب للغاز يربط بين إسرائيل وأوروبا، ما يثير التساؤلات حول غياب مصر عن تلك الاتفاقيات المليارية الهامة.

وفي وقت سابق من هذا العام، اقترحت قبرص تسريع وصول الغاز بإنشاء خط أنابيب بطول ألفي كيلومتر يربط حقول الغاز الإسرائيلية بالبحر المتوسط بمنشأة تسييل قبرص، وشحنها إلى أوروبا، ما يعد مشروعا على الرغم من تكلفته ومخاطره منافسا لخطط مصر لتسييل الغاز الإسرائيلي في محطاتها على البحر المتوسط، وفق مراقبين.

وفي كانون الثاني/ يناير 2020، اتفقت تل أبيب ونيقوسيا وأثينا على مشروع "إيست-ميد"، بمد خط أنابيب من إسرائيل إلى جزيرة كريت اليونانية وصولا لشبكة أنابيب الغاز الأوروبية عبر إيطاليا ينقل 10 مليار متر مكعب من الغاز سنويا.

ووفق نشرة "انتربرايز"، الثلاثاء، تعد اليونان وإسرائيل وقبرص شركاء ومنافسين لمصر في ذات الوقت، حول صادرات الطاقة إلى أوروبا، لافتة لوجود عدة مشروعات متنافسة مخطط لها.

وفي إشارة لاستمرار حظوظ مصر في هذا الملف الهم، أكدت النشرة الاقتصادية اليومية أن مصر تعد حاليا الطريق الوحيد الذي يمكن لإسرائيل من خلاله إرسال شحنات الغاز لخارج المنطقة، مع عدم امتلاكها لخطوط أنابيب أو محطات إسالة خاصة بها في الوقت الحالي.

ويظل ملف الغاز في مصر ملفا غامضا وشائكا وتغيب عن تفاصيله المعلومات الدقيقة، خاصة لما حدث فيه من تضارب مثير للجدل بين إعلان القاهرة الاكتفاء الذاتي من الغاز خاصة منذ اكتشاف حقل "ظُهر" للغاز الطبيعي، شرق البحر المتوسط، عام 2015، وتحقيق وفرة يتم تصديرها للخارج، ثم تراجع إنتاج الغاز وعمليات التصدير العام الجاري.

وهو ما أكدته وكالة "بلومبرغ"، الأمريكية، مشيرة إلى أن عمليات تسليم الغاز من مصر توقفت فعليا في صيف 2023، وأن محطتي الغاز الطبيعي المسال في "إدكو" و"دمياط" لم يصدرا الوقود في حزيران/ يونيو الماضي، باستثناء شحنات محدودة في تموز/ يوليو الماضي.



"اتفاقيات وشراكات.. ولكن"
ووفق مراقبين، فإن غياب مصر عن تلك الاتفاقية يظل أمر مستغربا خاصة مع اتفاقياتها لاستيراد الغاز الإسرائيلي وتسييله عبر محطات الإسالة في "إدكو" و"دمياط" وتصديره إلى أوروبا، بعقد اتفاق جرى عام 2018، والعام الجاري.

وفي 24 آب/ أغسطس الماضي، عقدت مصر مع الكيان الإسرائيلي المحتل اتفاقية جديدة لاستيراد مزيد من الغاز الطبيعي، من حقل "تمارا" بالبحر المتوسط، بنحو 3.5 مليار متر مكعب سنويا لمدة 11 عاما تقريبا، بإجمالي 38.7 مليار متر مكعب.

وهي الاتفاقية التي تأتي بعد 5 أعوام ونصف من اتفاقية شباط/ فبراير 2018، بين شركة "دولفينوس" المصرية للطاقة ومجموعة "دلك" الإسرائيلية للطاقة لتصدير الغاز الطبيعي لمصر بقيمة 15 مليار دولار لبيع 7.2 بليون متر مكعب من الغاز الطبيعي سنويا، مدة 15 عاما، بقيمة مالية أعلى من السوق العالمية.

