سليمان الحلبي طالب أزهري سوري الأصل، ينسب إليه اغتيال الجنرال "كليبر" قائد الحملة الفرنسية على مصر في عهد نابليون بونابرت. أنزلت به أبشع العقوبات، ومازالت جمجمته محفوظة في أحد متاحف باريس لأكثر من قرنين، رغم المطالبات الشعبية العربية بإعادتها وما بقي من رفاته لدفنه بمسقط رأسه.

المولد والنشأة

ولد سليمان بن محمد أمين الملقب بـ "الحلبي" عام 1777، بقرية كوكان في حلب أقصى شمال سوريا.

ينحدر من أب مسلم ينتمي لعائلة كردية ذكرها كثير من المؤرخين باسم أوس قوبار، بينما ورد ذكره في موسوعة حلب لخير الدين الأسدي، باسم سليمان ونس، من مواليد حي البياضة قرب باب الحديد في حلب، ولقب بالحلبي إشارة إلى أصله.

كان أبوه يتاجر في الزبدة وزيت الزيتون، فأخذ عنه كثرة التجوال، وعاش 3 سنوات في مكة المكرمة والمدينة المنورة، وثلاثا أخرى في القاهرة.

ارتبط بمصر ارتباطا وثيقا، وحج مرتين في رحلة المحمل، وهي الموكب الذي كان يخرج من مصر كل عام حاملا كسوة الكعبة، كما زار القدس ونابلس.

كل ما يعرف عن سليمان أنه كان شابا نحيف الجسم، يخاف من لباس العسكر ويتجنبهم بشهادة المؤرخين، وقيل إنه كان هادئا قليل الكلام ولا يختلط بالناس.

الحياة العلمية

تلقى الحلبي علومه الابتدائية في كتاتيب حلب، وبعد بلوغه العشرين أرسله والده إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة، ثم إلى مصر عام 1797 لدراسة علوم الشريعة الإسلامية، حيث انتسب إلى جامعة الأزهر، وبدأ الاهتمام بالخط العربي.

كان طالبا فقيرا يعيش في السكن الداخلي المخصص للطلبة من أبناء بلاد الشام، وتتلمذ على الشيخ أحمد الشرقاوي الذي كان قائد "انتفاضة القاهرة الأولى" ضد الحملة الفرنسية في أكتوبر/تشرين الأول 1798.

وبعد 3 سنوات من إقامته في الأزهر، عاد إلى حلب، وعمل كاتبا لتكوينه الأزهري.

رحلة ثانية إلى القاهرة

بعد عودة الطالب الأزهري إلى قريته عام 1800، سافر بعد فترة قصيرة إلى فلسطين، وخلال تلك الرحلة تقاطع طريقه مع ضابطين بالمخابرات العثمانية، عرضا عليه اغتيال "جان باتيست كليبر" قائد الحملة الفرنسية على مصر والشام، فوافق على تأدية المهمة فورا.

وسافر إلى القاهرة مع قافلة تجارية، في رحلة استغرقت 6 أيام، وكان في سن 23 من عمره حينها، حيث اشترى خنجرا من مدينة الجيزة المصرية، وقيل من متجر في غزة، وبدأ التخطيط لعملية الاغتيال.

اتخذ الحلبي مقامه في الجامع الأزهر، وكاشف 4 من الطلاب الأزهريين من غزة بما عزم عليه، وقد قضى -حسب سجلات التحقيق الفرنسية- 31 يوما يتعقب كليبر، حتى تمكن من الوصول إليه في دهاليز حديقة دار القيادة العامة الفرنسية بالأزبكية.

وقبل مغيب شمس السبت 14 يونيو/حزيران 1800، وقعت "نادرة عجيبة" كما يسميها المؤرخ المصري عبد الرحمن الجبرتي، إذ كان كليبر يسير مع المهندس المعماري قسطنطين بروتان، في حديقة قصر محمد بك الألفي، فظهر أمامهما الحلبي متنكّرا في زي شحّاذ مُثير للريبة، رث الملابس يرتدي عمامة خضراء وقفطانا رديئا، يستغيث بكليبر الذي مدّ يده إليه، فانقضّ عليه حاملاً خنجرا وطعنه به في قلبه.

