لماذا استثنت إسرائيل وقبرص واليونان شريكتهم مصر من اتفاق تصدير الغاز لأوروبا؟
تاريخ النشر: 7th, September 2023 GMT
في غياب مثير لمصر الشريك التجاري والاقتصادي والاستراتيجي والأمني لكل من دولة الاحتلال واليونان وقبرص، وقعت الدول الثلاث، اتفاقية شراكة بمجال الطاقة الأهم عالميا لتصدير الغاز من الأراضي الفلسطينية المحتلة إلى أوروبا، وللربط بين شبكات الطاقة الخاصة بهم، وفق ما نقلته وكالة "رويترز".
وأشارت الوكالة، إلى أهمية ملف الغاز في إقليم شرق المتوسط ولأوروبا، موضحة أنه جرت اكتشافات غازية كبيرة بشرق البحر المتوسط بالعقد الماضي، معظمها قبالة إسرائيل ومصر، لافتة إلى ارتفاع الاهتمام الأوروبي بملف الغاز منذ أن أدى الغزو الروسي لأوكرانيا إلى التأثير على التدفقات إلى القارة العجوز.
"مشروعات منافسة لمصر"
وعقد زعماء الدول الثلاث القبرصي نيكوس خريستودوليدس، واليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس، والإسرائيلي بنيامين نتنياهو، قمة بالعاصمة القبرصية نيقوسيا، الإثنين، وسط حديث جديد عن مقترح إنشاء خط أنابيب للغاز يربط بين إسرائيل وأوروبا، ما يثير التساؤلات حول غياب مصر عن تلك الاتفاقيات المليارية الهامة.
وفي وقت سابق من هذا العام، اقترحت قبرص تسريع وصول الغاز بإنشاء خط أنابيب بطول ألفي كيلومتر يربط حقول الغاز الإسرائيلية بالبحر المتوسط بمنشأة تسييل قبرص، وشحنها إلى أوروبا، ما يعد مشروعا على الرغم من تكلفته ومخاطره منافسا لخطط مصر لتسييل الغاز الإسرائيلي في محطاتها على البحر المتوسط، وفق مراقبين.
وفي كانون الثاني/ يناير 2020، اتفقت تل أبيب ونيقوسيا وأثينا على مشروع "إيست-ميد"، بمد خط أنابيب من إسرائيل إلى جزيرة كريت اليونانية وصولا لشبكة أنابيب الغاز الأوروبية عبر إيطاليا ينقل 10 مليار متر مكعب من الغاز سنويا.
ووفق نشرة "انتربرايز"، الثلاثاء، تعد اليونان وإسرائيل وقبرص شركاء ومنافسين لمصر في ذات الوقت، حول صادرات الطاقة إلى أوروبا، لافتة لوجود عدة مشروعات متنافسة مخطط لها.
وفي إشارة لاستمرار حظوظ مصر في هذا الملف الهم، أكدت النشرة الاقتصادية اليومية أن مصر تعد حاليا الطريق الوحيد الذي يمكن لإسرائيل من خلاله إرسال شحنات الغاز لخارج المنطقة، مع عدم امتلاكها لخطوط أنابيب أو محطات إسالة خاصة بها في الوقت الحالي.
ويظل ملف الغاز في مصر ملفا غامضا وشائكا وتغيب عن تفاصيله المعلومات الدقيقة، خاصة لما حدث فيه من تضارب مثير للجدل بين إعلان القاهرة الاكتفاء الذاتي من الغاز خاصة منذ اكتشاف حقل "ظُهر" للغاز الطبيعي، شرق البحر المتوسط، عام 2015، وتحقيق وفرة يتم تصديرها للخارج، ثم تراجع إنتاج الغاز وعمليات التصدير العام الجاري.
وهو ما أكدته وكالة "بلومبرغ"، الأمريكية، مشيرة إلى أن عمليات تسليم الغاز من مصر توقفت فعليا في صيف 2023، وأن محطتي الغاز الطبيعي المسال في "إدكو" و"دمياط" لم يصدرا الوقود في حزيران/ يونيو الماضي، باستثناء شحنات محدودة في تموز/ يوليو الماضي.