وتبيع إسرائيل حاليا نحو 4.6 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي سنويا إلى مصر، التي تصدر بعد ذلك جزءا منه إلى أوروبا من خلال منشآت إسالة الغاز الطبيعي وتستخدم الجزء المتبقي للاستهلاك المحلي.

كما أن تلك القرارات المهمة بين إسرائيل واليونان وقبرص حول كيفية إيصال الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا، دون مصر تأتي برغم عقد مصر وإسرائيل والاتحاد الأوروبي اتفاقية منتصف 2022، لتصدير الغاز لأوروبا الغربية.

كما أن تلك الاتفاقية الثلاثية تأتي برغم ما عقده السيسي من لقاءات مكوكية لا تنقطع مع قادة اليونان وقبرص بخصوص ترسيم الحدود البحرية وتقسيم مناطق الغاز بالمنطقة الاقتصادية في شرق المتوسط.

وفي 21 تشرين الأول/ أكتوبر 2020، رحب السيسي بالاتفاقية البحرية بين مصر واليونان وقبرص، معلنا تضامنه مع اليونان ضد ما أسماه "السياسات الاستفزازية والتصعيدية" بشرق البحر المتوسط، ملمحا إلى تركيا، وهي الاتفاقية التي تنازلت بموجبها مصر عن نحو 7 آلاف كلم² من حدودها المائية.

وفي إطار حالة العداء المصرية التركية منذ انقلاب السيسي، على الرئيس الراحل محمد مرسي، منتصف 2013، حاول السيسي، صناعة تحالف مع قبرص واليونان جارتا أنقرة، مستغلا ما بينهم من خلافات سياسية، وذلك إلى جانب التحالف مع إسرائيل.

"بنية تنسف أي اتفاق"
وفي حديثه لـ"عربي21"، قال الباحث المصري المتخصص في شؤون الطاقة وقضايا الشرق الأوسط خالد فؤاد، إن "القمة الثلاثية بين إسرائيل وقبرص واليونان لتعزيز التعاون في مجال الطاقة، ولا يوجد اتفاقية على بناء أو إنشاء أو تصدير غاز من إسرائيل إلى قبرص، ولا أي شكل من أشكال الاتفاقيات الواضحة".

وتحدث فؤاد، عن عقبات إنشاء خط أنابيب بحري يربط إسرائيل وقبرص واليونان وإيطاليا لتصدير الغاز إلى أوروبا، موضحا أنه "حديث قديم منذ اكتشاف تل أبيب حقلي الغاز العملاقين تمار ولفياتان، وهي تسعى لإنشاء خط إيست ميد".

ولفت الخبير المصري إلى أن ذلك الخط "يواجه صعوبات التكلفة العالية وصعوبات ثانية تقنية خاصة وأنه مقرر إنشاؤه بأعماق البحر المتوسط، بجانب تحديات سياسية كون مسار الخط يتقاطع مع مساحات بالحدود البحرية محل خلاف تركي يوناني".

وعن أسباب إعادة الحديث مرة أخرى عن ذلك الخط، أكد فؤاد، أن "الأمر مرتبط بما حدث على خلفية الحرب الروسية في أوكرانيا، حيث أصبحت مسألة إيجاد أوروبا البديل للغاز الروسي هامة، ما فتح الباب أما مشاريع غير ذات جدوى من قبل، وهنا تم طرح مشروع الخط البحري مرة أخرى".

ولفت إلى صعوبة أخرى تعيق تنفيذ هذا الخط، مبينا أن "الولايات المتحدة أعلنت مطلع 2022، عدم استعدادها دعم هذا الخط، لتكلفته العالية جدا، وذلك بجانب وجود مخاطر جيوسياسية"، مضيفا: "ولكن بعد أزمة أوكرانيا أصبحت أوربا بحاجة ماسة للغاز وتبحث في جميع المسارات للتزود منه".

وتحدث الخبير في ملف الطاقة المصري، كذلك عن أزمات قبرص كمنتج منافس للغاز مع مصر، وأوضح أن "قرص لديها مشاكل في تطوير حقل (أفروديت)، المكتشف منذ سنوات والمفترض أن المشغل له عملاق الطاقة الأمريكي (شيفرون)".