وعندما هجم عليه بروتان لإبعاده، طعنه فأسقطه أرضا، ثم عاد إلى كليبر فطعنه ثلاثا أُخرى متتالية أردته قتيلا، غير أن تقرير رونيه نيكولا ديفريش ديجينيت،  كبير أطباء وجراحي الحملة الفرنسية، جاء فيه أن الطعنة الأولى كانت القاضية على حياة الجنرال الذي كان عمره 47 عاما.

وهرب الحلبي بعد أن دفن الخنجر في الحديقة، وخلال ساعة تمكن جنديان فرنسيان من إلقاء القبض عليه، بعدما عثرا عليه مختبئا في بستان مجاور.

محاكمة عسكرية

قُدِّم الحلبي لمحاكمة عسكرية علنية، كان قضاتها التسعة فرنسيون، بقرار من الجنرال جاك فرانسوا دو مونو الذي تولى قيادة الجيش الفرنسي بعد مقتل كليبر.

وطبعت اللجنة العسكرية مجريات التحقيق ووقائع المحاكمة بالفرنسية والعربية والتركية، على 500 نسخة علقت بالأماكن العامة، ونشرت في كتاب.

وكان الجبرتي -الذي عاصر الحملة الفرنسية- قد أثبت وقائع المحاكمة، فخصها بأكثر من 30 صفحة في كتابه "عجائب الآثار في تراجم الأخبار" الذي بدأ كتابته عام 1806، بينما كان قد تجاهلها في كتابه الأول "مظهر التقديس".

وضمنها محضر استجواب الحلبي، الذي جاء فيه أنه سئل عن اسمه وعمره ومسكنه وصنعته، وكم مضى على وجوده في مصر، وعن ملته وعمن أرسله إلى مصر وعن معارفه فيها، وعن سبب تتبعه قائد العسكر.

ويقول المحضر أيضا إن الاعترافات انتزعت من المتهم مرة بالمواجهة، وأخرى بالتعذيب، وأحضروا من أخبر عنهم، وهم: عبد الله وأحمد الغزي، السيد محمد الوالي، مصطفي أفندي، بينما فر عبد القادر الغزي قبل أن يتم القبض عليه.

وفي النهاية صدر الحكم بإعدام رفاق الحلبي أمامه بعد أن أدانتهم المحكمة بالتستر على العملية قبل وقوعها، وبعدها أعدمته السلطات الفرنسية بالخازوق وتركت جسده فوقه حتى تأكل الطيور جثثه.

إعدام فحرق

صباح يوم الأربعاء 17 يونيو/حزيران 1800 (وفي مراجع أخرى 18 يونيو/حزيران) أعلنت سلسلة من طلقات المدفعية بداية المراسم الجنائزية لتشييع جثمان كليبر.

وبدأ تنفيذ العقوبة على الحلبي بإحراق يده اليمنى، ثم الإعدام صلبا على الخازوق في تل العقارب، وإلى جانبه عُلّقت على نبابيت (عصيّ طويلة) رؤوس 3 من رفاقه الأزهريين، بعد أن حُرقت أجسادهم حتى التفحم، كما يحكي الزركلي.

وجاء في تقرير الجنرال مينو أن الحلبي "عاش 4 ساعات فوق الخازوق ولم يتأوه وسط الآلام الشديدة التي يرتعد الإنسان لمجرد التفكير فيها" قبل أن يشفق لحاله أحد الجنود ويسقيه بعض الماء ثم مات بعدها، كما يذكر المؤرخ الفرنسي هنري لورنس في دراسته "الحملة الفرنسية على مصر وسوريا".

ويقول الطبيب الفرنسي دومينيك جان لاري الذي شهد عملية الإعدام، في كتاب عام 1803، إن الشاب الحلبي لم يتخلَّ عن وقفته الشامخة حتى مصرعه، وبقي جثمانه معلقا 3 أيام في هواء الصيف.

وقد أجريت لاحقا في فرنسا مراجعة للحكم من قبل محكمة قضائية عسكرية، نتج عنها انتقاد شديد اللهجة للطريقة المتوحشة في تنفيذ حكم الإعدام.

الحلبي أعدم صلبا على الخازوق في يونيو/حزيران عام 1800 (غيتي إيميجز) من تل العقارب إلى متاحف باريس

مع خروج الحملة الفرنسية من مصر، أخذ الفرنسيون رفات كليبر، وخنجر وجمجمة الحلبي إلى فرنسا، ثم عُرض رفاته في متحف التاريخ الطبيعي في حدائق باريس النباتية، واحتفظ بجمجمته في غرفة التشريح بكلية الطب.