"اتفاقيات وشراكات.. ولكن"
ووفق مراقبين، فإن غياب مصر عن تلك الاتفاقية يظل أمر مستغربا خاصة مع اتفاقياتها لاستيراد الغاز الإسرائيلي وتسييله عبر محطات الإسالة في "إدكو" و"دمياط" وتصديره إلى أوروبا، بعقد اتفاق جرى عام 2018، والعام الجاري.
وفي 24 آب/ أغسطس الماضي، عقدت مصر مع الكيان الإسرائيلي المحتل اتفاقية جديدة لاستيراد مزيد من الغاز الطبيعي، من حقل "تمارا" بالبحر المتوسط، بنحو 3.5 مليار متر مكعب سنويا لمدة 11 عاما تقريبا، بإجمالي 38.7 مليار متر مكعب.
وهي الاتفاقية التي تأتي بعد 5 أعوام ونصف من اتفاقية شباط/ فبراير 2018، بين شركة "دولفينوس" المصرية للطاقة ومجموعة "دلك" الإسرائيلية للطاقة لتصدير الغاز الطبيعي لمصر بقيمة 15 مليار دولار لبيع 7.2 بليون متر مكعب من الغاز الطبيعي سنويا، مدة 15 عاما، بقيمة مالية أعلى من السوق العالمية.
وتبيع إسرائيل حاليا نحو 4.6 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي سنويا إلى مصر، التي تصدر بعد ذلك جزءا منه إلى أوروبا من خلال منشآت إسالة الغاز الطبيعي وتستخدم الجزء المتبقي للاستهلاك المحلي.
كما أن تلك القرارات المهمة بين إسرائيل واليونان وقبرص حول كيفية إيصال الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا، دون مصر تأتي برغم عقد مصر وإسرائيل والاتحاد الأوروبي اتفاقية منتصف 2022، لتصدير الغاز لأوروبا الغربية.
كما أن تلك الاتفاقية الثلاثية تأتي برغم ما عقده السيسي من لقاءات مكوكية لا تنقطع مع قادة اليونان وقبرص بخصوص ترسيم الحدود البحرية وتقسيم مناطق الغاز بالمنطقة الاقتصادية في شرق المتوسط.
وفي 21 تشرين الأول/ أكتوبر 2020، رحب السيسي بالاتفاقية البحرية بين مصر واليونان وقبرص، معلنا تضامنه مع اليونان ضد ما أسماه "السياسات الاستفزازية والتصعيدية" بشرق البحر المتوسط، ملمحا إلى تركيا، وهي الاتفاقية التي تنازلت بموجبها مصر عن نحو 7 آلاف كلم² من حدودها المائية.
وفي إطار حالة العداء المصرية التركية منذ انقلاب السيسي، على الرئيس الراحل محمد مرسي، منتصف 2013، حاول السيسي، صناعة تحالف مع قبرص واليونان جارتا أنقرة، مستغلا ما بينهم من خلافات سياسية، وذلك إلى جانب التحالف مع إسرائيل.
"بنية تنسف أي اتفاق"
وفي حديثه لـ"عربي21"، قال الباحث المصري المتخصص في شؤون الطاقة وقضايا الشرق الأوسط خالد فؤاد، إن "القمة الثلاثية بين إسرائيل وقبرص واليونان لتعزيز التعاون في مجال الطاقة، ولا يوجد اتفاقية على بناء أو إنشاء أو تصدير غاز من إسرائيل إلى قبرص، ولا أي شكل من أشكال الاتفاقيات الواضحة".
وتحدث فؤاد، عن عقبات إنشاء خط أنابيب بحري يربط إسرائيل وقبرص واليونان وإيطاليا لتصدير الغاز إلى أوروبا، موضحا أنه "حديث قديم منذ اكتشاف تل أبيب حقلي الغاز العملاقين تمار ولفياتان، وهي تسعى لإنشاء خط إيست ميد".