وبين أنه "وحتى الآن لم يصل الطرفان لاتفاق واضح، فقبرص متمسكة بتطوير الحقل وإنشاء محطة تسييل على سواحلها مثل مصر، بحيث تصبح منصة تصدير الغاز لأوروبا وتقوم بنفس الدور المصري".

ولفت إلى أن "(شيفرون)، ترى أن هذا الشكل مكلف، والأفضل تطوير الحقل، وإنشاء خط يربط أفروديت بمحطتي التسييل المصرية في إدكو ودمياط، وهنا التكلفة أقل، ويصل الغاز القبرصي لمحطات التسييل كالغاز الإسرائيلي".

وخلص فؤاد، للقول إن "معنى هذا الحديث أن دول الشرق الأوسط بطبيعة الحال وبعد الغزو الروسي لأوكرانيا تسعى جميعها لتعزيز فرصها لتصدير الغاز الطبيعي، والدول التي تمتلك حقول غاز مثل مصر وقبرص وإسرائيل تسعى لعقد صفقات وتزيد إنتاجها ومشاريع بنية تحتية تساهم في تصدير غازها لأوروبا".

"كذلك الدول الأخرى التي لا تمتلك حقول غاز في شرق المتوسط مثل تركيا اليونان لديها طموحات في التنقيب عن الغاز، وأن تصبح محطة أو ناقل للغاز إلى أوروبا، وتستفيد من الناحية الاقتصادية والجيوسياسية للقيام بهذا الدور".

ولفت إلى أنه "في نفس الإطار فإن الاستثمار في الغاز والنفط طويلة المدى، ولذلك ففكرة إنشاء خط (ايست ميد)، أو محطة تسييل عائمة في قبرص فإن هذا النوع من البنية التحتية مكلف جدا، غير أنه يحتاج من 3 إلى 5 سنوات".

وأوضح أن "معنى هذا أن تظل مصر في الوقت الراهن وعلى المدى القصير منصة تصدير الغاز الرئيسية بشرق المتوسط، لامتلاكها محطتي التسييل في إدكو، ودمياط، وإذا كان هناك منافس لمصر في المشاريع المحتملة -حتى الآن محتملة وليس هناك ما يؤكد أن المشاريع القبرصية الإسرائيلية ستتم- فتكون بعد 5 سنوات".

وختم بالقول: "النقطة الأهم بالنسبة لمصر الراغبة في زيادة إنتاجها وبالطبع تصديرها لاستغلال حاجة أوروبا للغاز هي معاناتها حاليا من انخفاض الإنتاج وزيادة معدلات الاستهلاك المحلي وبالتالي تناقص صادرات الغاز المسال".

"ولكن تبقى مصر هي منصة تسييل وتصدير الغاز لأوروبا والتي تستقبل الغاز الإسرائيلي لتسييله وتصدير جزء منه والباقي للاستهلاك المحلي"، بحسب الخبير المصري.



"تجاهل بديهي"
وفي وجهة نظر الخبير الاقتصادي والأكاديمي المصري الدكتور أحمد ذكرالله، خلال حديثه لـ"عربي21"، فقد "ظهر في الفترة الأخيرة أن مصر أسرفت في استخدام احتياطيات الغاز لديها".

أستاذ الاقتصاد، كلية التجارة، جامعة الأزهر أضاف أن "التقارير التي تأتي من جهات متعددة تشير إلى تراجع الصادرات المصرية من الغاز الطبيعي بنسب ضخمة للغاية خلال العام الحالي نتيجة تآكل احتياطاتها من الغاز بسبب الإسراف في عملية الاستخراج والتصدير خلال العام الماضي".

 وأكد أن "مشكلة الكهرباء التي ظهرت في مصر منذ أشهر، واضطرار الحكومة لقطع الكهرباء عن المواطنين في المنازل يوميا لفترة أو فترتين في عملية عشوائية ثم تحويلها لعملية أكثر تنظيما يدل بوضوح على أن مشكلة مصر مشكلة إنتاج غاز طبيعي".