وعند تأسيس مجمع "الأنفاليد" مكان وجود ضريح بونابرت، وُضعت جمجمة كليبر وكتب تحتها "جمجمة البطل" وتحت جمجمة الحلبي وُضع الخنجر الذي نفّذ به الطعن، وكُتب إلى جانبها "جمجمة المجرم".

ثم انتهى المطاف بالجمجمة في متحف الإنسان، الذي يشغل الجزء الأكبر من جناح باسي في قصر "شايو" الواقع بالقرب من برج إيفل، وأسفلها لافتة كتب تحتها "رأس قاتل: الاسم سليمان الحلبي" وبجواره جمجمة ديكارت مذيلة بـ "العبقري".

حملة لاستعادة الجمجمة

وإلى اليوم تنطلق من سوريا دعوات باستعادة جمجمة الحلبي ورفاته، ليدفن في مسقط رأسه، وكان المهندس المصري إحسان محرم قد أطلق حملة محلية ودولية لاستعادة رفاته من المتحف الذي سماه "متحف العار".

وعام 2006 تم إنشاء "اللجنة الوطنية الشعبية لاسترداد رفات وجمجمة البطل سليمان الحلبي" وإطلاق حملة للتوقيعات بدأت من دمشق، ثم انتقلت إلى حلب، مع احتفالية حلب عاصمة الثقافة الإسلامية، ثم إلى المحافظات الأخرى، قبل أن تختتم بحفل توقيع كتاب عن سيرة الحلبي.

وعام 1965، كتب المسرحي المصري ألفريد فرج مسرحية بعنوان "سليمان الحلبي". كما تم إطلاق اسم الحلبي على أحد أحياء مدينة حلب، مسقط رأسه، وعلى أحد الشوارع الرئيسية في حي المنيل بالقاهرة.

وقدم المخرج محفوظ عبد الرحمن للتلفزيون العربي أولى مسلسلاته التاريخية باسم "سليمان الحلبي".

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: یونیو حزیران

إقرأ أيضاً:

المكاري استقبل المدير الاقليمي لوكالة الصحافة الفرنسية

 استقبل وزير الاعلام زياد المكاري في مكتبه بالوزارة، المدير الاقليمي لـ"وكالة الصحافة الفرنسية" للشرق الاوسط وشمال افريقيا عزالدين سعيد، ترافقه مديرة مكتب الوكالة في بيروت أسيل طبارة، في حضور مستشارة وزير الاعلام للشؤون الفرنكوفونية أليسار نداف.

واشار سعيد في تصريح على الاثر، الى ان "اللقاء تطرق الى تغطية مجريات الحرب الدائرة في لبنان"، لافتا الى أنه شكر المكاري على "الدور الذي تقوم به وزارة الاعلام من اجل حماية الصحافيين، وتوفير كل السبل للقيام بعملهم بشكل حر ومستقل، في ظل الظروف التي تستدعي تأمين الحماية لهم نظرا لخطورة الاوضاع على الأرض".

وتمنى "السلامة لجميع الصحافيين وعدم تعرضهم للأذى اثناء تغطياتهم الاعلامية".

مقالات مشابهة

  • الخارجية الفرنسية: حزب الله ربما هو من نفذ الهجوم على اليونيفيل أمس
  • إذاعة جيش الاحتلال: الضابط الذي أصيب بشمال غزة قائد كتيبة
  • للمعلمين والمتعلمين... الحلبي يطلق حزم الإنترنت المجانية
  • المكاري استقبل المدير الاقليمي لوكالة الصحافة الفرنسية
  • الكشف على 345 حالة ضمن قافلة جامعة بنها بمعهد الخصوص الأزهري
  • ارتقاءً بأحوالهم المادية.. «الأزهري» يعتمد زيادة عقود خطباء المكافأة
  • وكالة الأنباء الفرنسية: الاتحاد الأوروبي يوسع العقوبات على إيران بسبب دعمها لروسيا
  • محافظ الشرقية يثمن التعاون مديرية الشباب والمنطقة الأزهرية لتنفيذ برنامج الرواق الأزهري
  • لماذا أمرت النيابة الفرنسية بحبس لوبان؟
  • مصطفى خليل رئيس الوزراء الذي غير الحياة السياسية بمصر.. لماذا رفض كتابة مذكراته؟