ولفت الخبير المصري إلى أن ذلك الخط "يواجه صعوبات التكلفة العالية وصعوبات ثانية تقنية خاصة وأنه مقرر إنشاؤه بأعماق البحر المتوسط، بجانب تحديات سياسية كون مسار الخط يتقاطع مع مساحات بالحدود البحرية محل خلاف تركي يوناني".
وعن أسباب إعادة الحديث مرة أخرى عن ذلك الخط، أكد فؤاد، أن "الأمر مرتبط بما حدث على خلفية الحرب الروسية في أوكرانيا، حيث أصبحت مسألة إيجاد أوروبا البديل للغاز الروسي هامة، ما فتح الباب أما مشاريع غير ذات جدوى من قبل، وهنا تم طرح مشروع الخط البحري مرة أخرى".
ولفت إلى صعوبة أخرى تعيق تنفيذ هذا الخط، مبينا أن "الولايات المتحدة أعلنت مطلع 2022، عدم استعدادها دعم هذا الخط، لتكلفته العالية جدا، وذلك بجانب وجود مخاطر جيوسياسية"، مضيفا: "ولكن بعد أزمة أوكرانيا أصبحت أوربا بحاجة ماسة للغاز وتبحث في جميع المسارات للتزود منه".
وتحدث الخبير في ملف الطاقة المصري، كذلك عن أزمات قبرص كمنتج منافس للغاز مع مصر، وأوضح أن "قرص لديها مشاكل في تطوير حقل (أفروديت)، المكتشف منذ سنوات والمفترض أن المشغل له عملاق الطاقة الأمريكي (شيفرون)".
وبين أنه "وحتى الآن لم يصل الطرفان لاتفاق واضح، فقبرص متمسكة بتطوير الحقل وإنشاء محطة تسييل على سواحلها مثل مصر، بحيث تصبح منصة تصدير الغاز لأوروبا وتقوم بنفس الدور المصري".
ولفت إلى أن "(شيفرون)، ترى أن هذا الشكل مكلف، والأفضل تطوير الحقل، وإنشاء خط يربط أفروديت بمحطتي التسييل المصرية في إدكو ودمياط، وهنا التكلفة أقل، ويصل الغاز القبرصي لمحطات التسييل كالغاز الإسرائيلي".
وخلص فؤاد، للقول إن "معنى هذا الحديث أن دول الشرق الأوسط بطبيعة الحال وبعد الغزو الروسي لأوكرانيا تسعى جميعها لتعزيز فرصها لتصدير الغاز الطبيعي، والدول التي تمتلك حقول غاز مثل مصر وقبرص وإسرائيل تسعى لعقد صفقات وتزيد إنتاجها ومشاريع بنية تحتية تساهم في تصدير غازها لأوروبا".
"كذلك الدول الأخرى التي لا تمتلك حقول غاز في شرق المتوسط مثل تركيا اليونان لديها طموحات في التنقيب عن الغاز، وأن تصبح محطة أو ناقل للغاز إلى أوروبا، وتستفيد من الناحية الاقتصادية والجيوسياسية للقيام بهذا الدور".
ولفت إلى أنه "في نفس الإطار فإن الاستثمار في الغاز والنفط طويلة المدى، ولذلك ففكرة إنشاء خط (ايست ميد)، أو محطة تسييل عائمة في قبرص فإن هذا النوع من البنية التحتية مكلف جدا، غير أنه يحتاج من 3 إلى 5 سنوات".
وأوضح أن "معنى هذا أن تظل مصر في الوقت الراهن وعلى المدى القصير منصة تصدير الغاز الرئيسية بشرق المتوسط، لامتلاكها محطتي التسييل في إدكو، ودمياط، وإذا كان هناك منافس لمصر في المشاريع المحتملة -حتى الآن محتملة وليس هناك ما يؤكد أن المشاريع القبرصية الإسرائيلية ستتم- فتكون بعد 5 سنوات".