خبير واستشاري التدريب ودراسات الجدوى المصري، قال إنه "وبناء على ذلك فإن الحديث عن تجاهل مصر في اتفاقية شراكة ثلاثية مثل هذه لتصدير الغاز لأوروبا هو تجاهل بديهي وطبيعي، ومنطقي نتيجة أن مصر لا تمتلك من الاحتياطيات ما يمكن تصديره حتى الآن، إلا إذا تمت اكتشافات جديدة".

وحول مراهنة السيسي، على عقد شراكات اقتصادية مع إسرائيل وقبرص واليونان وأن هذا كان خيارا خاطئا لم تستفيد منه مصر شيئا، أكد ذكر الله، أن "الدول تبحث عن مصالحها الخاصة".

وأوضح أنه "لا يوجد ما يمكن أن نسميه مراهنات اقتصادية؛ فهي حسابات، ويجب أن تكون حسابات دقيقة"، مشيرا إلى أن "مصر تركت الامتداد الطبيعي لها نتيجة خلافات سياسية واهية مع تركيا وهذا كان الأقرب لها والأجدى، ولكنها اتخذت مسارا موازيا نكاية في تركيا".

ويعتقد الخبير المصري، أن الحسابات الاقتصادية المصرية "مع فرنسا كدولة استعمارية ومع اليونان كجزء من الاتحاد الأوروبي ومع إسرائيل ككيان استعماري حسابات خاطئة من الناحية الاقتصادية".

وأضاف: "رأينا ذلك في الأزمة الأخيرة للكهرباء، عندما احتاجت القاهرة الغاز الطبيعي، ورغم وجود اتفاقية استيراد غاز مع إسرائيل لم تقدم تل أبيب مبادرة لإعطاء مصر الغاز، وإنما انتظرت كثيرا حتى تدبر مصادر مالية حتى تشتري الغاز وتدفع ما عليها".

وختم ذكرالله بالقول: "إذا الرهان يكون دائما على مصادر يمكن الوثوق بها والاستناد عليها في أوقات الأزمات".

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة مقابلات سياسة دولية الاحتلال الغاز أوروبا القبرصي مصر مصر أوروبا الاحتلال غاز قبرص سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الغاز الإسرائیلی من الغاز الطبیعی ملیار متر مکعب البحر المتوسط الیونان وقبرص إسرائیل وقبرص لتصدیر الغاز شرق المتوسط مع إسرائیل إلى أوروبا خط أنابیب إنشاء خط غاز من إلى أن مصر فی

إقرأ أيضاً:

لماذا تدافع واشنطن عن وجود إسرائيل وتتسامح مع اضطهادها للفلسطينيين؟

نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية، مقال رأي لأستاذ الصحافة بجامعة سيتي في نيويوروك والمعلق في صفحة الرأي بالصحيفة، بيتر بينارت، مقالا ناقش فيه فكرة وجود الشعوب والدول.  

وتساءل الكاتب في مقال ترجمته "عربي21"، وجاء تحت عنوان "الدول ليس لها حق بالوجود أما الشعوب فلها". عن الطريقة التي تعامل فيها واشنطن سواء من الحزب الجمهوري والديمقراطي إسرائيل عبر مقولة "إسرائيل لها حق في الوجود".

وهذه مقولة يتوافق فيها رئيس مجلس النواب مايك جونسون وزعيم الأقلية الديمقراطية حكيم جيفرزي، وكذا إدارة بايدن ووزير الخارجية السابق أنتوني بلينكن ووزير الخارجية الجديد، ماركو روبيو ووزير دفاع ترامب الجديد بيت هيغسيث وكذا زعيم الديمقراطيين في مجلس الشيوخ، تشاك تشومر. وفي عام 2023، أكد مجلس الشيوخ على حق إسرائيل بالوجود في تصويت من 412-1 صوتا.  