وختم بالقول: "النقطة الأهم بالنسبة لمصر الراغبة في زيادة إنتاجها وبالطبع تصديرها لاستغلال حاجة أوروبا للغاز هي معاناتها حاليا من انخفاض الإنتاج وزيادة معدلات الاستهلاك المحلي وبالتالي تناقص صادرات الغاز المسال".
"ولكن تبقى مصر هي منصة تسييل وتصدير الغاز لأوروبا والتي تستقبل الغاز الإسرائيلي لتسييله وتصدير جزء منه والباقي للاستهلاك المحلي"، بحسب الخبير المصري.
"تجاهل بديهي"
وفي وجهة نظر الخبير الاقتصادي والأكاديمي المصري الدكتور أحمد ذكرالله، خلال حديثه لـ"عربي21"، فقد "ظهر في الفترة الأخيرة أن مصر أسرفت في استخدام احتياطيات الغاز لديها".
أستاذ الاقتصاد، كلية التجارة، جامعة الأزهر أضاف أن "التقارير التي تأتي من جهات متعددة تشير إلى تراجع الصادرات المصرية من الغاز الطبيعي بنسب ضخمة للغاية خلال العام الحالي نتيجة تآكل احتياطاتها من الغاز بسبب الإسراف في عملية الاستخراج والتصدير خلال العام الماضي".
وأكد أن "مشكلة الكهرباء التي ظهرت في مصر منذ أشهر، واضطرار الحكومة لقطع الكهرباء عن المواطنين في المنازل يوميا لفترة أو فترتين في عملية عشوائية ثم تحويلها لعملية أكثر تنظيما يدل بوضوح على أن مشكلة مصر مشكلة إنتاج غاز طبيعي".
خبير واستشاري التدريب ودراسات الجدوى المصري، قال إنه "وبناء على ذلك فإن الحديث عن تجاهل مصر في اتفاقية شراكة ثلاثية مثل هذه لتصدير الغاز لأوروبا هو تجاهل بديهي وطبيعي، ومنطقي نتيجة أن مصر لا تمتلك من الاحتياطيات ما يمكن تصديره حتى الآن، إلا إذا تمت اكتشافات جديدة".
وحول مراهنة السيسي، على عقد شراكات اقتصادية مع إسرائيل وقبرص واليونان وأن هذا كان خيارا خاطئا لم تستفيد منه مصر شيئا، أكد ذكر الله، أن "الدول تبحث عن مصالحها الخاصة".
وأوضح أنه "لا يوجد ما يمكن أن نسميه مراهنات اقتصادية؛ فهي حسابات، ويجب أن تكون حسابات دقيقة"، مشيرا إلى أن "مصر تركت الامتداد الطبيعي لها نتيجة خلافات سياسية واهية مع تركيا وهذا كان الأقرب لها والأجدى، ولكنها اتخذت مسارا موازيا نكاية في تركيا".
ويعتقد الخبير المصري، أن الحسابات الاقتصادية المصرية "مع فرنسا كدولة استعمارية ومع اليونان كجزء من الاتحاد الأوروبي ومع إسرائيل ككيان استعماري حسابات خاطئة من الناحية الاقتصادية".
وأضاف: "رأينا ذلك في الأزمة الأخيرة للكهرباء، عندما احتاجت القاهرة الغاز الطبيعي، ورغم وجود اتفاقية استيراد غاز مع إسرائيل لم تقدم تل أبيب مبادرة لإعطاء مصر الغاز، وإنما انتظرت كثيرا حتى تدبر مصادر مالية حتى تشتري الغاز وتدفع ما عليها".
وختم ذكرالله بالقول: "إذا الرهان يكون دائما على مصادر يمكن الوثوق بها والاستناد عليها في أوقات الأزمات".
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة مقابلات سياسة دولية سياسة دولية الاحتلال الغاز أوروبا القبرصي مصر مصر أوروبا الاحتلال غاز قبرص سياسة دولية سياسة دولية سياسة دولية سياسة دولية سياسة دولية سياسة دولية سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الغاز الإسرائیلی من الغاز الطبیعی ملیار متر مکعب الیونان وقبرص البحر المتوسط لتصدیر الغاز شرق المتوسط مع إسرائیل إلى أوروبا خط أنابیب إنشاء خط مصر فی إلى أن غاز من
إقرأ أيضاً:
لماذا تحمي أوروبا الدعم السريع؟
لم يفلح السودان حتى الآن في حمل العالم على تصنيف مليشيا الدعم السريع المتمردة منظمةً إرهابية على الرغم من جرائم الإبادة الجماعية، والفظائع التي ظلت ترتكبها ضد المدنيين في وضح النهار، ودون مواربة. ولكون هذه المليشيا بدت نموذجًا صارخًا، ومثاليًا لما عرف اصطلاحًا بـ "البنادق المأجورة"، وهو مصطلح يُستخدم لوصف المرتزقة الذين يقدمون خدماتهم القتالية مقابل المال دون اعتبار للأيديولوجيا أو القيم.
فهؤلاء المرتزقة لا يهمهم سوى العائد المادي، ويعملون بشكل رئيسي لخدمة أهداف من يدفع لهم، سواء كان طرفًا على المستوى الداخلي، أو الإقليمي، أو الدولي.
فقد جعلت هذه "الميزة" الأطراف المستفيدة من خدمات مليشيا الدعم السريع أطرافًا ممانعة لتصنيفها منظمةً إرهابية، كما يجب. لقد بدأت هذه المليشيا قوة شبه عسكرية من "الجنجويد" – مجموعات مسلحة غير نظامية في دارفور -، وتطورت إلى قوة بقانون تشارك في النزاعات الداخلية.
وعلى الرغم من التقارير الحقوقية التي توثق انتهاكاتها، فإن العوامل السياسية، والاقتصادية الإقليمية، والدولية ظلت مؤثرة جدًا في تأخير تصنيفها منظمة إرهابية. ويعكس ذلك التردد تناقض المجتمع الدولي، حيث يتم تغليب المصالح السياسية، والأمنية، والاقتصادية على حساب العدالة الدولية المزعومة.
وتجدر الإشارة هنا إلى قول الموظف السابق في البيت الأبيض المختص بشؤون القرن الأفريقي، والسودان في لقائه مع الجزيرة مؤخرًا بعد أن تحرر من الموقع الرسمي: إن "مليشيا الدعم السريع يجب أن تصنف منظمة إرهابية؛ لأنها تقوم بأعمال إرهابية ضد الشعب السوداني".
فمن الجلي أن هناك أولويات تتعلق بمصالح الدول الكبرى، والإقليمية التي تخشى أن يؤدي هذا التصنيف إلى فقدان شريك أمني أو "بندقية مأجورة". وما قد يتعارض مع مصالح بعض القوى الدولية هو أن تصنيف هذه المليشيا منظمة إرهابية، سيؤدي إلى انعكاسات إيجابية على الأوضاع الداخلية في السودان، من إنهاء النزاع المسلح، وتقليل الانقسامات الاجتماعية، إلى التأثير الإيجابي على الاقتصاد، وخفض معاناة المدنيين.
فبالإضافة إلى ذلك فإن هذا التصنيف سيحلحل تعقيدات العملية السياسية، ويمكن الدبلوماسية السودانية من المزيد من النشاط، مما يجعل من السهل إيجاد حلول سلمية، واستقرار طويل الأمد.
نشأة رغائبية شائهةبدأ التفكير في إنشاء مليشيا الدعم السريع في 2003، لأغراض أمنية بحتة تتعلق باضطراب الأوضاع في إقليم دارفور مع بداية التمرد هناك، لكن سرعان ما تم استغلالها رغائبيًا في إطار حالة عدم اليقين، واهتزاز الثقة بين أركان السلطة، لا سيما بعد انشقاق الحزب الحاكم آنذاك في العام 1999.