ويعلق قائلا إن هذا ليس هو الأسلوب الذي يتحدث به الساسة في واشنطن عادة عن الدول الأخرى. فهم عادة ما يبدأون بحقوق الأفراد، ثم يسألون عن مدى نجاح دولة معينة في تمثيل الناس الخاضعين لسيطرتها. وإذا كان زعماء أمريكا يضعون حياة كل من يعيش بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط في المقام الأول، فسيكون واضحا أن السؤال عما إذا كانت إسرائيل تتمتع بحق الوجود هو السؤال الخطأ. 

 والطريقة لطرح هذا السؤال: هل تحمي إسرائيل، كدولة يهودية، حقوق كل الأفراد الخاضعين لسيطرتها على النحو اللائق؟ والإجابة هي لا.  

ودعا بينارت للتأمل بهذا السيناريو: إذا انفصلت اسكتلندا قانونيا أو ألغى البريطانيون النظام الملكي، فلن تعود المملكة المتحدة موحدة ولا مملكة. وستتوقف بريطانيا كما نعرفها عن الوجود، وستحل محلها دولة مختلفة.  

وسوف يقبل روبيو شومر وزملاؤهم هذا التحول باعتباره شرعيا لأنهم يعتقدون أن الدول يجب أن تستند إلى موافقة المحكومين.   

ويقول بينارت إن قادة أمريكا يؤكدون على هذه النقطة بشكل قاطع عندما يناقشون أعداء أمريكا. فهم غالبا ما يدعون إلى استبدال الأنظمة القمعية بدول تلبي بشكل أفضل المعايير الديمقراطية الليبرالية. وفي عام 2017، زعم جون بولتون، الذي أصبح فيما بعد مستشارا للأمن القومي في إدارة ترامب الأولى قائلا إن: "السياسة المعلنة للولايات المتحدة يجب أن تكون الإطاحة بنظام الملالي في طهران". وفي عام 2020، وصف وزير الخارجية في حينه مايك بومبيو جمهورية الصين الشعبية بأنها "نظام ماركسي لينيني" مع "أيديولوجية شمولية مفلسة".  

وبحسب المقال، لم يكن هؤلاء المسؤولون الأمريكيون يحثون هذه البلدان على استبدال زعيم معين فحسب، بل على تغيير نظامها السياسي، وبالتالي، في جوهره، إعادة تشكيل الدولة. وفي حالة جمهورية الصين الشعبية، التي تدل على هيمنة الحزب الشيوعي أو جمهورية إيران الإسلامية، التي تدل على حكم رجال الدين، فإن هذا يستدعي على الأرجح تغيير الاسم الرسمي للبلاد.  

وفي عام 2020 أعلن بومبيو في خطاب له أن الآباء المؤسسين لأمريكا اعتقدوا أن "الحكومة لا توجد لتقليص أو إلغاء حقوق الأفراد وفقا لنزوات أصحاب السلطة، بل لضمانها".  

ومن هنا فالسؤال: هل يحق للدول التي تحرم الأفراد من حقوقهم الحق في الوجود وبشكلها الحالي؟ وحسب كلام بومبيو، فلا يحق لها.  

لكن، ماذا لو تحدثنا بهذه الطريقة عن إسرائيل؟ فنصف السكان الخاضعين لإسرائيل هم فلسطينيون، معظمهم  من سكان الضفة الغربية وقطاع غزة، ومعظمهم لا يستطيعون الحصول على المواطنة في دولة إسرائيل التي تمارس سلطة الحياة والموت عليهم. ومارست إسرائيل هذه السلطة، حتى قبل هجوم حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وبخاصة أنها كانت تسيطر على المجال الجوي والمجال البحري وتسجيل السكان والمعابر البرية، مما حول غزة حسب وصف منظمة "هيومان رايتس ووتش" إلى "سجن مفتوح".  وحتى الأقلية من الفلسطينيين الخاضعين للسيطرة الإسرائيلية والذين يحملون الجنسية الإسرائيلية والذين يطلق عليهم أحيانا "العرب الإسرائيليون"، تفتقر إلى المساواة القانونية.  

وفي الشهر الماضي، وعد بلينكن بأن الولايات المتحدة سوف تساعد السوريين في بناء دولة "شاملة وغير طائفية"، ومن الواضح أن إسرائيل الحالية ستتفشل في اجتياز هذا الاختبار. ومع ذلك ففكرة دولة غير طائفية وشاملة على هذه الأرض تظل أمرا لا يمكن أن يتصوره قادة اليهود الأمريكيون. والواقع أن اليهود يشعرون بالغضب الشديد عندما يدعو الزعماء الإيرانيون إلى محو إسرائيل من على الخريطة. ولكن هناك فرق جوهري بين دولة تتوقف عن الوجود بسبب غزو جيرانها لها ودولة تتوقف عن الوجود لأنها تتبنى شكلا أكثر تمثيلاً  للحكم، وفقا للمقال.

ولا يصر قادة اليهود الأمريكيين على حق إسرائيل في الوجود، بل ويصرون على حقها بالوجود كدولة يهودية. وهم يتمسكون بفكرة أنها دولة يهودية وديمقراطية في نفس الوقت، رغم التناقض بين التفوق القانوني لجماعة إثنية دينية واحدة والمبادئ الديمقراطية التي تدعو لمساواة الجميع بناء على القانون.  

ويرى بينارت أن الاعتقاد بفكرة الدولة اليهودية  وأنها تحمل قيمة غير مشروطة، بصرف النظر عن تأثيرها على الناس الذين يعيشون داخلها، لا يتعارض فقط مع الطريقة التي يتحدث بها زعماء أمريكا عن البلدان الأخرى. بل ويتعارض أيضا مع التقاليد اليهودية. فهذه لا تنظر إلى الدول باعتبارها تمتلك حقوقا، بل تنظر إليها بريبة عميقة.  

ففي الكتاب المقدس، يطلب أعيان بني إسرائيل من النبي صموئيل تعيين ملك يحكمهم. ويأمر الله صموئيل بأن يحقق رغبة الأعيان، ولكنه يحذره أيضا من أن حاكمهم سوف يرتكب انتهاكات فظيعة. فيقول لهم صموئيل: "سيأتي اليوم الذي تصرخون فيه بسبب الملك الذي اخترتموه بأنفسكم". والمعنى واضح، فالممالك أو الدول في المصطلح الحديث ـ ليست مقدسة. فهي مجرد أدوات، يمكنها إما أن تحمي الحياة أو تدمرها.  

وأشار الكاتب إلى أنه في عام 1975 كتب الناقد الاجتماعي الإسرائيلي الأرثوذكسي يشعياهو ليبوفيتز: "إنني أنكر بشدة أن تكون للدولة أي قيمة جوهرية على الإطلاق". ولم يكن ليبوفيتز فوضويا، ولكن برغم أنه اعتبر نفسه صهيونيا، فقد أصر على أن الدول، بما في ذلك الدولة اليهودية، يجب أن تحكم على أساس معاملتها للبشر الخاضعين لسيطرتها.  

فالدول ليس لها الحق في الوجود. أما البشر فهم من لهم الحق في الوجود. ويشير الكاتب إلى أن أهم رموز الكتاب المقدس مثل موسى ومردخاي، خاطروا بحياتهم عندما رفضوا معاملة الحكام المستبدين كشخصيات مقدسة. وبرفضهم عبادة سلطة الدولة، رفضوا عبادة الأصنام، وهو الحظر الذي يشكل جوهر اليهودية إلى الحد الذي جعل الحاخام يوحنان يصفه في التلمود بأنه التعريف الحقيقي لليهودية.  

واليوم، يبدو هذا الشكل من عبادة الدولة، حاضر في الحياة اليهودية الأمريكية السائدة. ومن الخطورة بمكان أن نبجل أي كيان سياسي، بل الخطورة بشكل خاص هي أن نبجل كيانا يصنف الناس باعتبارهم متفوقين أو أدنى مرتبة على أساس قبيلتهم.  

وعندما تصر الجماعات اليهودية الأكثر نفوذا في أمريكا، مثل الزعماء الأمريكيين، مرارا وتكرارا على أن إسرائيل لها الحق في الوجود، فإنهم يقولون في واقع الأمر إن إسرائيل لا تستطيع أن تفعل شيئا، مهما بلغ الضرر الذي قد تلحقه بالناس الذين يعيشون تحت هيمنتها، بدون الحاجة لإعادة النظر في شخصية الدولة.  


وفعلوا هذا رغم انتهاكات إسرائيل الصارخة لحقوق الإنسان. ومنذ ما يقرب من 16 عاما، أي منذ عودة بنيامين نتنياهو إلى السلطة في عام 2009، حكم إسرائيل قادة يتفاخرون بمنع الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة من إنشاء دولتهم الخاصة بهم، وبالتالي إجبارهم على العيش كمواطنين طارئين، بدون حقوق أساسية تحت الحكم الإسرائيلي.  

وفي عام 2021، اتهمت منظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية "بيتسيلم"، إسرائيل بممارسة الفصل العنصري. وسجل مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية زيادة في الهجمات التي يشنها المستوطنون الإسرائيليون ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس الشرقية في عام 2024 مقارنة بأي عام منذ أن بدأت تسجل الحوادث قبل ما يقرب من 20 عاما.  

ومع ذلك يصر قادة اليهود الأمريكيين والساسة الأمريكيون على التعامل مع فكرة مساءلة مشروعة الدولة اليهودية بأنها أمر غير مشروع، بل ومعاد للسامية "لقد جعلنا إسرائيل مذبحنا" يقول بينارت، وقد تحققت مخاوف ليبوفيتز: "عندما يتم تقديم الأمة والبلد والدولة باعتبارها قيما مطلقة، فإن كل شيء جائز".  

وقال الكاتب إن كثيرا ما يقول زعماء اليهود الأمريكيين إن الدولة اليهودية ضرورية لحماية الأرواح اليهودية. ولا يمكن لليهود أن يكونوا آمنين ما لم يحكمهم اليهود. و"أنا أفهم لماذا يستثني العديد من اليهود الأمريكيين، الذين يعتقدون كقاعدة عامة أن الدول لا ينبغي لها أن تميز على أساس الدين أو العرق أو العرق، إسرائيل. وهذا رد على تاريخنا المؤلم كشعب.

ولكن على الرغم من معاداة السامية العالمية، فإن يهود الشتات، الذين يراهنون على سلامتنا على مبدأ المساواة القانونية ، أكثر أماناً بكثير من اليهود في إسرائيل". ويقول بينارت إن هذه ليست مصادفة، فالبلدان التي يمارس الجميع حق التصويت للحكومة وتسمع أصواتهم، الحكومة، عادة ما تكون أكثرأمانا للجميع.

وبحسب المقال، فقد ووجدت دراسة أجريت عام 2010 على 146 حالة من الصراع العرقي في مختلف أنحاء العالم منذ الحرب العالمية الثانية أن الجماعات العرقية التي تم استبعادها من سلطة الدولة كانت أكثر عرضة لحمل السلاح بثلاث مرات من تلك التي تمتعت بالتمثيل في الحكومة. ويمكن مشاهدة هذه الدينامية في إسرائيل، ففي كل يوم، يخضع اليهود الإسرائيليون أنفسهم تحت رحمة الفلسطينيين عندما يكونوا في أضعف حالاتهم: على طاولة العمليات. ويشكل المواطنون الفلسطينيون في إسرائيل حوالي 20% من أطبائها، و30% من ممرضيها وممرضاتها، و60% من صيادلتها.   

ولكن لماذا يجد اليهود الإسرائيليون المواطنين الفلسطينيين أقل تهديدا من الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة؟  يجيب بينارت بالقول إن هذا يرجع هذا إلى حد كبير لقدرة المواطنين الفلسطينيين على التصويت في الانتخابات الإسرائيلية. فبرغم تعرضهم للتمييز الشديد فإنهم على الأقل يملكون بعض الأساليب السلمية والقانونية لإسماع أصواتهم.  

قارن هذا بالفلسطينيين في غزة أو الضفة الغربية الذين لا يملكون أي وسيلة قانونية للتأثير على الدولة التي تقصفهم وتسجنهم. وعندما تحرم الناس من حقوقهم الأساسية فإنك تعرضهم لعنف هائل. وعاجلا أم آجلا فإن هذا العنف يعرض الجميع للخطر. ففي عام 1956، رأى طفل يبلغ من العمر ثلاث سنوات يدعى زياد النخالة جنودا إسرائيليين يقتلون والده في مدينة خان يونس في غزة. وبعد ما يقرب من سبعين عاما، أصبح هو زعيم حركة الجهاد الإسلامي المنافسة الأصغر حجما لحماس ولكنها لا تقل عنها تشددا.  

وردا على الهجوم الذي نفذته حركة حماس والجهاد الإسلامي في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 وقتل فيه 1.200 إسرائيليا وأسر 250 آخرين، دكت إسرائيل القطاع. وقدرت المجلة الطبية البريطانية "لانسيت" أن عدد شهداء الحرب تجاوز 60,000 فلسطينيا، وتدمير معظم مستشفيات القطاع ومدارسه وزراعته.  



ويشكل تدمير غزة مثالاً مروعا على فشل إسرائيل في حماية أرواح وكرامة كل الناس الذين يقعون تحت سلطتها. إن الفشل في حماية أرواح الفلسطينيين في غزة يعرض اليهود للخطر في نهاية المطاف. ففي هذه الحرب، قتلت إسرائيل بالفعل أكثر من مائة ضعف عدد الفلسطينيين في غزة مقارنة بما فعلته في المذبحة التي أودت بحياة والد النخالة. فكم من الأطفال في سن الثالثة سيظلون يسعون إلى الانتقام بعد سبعة عقود من الآن؟  

لكن في إسرائيل، لا يوجد أي دليل على أن إسرائيل لن تتسامح مع هذه الحرب. فكما حذر عامي أيالون، رئيس جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي السابق (شين بيت)،  حتى قبل الحرب الحالية في غزة: "إذا واصلنا نشر الإذلال واليأس، فسوف تنمو شعبية حماس. وإذا تمكنا من إبعاد حماس عن السلطة، فسوف نواجه تنظيم القاعدة. وبعد القاعدة، وتنظيم الدولة وبعده، لا أحد يعلم إلا الله".  

ولكن باسم سلامة اليهود، يبدو أن المنظمات اليهودية الأمريكية تتسامح مع أي شيء تفعله إسرائيل بالفلسطينيين تقريبا، حتى الحرب التي تعتبرها منظمة العفو الدولية والباحث البارز في الهولوكوست المولود في إسرائيل عومير بارتوف الآن إبادة جماعية. ولكن ما لا يستطيع الزعماء اليهود والساسة الأمريكيون أن يتسامحوا معه هو المساواة بين الفلسطينيين واليهود، لأن هذا من شأنه أن ينتهك حق إسرائيل في الوجود كدولة يهودية، وفقا للمقال. 

مقالات مشابهة

  • ألمانيا لا تزال مركزا لواردات الغاز الطبيعي المسال من روسيا
  • روسيا مهتمة باستئناف نقل الغاز عبر أوكرانيا لأوروبا
  • الكرملين: روسيا مهتمة باستئناف نقل الغاز عبر أوكرانيا
  • المغرب يبدء في الإنتاج التجاري للغاز الطبيعي
  • الكرملين: إمدادات الغاز الروسية لأوروبا تجارية وموسكو مهتمة باستمرارها      
  • لماذا تدافع واشنطن عن وجود إسرائيل وتتسامح مع اضطهادها للفلسطينيين؟
  • مبعوث ترامب يصل السعودية لبحث هدنة غزة.. لماذا تهاجمه إسرائيل
  • وفاة ثلاثة أشقاء أفارقة غرقاً في البحر الأبيض المتوسط أثناء محاولتهم الهجرة إلى أوروبا
  • الاتحاد الأوروبي يتجنب انتهاء عقوبات روسيا بعد اتفاق اللحظة الأخيرة مع المجر
  • المغرب يستعد لإنتاج الغاز الطبيعي لأول مرة في تاريخه