وفي إطار طبيعة النزاع المتوارثة في دارفور بين القبائل الرعوية، والزراعية، ومع تأثر السودان بالحرب الأهلية في تشاد المجاورة التي تربطها به حدود مفتوحة، وقبائل مشتركة اتخذت النزاعات بين القبائل أشكالًا مسلحة تتطور طرديًا مع زيادة تدفق السلاح من تشاد.
وقامت مجموعات من القبائل المحلية بتنظيم قوات مسلحة عرفت باسم "الجنجويد"، وأجادت فنون القتال، والكر، والفر في مناطق ذات طبيعة سهلية شاسعة تجد أقوى الجيوش صعوبة في الانتشار فيها، والسيطرة عليها.
هذه الميزات جعلت السلطة المركزية في حقب عديدة، لا سيما نظام الرئيس السابق عمر البشير، تسعى لاستغلالها وتجنيدها لصالح السيطرة على المجموعات المتمردة ذات الأهداف السياسية، وربما المرتبطة بالخارج.
بيد أن حكومة البشير غضت الطرف عن السمعة السيئة للجنجويد؛ نتيجة الاتهامات بانتهاكات حقوق الإنسان، والجرائم ضد المدنيين. والحقيقة أن السلطة المركزية كانت كمن يحاول عبثًا ترويض ذئبٍ ليجعله أليفًا يُؤلَف يعيش بين الناس، لكن الذئب يظل ذئبًا، ولن يغلب الطبع التطبّع.
في عام 2013، قررت حكومة البشير إعادة تنظيم هذه المليشيا في هيكل رسمي رغم اعتراضات ضباط من الجيش، وأطلقت عليها اسم "قوات الدعم السريع"، ومنحتها وضعًا قانونيًا ضمن الجيش القومي، ولكن بصيغة مرتبكة. وتم تعيين محمد حمدان دقلو، المعروف بـ "حميدتي"، قائدًا لهذه القوات.
غير أن هذه القوات بقيت – لشيء في نفس البشير – تابعة له مباشرة، ولم تتبع لهيئة أركان الجيش، كما كان يفترض، وهذا الأمر كان سيمنع لاحقًا تفلّتها، ومحاولة بناء نفسها باعتبارها جيشًا موازيًا بعقيدة غير عقيدة الجيش الوطني القومي. وقد ساعد هذا الوضع الشائه في تعزيز قدرات المليشيا، وتسليحها بشكل كبير بعيدًا عن خطط وسيطرة الجيش، لا سيما بعد سقوط نظام البشير في أبريل/ نيسان 2019.
وبعد الإطاحة بالبشير برزت مليشيا الدعم السريع قوة رئيسية في المرحلة الانتقالية، ووقّعت على اتفاق مع القوى السياسية للمشاركة في السلطة الانتقالية بجانب الجيش، وشغل حميدتي منصب نائب رئيس المجلس السيادي، الأمر الذي جعل المليشيا لاعبًا رئيسيًا في السياسة السودانية، بل إنها تطلّعت لاحقًا للاستيلاء على السلطة بالتعاون، والتخابر مع قوى إقليمية، ودولية، وهذا كان السبب الرئيسي في اندلاع الحرب الحالية التي تكاد تذهب بالدولة السودانية من القواعد.
إن هذا الوضع الشاذ لم يمكنها سياسيًا، وعسكريًا فحسب، وإنما سيطرت على أهم الموارد الاقتصادية في البلاد، وهي مناجم الذهب في دارفور. وكانت عوائد هذا المورد عاملًا حاسمًا في بناء نفوذها العسكري والسياسي، ولعب دور الوكيل المعتمد للقوى الإقليمية الطامعة في الذهب السوداني.
ولذلك كان هدف الاستيلاء على السلطة هو تعزيز هذه الأوضاع الآثمة لتتحول من خانة "البنادق المأجورة" إلى خانة "الأنظمة المأجورة"، ومن ثم تحويل كامل الدولة السودانية لدولة وظيفية خادمة مطيعة للإمبريالية العالمية.
تجاهل رغم التوثيق والاعتراف
إن سلوك هذه المليشيا أصبح محيرًا، ويدلُّ على خلل نفسي ما، وهو سلوك ناتج عن فقدان التوازن العقلي؛ فلا يتوانى عناصر المليشيا في تسجيل، وتوثيق جرائمهم بأنفسهم، وهم يبدون سعادتهم بذلك دون مواربة. وأظهرت مقاطع مبثوثة من جانبهم إجبار مواطنين اختطفتهم على تقليد نباح الكلاب، ومرة أخرى صوت القطط. ومن قبل وثّقوا عمليات اغتصاب ارتكبوها، وقد تناوبوا على الضحية.
إن الجرائم التي ترتكبها هذه المليشيا ليست أقل بأي حال من جرائم مخزية تندرج في إطار الجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الإبادة الجماعية، وجرائم الحرب، وهذه كلها جرائم تتعارض مع القوانين الدولية في المجال الإنساني.
وقامَ العديد من المنظمات الحقوقية الدولية والمحلية بإصدار تقارير تفصيلية عن الجرائم والانتهاكات التي ارتكبتها مليشيا الدعم السريع في السودان، وتناولت هذه التقارير قضايا القتل الجماعي، والاعتقالات التعسفية، والانتهاكات ضد المدنيين، إضافة إلى استخدام العنف المفرط خلال النزاعات. وهنا نعرض ملخصًا لأبرز هذه التقارير ودور الإعلام العالمي في توثيقها.
في أوائل هذا العام أصدرت الأمم المتحدة تقريرًا أمميًا بشأن ارتكاب مجازر في إقليم دارفور، كان قد قطع قول كل خطيب، وأفاد التقرير المقدم إلى مجلس الأمن الدولي بأن نحو 15 ألف شخص قتلوا في مدينة واحدة في منطقة غرب دارفور منذ اندلاع التمرد، في أعمال عنف عرقية نفذتها مليشيا الدعم السريع.
ونقلت مقاطع مصورة، دفن أبرياء أحياءً وذبح آخرين في مشاهد هزت الضمير الإنساني هزًا عنيفًا. كما أصدرت "هيومن رايتس ووتش" عدة تقارير تركز على الانتهاكات التي ارتكبتها مليشيا الدعم السريع، خاصة في دارفور.
أما منظمة العفو الدولية، فقد أشارت في تقاريرها إلى انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبتها المليشيا، مع التركيز على حالات القتل خارج إطار القانون، والتعذيب، والاعتداء على النساء، والأطفال.
وتزامنت تقارير المنظمات المعنية مع تقارير صادمة بثتها وسائل إعلام دولية، حيث قامت وكالات مثل: (رويترز)، و(بي بي سي)، و(سي إن إن) بنشر، وبث تقارير ميدانية مصورة حول اعتداءات المليشيا على المدنيين، في مناطق تسيطر عليها، أو تلك التي استعادها الجيش السوداني من قبضتها.
هذا بالإضافة إلى تحقيقات صحفية استقصائية كشفت جوانب أخرى من هذه الانتهاكات، مثل: تجنيد الأطفال، والعنف ضد النساء. كما تمكّنت العديد من وسائل الإعلام من نشر شهادات الضحايا، والوصول إلى الشهود، وإبراز مقابلات، وتقارير، وثائقية تُظهر الظروف الصعبة التي يواجهها السكان الواقعون تحت جحيم هذه الجرائم.
لماذا يتأخر دمغ المليشيا بالإرهاب؟هناك كثير من العوامل السياسية التي تمنع ما يعرف بالمجتمع الدولي من اتخاذ خطوة تصنيف مليشيا الدعم السريع منظمة إرهابية، هناك مصالح إقليمية، ودولية في السودان تتأسس على الموقع الإستراتيجي للسودان، لا سيما في القرن الأفريقي.
وهناك قوى إقليمية ترى أن مصالحها أو بالأحرى مطامعها لن تحصل عليها إلا عبر "البندقية المأجورة" المتمثلة في المليشيا، وأن تصنيفها منظمة إرهابية لن يمكنها من استعمالها لأهدافها.
ليس هذا فحسب، بل إن هناك تنسيقًا سياسيًا مع بعض الدول الكبرى، مثل الولايات المتحدة الأميركية التي تجد في المليشيا "بندقية مأجورة" غير مباشرة يمكن استخدامها في تحقيق أهداف معينة في السودان، والمنطقة، مما يدفعها إلى عدم السعي لتصنيفها منظمة إرهابية. فضلًا عن أن واشنطن هي وحدها صاحبة "حق الملكية" لمصطلح الإرهاب تستخدمه سياسيًا متى تشاء، وكيفما تشاء.
كذلك سبق للاتحاد الأوروبي استعمال هذه المليشيات "بندقية مأجورة" للحد من الهجرة غير الشرعية من القرن الأفريقي نحو أوروبا عبر السودان. هذا التعاون الأمني جعل بعض الدول الأوروبية تتردد في تصنيفها منظمة إرهابية؛ خشية فقدان شريك محوري في مكافحة الهجرة.
ففي 2016 عقد معها الاتحاد الأوروبي اتفاقًا تحت جنح الظلام؛ لوقف تدفق اللاجئين من أفريقيا عبر السودان بقيمة (110) ملايين يورو، حسب تأكيدات الخارجية السودانية حينذاك. وردت منظمة "هيومن رايتس ووتش" غاضبة في بيان لها: إن "من السخرية تعاون الاتحاد الأوروبي الذي تأسس على قاعدة من القيم، مع حكومات مستبدة تحتقر الحقوق الإنسانية، لمجرد الرغبة في منع اللاجئين من الوصول إلى أوروبا".
إن القوى الدولية، والإقليمية الممانعة لتصنيف المليشيا منظمة إرهابية سخّرت آلتها الإعلامية لتبني سردية متعلقة بالدور العسكري، والسياسي داخليًا؛ بغرض دفع الآخرين للوقوف في صفّ الممانعة أو على الأقلّ تأخير، ومماطلة تحقيق تلك الخطوة المهمة.
وتقول تلك السردية التي تغلف باطلًا بحق إن المليشيا أصبحت جزءًا من البنية السياسية، والعسكرية في السودان، ولها نفوذ في البلاد. لذا، يُخشى من أن يؤدي تصنيفها منظمة إرهابية إلى تفاقم الأزمة السياسية، والأمنية في السودان، وإضعاف الحكومة المركزية.
كذلك يشيع الممانعون، ويخوفون من التبعات الاقتصادية للتصنيف الإرهابي للمليشيا، إذ سيؤدي إلى زيادة المخاطر على شركات التعدين، والنفط في المناطق التقليدية للمليشيا، وحواضنها الاجتماعية.
ويقولون إن فرض عقوبات أو تصنيفها منظمة إرهابية، سيؤدي إلى تعقيدات قانونية بالنسبة للشركات الدولية التي تعمل في هذه المناطق، مما يضر بالمصالح الاقتصادية لهذه الشركات، والدول التي تقف خلفها.
لعلّ الممانعين لو اكتفوا بالقول إن تصنيف المليشيا منظمة إرهابية، سيؤدي إلى تفككها إلى مجموعات إرهابية صغيرة كما يبدو عليه حالها اليوم بعد الضربات القوية التي سببها لها الجيش، فإن ذلك كان سيبدو منطقيًا، ومقبولًا ويبعد عنهم شبهة النوايا السيئة التي تقف حجر عثرة في إقرار تصنيف دولي للمليشيا باعتبارها منظمة إرهابية، يسهم في القضاء المبرم عليها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية