دول «بريكس» تستطيع إحراج أمريكا لا إخراجها!
تاريخ النشر: 7th, September 2023 GMT
انعقد مؤتمر «بريكس» من 22 إلى 24 من الشهر الماضي في مدينه جوهانسبرغ بجنوب أفريقيا، وكان أبرز الحضور الرئيس البرازيلي لويس دي سيلفا، وناريندرا مودي رئيس وزراء الهند، وشي جينبينغ رئيس الصين والمضيف سيريل رامافوزا رئيس جنوب أفريقيا.
وقد غاب الرئيس فلاديمير بوتين عن الحضور بسبب طلب الدولة المضيفة عدم ترؤسه الوفد الروسي؛ نظراً لحرب أوكرانيا فأناب عنه وزير الخارجية لافروف.
وأرسلت السعودية وفداً برئاسة وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان، كما كان لافتاً حضور مصر التي ترأّس وفدها رئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي، وكذلك حضرت وفود من إيران، والإمارات، والجزائر، وإثيوبيا، والأرجنتين وغيرها.
الذي أعاد إحياء «بريكس» كان سلسلة من الأحداث الداعمة. تشمل هذه الأحداث حملة الصين لبناء علاقات اقتصادية وسياسية مع الجنوب العالمي، وصعود ما يسمى القوى الوسطى، وغياب الاستراتيجيات الأميركية أو الأوروبية لإشراك الجنوب العالمي، والتعددية القطبية، وأخيراً - الاجتياح الروسي لأوكرانيا.
ولكن بما أن التحالفات الغربية بما في ذلك حلف شمال الأطلسي، قد دعمت أوكرانيا لأنها تدافع عن نفسها من اجتياح روسي غير مبرر، فقد فشل عدد من البلدان في دعم كييف.
إضافة إلى التعقيد، هناك الفجوة العالمية بين جداول الأعمال الاقتصادية وجداول الأمن القومي. الولايات المتحدة تصف استراتيجية الاستخبارات الوطنية الجديدة لمجتمع الاستخبارات لعام 2023، في تقرير صدر في وقت سابق من هذا الشهر، بأنه «بيئة تهديد معقدة ومترابطة بشكل متزايد» مع تهديدات ليس فقط من الصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية.
إِعلام الدول المعادية للولايات المتحدة استبشر خيراً من حجم الدول المشاركة تعداداً سكانياً وثروات وإنتاجاً، وذهب البعض منها إلى التنبؤ بأن ما سيتبع هو نظام مالي مرادف للنظام الحالي الذي يرتكز أساساً على الدولار الأميركي، فيتم الاستغناء عن نظام السويفت للمعاملات المالية ومركزه في نيويورك، كما يتم إنشاء بنك مستقل عن البنك الدولي، له الأهداف نفسها إنما من دون سطوة الولايات المتحدة التي لديها اليد الطولى في قرارات البنك الدولي بتملكها 15.6 في المائة من المؤسسة.
إنما واقع الأمر كان بعيداً جداً عن ما تمناه البعض في منابر التواصل الاجتماعي والإعلام المرئي والمسموع والمكتوب. وكانت أهم المقررات هي قبول عضوية ست دول جديدة، واتفاق تعاون من أجل اللقاحات المضادة لفيروس «كوفيد»، واتفاق لأجل الأمن السيبراني ومكافحة الجرائم. ولم تكن ضمن نتائج المؤتمر المعلنة أي إشارة إلى الأمور المالية وإنشاء مؤسسات دولية لا ترتبط بالدولار الأميركي. يقول خبير مصرفي في لندن إن هناك مجموعة عوامل تقف في وجه «بريكس» كي تصبح قوة اقتصادية مالية منافسة للولايات المتحدة واحتكار عملتها عمليات التبادل التجاري. يقول إن أول هذه العوامل هو تفاوت الأهداف بين الدول الأعضاء. فمصر على سبيل المثال تهدف إلى الحصول على قروض طويلة بأسعار فائدة متدنية، وكذلك إثيوبيا، وعلى الرغم من استعداد الصين للإقراض، فإن الشروط الصينية يصعب على أي مسؤول مصري أن يقبلها. وهناك دول أعضاء تسعى لكسر الحصار المالي الأميركي؛ ما يشكل عبئاً ثقيلاً على دول أعضاء أخرى، وهناك دول صناعية كبرى في «بريكس» هدفها ليس سوى التوسع التجاري.
ويكمل الخبير بأن بعض الدول الكبرى المؤثرة في «بريكس» لديها تنافس بين بعضها أكبر بكثير من تنافسها مع الولايات المتحدة، لا، بل لدى بعض هذه الدول مثل الصين مصلحة بالمحافظة على استقرار السوق الأميركية التي هو السوق الأهم في تجارتها الدولية. والشيء نفسه ينطبق على الهند التي تسعى للتفوق على الصين في كثير من المجالات.
وبحسب المصرفي، فان اعتماد التجارة العالمية على الدولار مرتبط باستقرار هذه العملة، ولكي تحل عملة أخرى مكان الدولار، هناك حاجة إلى مجموعة أمور، أولها نشوء هذه العملة وبناء الثقة العالمية بها، وفي الوقت نفسه عدم استقرار مستمر للدولار الأميركي.
تمثل دول «بريكس» نحو 40 في المائة من سكان العالم وربع الناتج المحلي الإجمالي للعالم، ولكن القصة الاقتصادية لأعضائها لم تعد قصة نجاح موحد. في حين تمتعت الصين والهند بنمو اقتصادي إيجابي، كان ركود الناتج المحلي الإجمالي من نصيب البرازيل وروسيا وجنوب أفريقيا. كما ازدادت حدة سياسة المجموعة، وينتقد أعضاؤها بشكل روتيني المؤسسات الغربية التي كانوا يغازلونها ذات مرة.
بالإضافة إلى الدفاع عن دخول جنوب أفريقيا، تدعو الصين منذ عام 2017 إلى إضافة أعضاء لإنشاء «بريكس بلس». كانت الهند وجنوب أفريقيا أقل حماسة؛ لأن التوسع من شأنه أن يخفف من نفوذهما، ولكنه يزيد من تأثير بكين على المداولات الجماعية. أعطى اجتماع جوهانسبرغ الأخير الصين نجاحاً دبلوماسياً، حيث صدرت دعوات إلى الأرجنتين، ومصر، وإثيوبيا، وإيران، والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة للانضمام كأعضاء كاملين ابتداءً من 1 يناير (كانون الثاني) من العام المقبل.
تُعَدّ اجتماعات «بريكس» الآن تجمعات عالمية مرموقة على الرغم من غياب الولايات المتحدة وأوروبا. حضر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش قمة جوهانسبرغ.
استخدمت الصين وروسيا المنتدى للقول بأن رؤيتهما للحوكمة العالمية من شأنها أن تخلق نظاماً عالمياً أكثر استجابة لاحتياجات البلدان النامية والاقتصادات الناشئة.
جميع أعضاء «بريكس» هم حالياً شركاء اقتصاديون أقوياء مع التركيز على الجنوب العالمي، وبعضهم لديه مجموعات كبيرة من رأس المال المتاح. تقدم «بريكس» بنية مالية وسياسية يمكن للصين من خلالها تجاوز المؤسسات الغربية وإضعاف النفوذ الغربي.
تأثير الصين على «بريكس» هو سيف ذو حدين. والجدير بالذكر أن أياً من جيران جنوب شرق الصين غائب، وخاصة إندونيسيا. لا تريد الهند ولا البرازيل أن يُنظر إلى المجموعة على أنها قاعدة لنفوذ الصين أو سبب للاحتكاك مع واشنطن.
سيشعر الكثير من الأعضاء المقترحين بالشيء نفسه. لهذا السبب؛ ستكون قدرة الصين على استخدام «بريكس» محدودة.
من جهة أخرى، ليس لدى روسيا سوى القليل من رأس المال الحر للمساعدة الإنمائية، وهي تمنع تدفق الحبوب التي تعتمد عليها الكثير من البلدان النامية من أجل الغذاء والاستقرار. وشارك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بإلقاء خطاب عن طريق الفيديو، ولكن روسيا لم تجد دعماً يذكر لحربها ضد أوكرانيا. مثل إيران، أفضل ما يمكن أن تقوله روسيا هو أن القمة سمحت لها بإظهار أنها ليست معزولة.
ستتحكم «بريكس» الموسعة في كمية غير عادية من المعادن الثمينة، بما في ذلك الأتربة النادرة (~ 70 في المائة)، والمنغنيز (~ 75 في المائة)، والغرافيت (~ 50 في المائة)، والنيكل (~ 28 في المائة)، والنحاس (~ 10 في المائة). ويعتقد الأميركيون أنه سيكون من الحماقة ترك الصين للسيطرة على هذا النظام البيئي.
الأول من يناير المقبل، موعد انضمام الدول الغنية إلى «بريكس»، سيكون أيضاً موعد صحوة عملاقين، إذا أمكنت هذه التسمية: أميركا والغرب مقابل «بريكس»، فإما يحصل التطاحن، وإما يبقى الأمر على ما هي الحال اليوم!.
المصدر: موقع 24
كلمات دلالية: التغير المناخي محاكمة ترامب أحداث السودان النيجر مانشستر سيتي الحرب الأوكرانية عام الاستدامة الملف النووي الإيراني الولایات المتحدة فی المائة
إقرأ أيضاً:
كيف تمددت الصين وكسبت نفوذها في أميركا اللاتينية؟
بينما كان الرئيس الصيني شي جين بينغ يحضر افتتاح مشروع "تشانكاي" الضخم في بيرو يوم 15 نوفمبر/تشرين الثاني من الشهر الحالي، الذي حوَّلت فيه الصين بلدة صيد نائية هناك لا يتمتع ثلث سكانها بالمياه إلى ميناء كبير تكلف إنشاؤه 1.3 مليار دولار بحسب "أسوشيتد برس"، كان وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن يستعد لحضور حفل تمنح فيه شركة "كالترين" الأميركية قطارات ركاب تعمل بالديزل طويل الأمد للعاصمة البيروفية ليما.
ورغم الاحتفاء الكبير الذي أظهرته الخارجية الأميركية بهذا الحفل، والتأكيد أنه يدل على حجم العلاقات بين البلدين، فإن الفارق بدا واضحا بين الزيارة الصينية وبين نظيرتها الأميركية. فبينما تتوسع الصين بمشاريع عملاقة في أميركا اللاتينية، تظهر الولايات المتحدة بطيئة وغير قادرة على منافسة الصين في ضخامة المشاريع المطروحة وسرعة إنجازها.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2طبول الحرب حول تايوان فهل تستعد الصين فعلا للمواجهة الأخطر؟list 2 of 2حرب الأسماك تشعل صراع المياه الرمادية بين الصين وأميركاend of listفكيف تمددت الصين وكسبت نفوذها في منطقة أميركا اللاتينية، وما الوسائل التي استخدمتها، وكيف تنظر الولايات المتحدة الأميركية لهذا التمدد.
الرئيس الصيني شي جين بينغ ورئيسة بيرو دينا بولوارت خلال احتفالهما بافتتاح ميناء تشانكاي (الفرنسية) الصين وأميركا اللاتينيةكثيرة هي المناطق المشتعلة في العالم اليوم، وأكثر منها تلك المناطق المهددة بالاشتعال. وفق هذا الواقع المتغير، تجد الولايات المتحدة الأميركية نفسها في عالم جديد يتحول تدريجيا، بعد سنوات ظنَّت فيها أميركا ومن ورائها العالم الغربي أن البشرية وصلت إلى نهاية التاريخ كما وصفها فوكوياما، وأن العالم أصبح مستقرا على قُطب واحد تعلوه الديمقراطية الليبرالية الغربية.
بالنسبة للولايات المتحدة، بات المستقبل يُنذر بالكثير من المخاطر التي يقع بعضها على بُعد مسافة ضئيلة منها، فالصين تتحرك بحذر وبطء لتكسب نفوذا جديدا في مناطق مختلفة من العالم، وواحدة من تلك المناطق هي فِناء أميركا الخلفي.
ففي السنوات الأخيرة، أصبحت الصين الشريك التجاري الأول لأميركا الجنوبية، وثاني أكبر شريك لأميركا اللاتينية كلها، التي تضم بحسب دائرة المعارف البريطانية قارة أميركا الجنوبية والمكسيك وجزر البحر الكاريبي وأميركا الوسطى، وهي الدول التي تسود فيها اللغات اللاتينية.
إعلانكما أصبحت الصين المصدّر الرئيسي للإقراض والاستثمار الأجنبي المباشر في أميركا الجنوبية في مجالات الطاقة والبنية الأساسية، بما يتضمنه ذلك من مبادرة الحزام والطريق، وذلك بحسب مؤسسة الأبحاث الأميركية "مجلس العلاقات الخارجية"، علما بأن القرن الحادي والعشرين شهد تجاوز حجم الدعم المقدم من مؤسسات التمويل التنموي الصينية لمشاريع البنية الأساسية في أميركا اللاتينية حجم نظيره المقدم من البنك الدولي والمؤسسات الممولة التقليدية.
منذ بداية القرن الحالي، بدا أن الصين مهتمة بشدة ببسط نفوذها الاقتصادي وما يتبعه من نفوذ سياسي في تلك المنطقة الخطيرة بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية. ففي عام 2000، كان حجم التجارة بين الصين وأميركا اللاتينية، بحسب منتدى الاقتصاد العالمي، هو 12 مليار دولار فقط، لكن بحلول عام 2010 ارتفعت قيمة التجارة بين المنطقتين إلى 180 مليار دولار، حتى وصل الرقم إلى 450 مليار دولار عام 2021، وسط توقعات بأن يصل بحلول عام 2035 إلى 700 مليار دولار.
وفيما يتعلق بالتبادلات التجارية، ركزت الصين إستراتيجيتها على تبادل مفيد للغاية لاقتصادها، وهو مشابه للتبادلات التي تُجريها عادة الدول الكبرى مع الدول الأصغر شأنا، فهي تستورد المواد الخام من فول الصويا والنحاس والبترول، وهي المواد التي تحتاج إليها لتعزيز مشروعها الصناعي، بينما تُصدِّر لدول أميركا اللاتينية فائضها الصناعي على شكل منتجات ذات قيمة مضافة أعلى. ولكي تدفع الصين تلك الإستراتيجية نحو الأمام، فقد أبرمت اتفاقات للتجارة الحرة مع تشيلي وكوستاريكا والإكوادور وبيرو، واستطاعت أن تضم 21 دولة من أميركا اللاتينية لمبادرة الحزام والطريق.
وفي الوقت نفسه تدفع الصين باستثماراتها وقروضها في القارة، إذ بلغت استثماراتها بأميركا اللاتينية ومنطقة الكاريبي 12 مليار دولار، أي 9% من إجمالي الاستثمار الأجنبي في تلك المناطق، وقد أقرض بنك التنمية الصيني وبنك التصدير والاستيراد الصيني حكومات دول أميركا اللاتينية عموما مبلغا ضخما وهو 137 مليار دولار، وتُعد فنزويلا أكبر المقترضين على الإطلاق، وتأتي بعدها مباشرة البرازيل.
إعلاناستطاعت الصين من خلال مشاريع اقتصادية متعددة أن تبسط قبضتها بشكل كبير على الاقتصاد الأميركي اللاتيني، وتجعل دول المنطقة معتمدة عليها اعتمادا كبيرا، دون أن تنقل إليها التكنولوجيا الفائقة التي تُمكِّنها من الاستقلال عنها مستقبلا.
وكان من بين المجالات التي اهتمت بكين بالتوسع فيها الاستثمار والتوسع في قطاع الطاقة المتجددة بالمنطقة، وصار ثمانية من أكبر عشرة موردين للألواح الشمسية في المنطقة شركات صينية، فضلا عن تمويل محطات الطاقة الشمسية في المنطقة، علما بأن شركة "باور تشاينا" وحدها لديها أكثر من 50 مشروعا جاريا متعلقا بالطاقة في 15 دولة بأميركا اللاتينية بحسب أرقام عام 2022.
استحوذت الصين كذلك على شركات ومناجم مهمة في البرازيل والأرجنتين وبوليفيا وتشيلي متعلقة بمعدن الليثيوم الذي أولته اهتماما كبيرا، وهو المعدن شديد الأهمية بالنسبة للدول الصناعية لدخوله في تصنيع بطاريات الهواتف الذكية وأجهزة الحاسوب وبطاريات السيارات الكهربائية، وتحتوي تلك الدول تقريبا على نصف احتياطات الليثيوم المعروفة في العالم. كما توسعت شركة "هواوي" الصينية في القارة، بالأخص في الأرجنتين والبرازيل وتشيلي وكولومبيا والمكسيك وبيرو، إذ دخلت بقوة في مجالات البيانات والحوسبة السحابية.
وبحسب مسح أجرته جامعة المكسيك الوطنية، فإن أولويات الاستثمارات الصينية عموما في المنطقة تركزت على المواد الخام والمعادن بنسبة 34% في العقد الأخير، وقد استثمرت الصين بين عامي 2000-2018 مبلغا قدره 73 مليار دولار في قطاع المواد الخام بأميركا اللاتينية، ويشمل ذلك بناء المصافي ومصانع المعالجة في البلدان الغنية بالفحم والنحاس والغاز الطبيعي والنفط واليورانيوم، وهي تتجه أيضا بشكل كبير في السنوات الأخيرة إلى قطاعات أخرى مثل الطاقة غير الأحفورية والسيارات. وبصورة أعم، باتت الصين مؤخرا تولي أهمية خاصة في أميركا اللاتينية إلى تطوير وبناء ما تسميه "البنية التحتية الحديثة"، وهو ما يتعلق بالذكاء الاصطناعي والمدن الذكية وتكنولوجيا الجيل الخامس والحوسبة السحابية.
إعلانكل ما سبق، جعل الحضور الصيني في اقتصاد أميركا اللاتينية جاذبا بالنسبة للحكومات، فقد قدمت بكين نفسها باعتبارها بديلا أكثر نشاطا من الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي، وفي الوقت نفسه فهي لا تعوق التعاون بطلبات كثيرة خاصة بالقيود البيئية وما إلى ذلك. ركزت الصين أيضا على وضع شعار التعاون بين بلدان الجنوب العالمي من أجل تحقيق التنمية بوصفه العنوان العريض لهذا التعاون.
على أرض الواقع، لم تستفد الصين من تعاونها مع أميركا اللاتينية من ناحية النفوذ الاقتصادي فقط، وإنما انعكس النفوذ الاقتصادي إلى مكاسب سياسية مباشرة. فبحسب مجلس العلاقات الخارجية الأميركي، استطاعت الصين بجانب تعظيم نفوذها ومكاسبها الاقتصادية في القارة أن تعزز أيضا العلاقات الثقافية والتعليمية، وقد استفادت كثيرا من جائحة "كوفيد-19" حين تعاونت مع تلك البلدان ووفرت لها مئات الملايين من جرعات اللقاح بالإضافة إلى المعدات الطبية، واستطاعت بذلك أن تُظهر لحكومات دول أميركا اللاتينية أنها شريك حقيقي داعم، وليست شريكا اقتصاديا ينتظر الربح.
ومنذ عام 2001 لا تكف القيادات السياسية الصينية رفيعة المستوى عن تبادل الزيارات مع قادة المنطقة، وهو ما جعلها في النهاية توقع شراكات إستراتيجية شاملة، وهي أعلى مرتبة يمكن أن تمنحها الصين لحلفائها السياسيين، وذلك مع الأرجنتين والبرازيل وفنزويلا وبيرو والمكسيك والإكوادور وتشيلي، وقد استطاعت الصين من خلال شراكاتها الإستراتيجية هذه أن تجعل دول المنطقة لا تعترف بسيادة تايوان، إذ بقيت 7 دول فقط في المنطقة تعترف بهذه السيادة.
ووفق مجلس العلاقات الخارجية الأميركي، لم تكتفِ الصين بالجوانب "الناعمة"، بل عمدت إلى تعظيم نفوذها العسكري في أميركا اللاتينية، وهي المنطقة شديدة الخطورة بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية، وقد جرى ذلك تنفيذا لخطة الصين الإستراتيجية للدفاع عام 2016. أَثَرُ ذلك يمكن ملاحظته في فنزويلا بشكل كبير، التي باتت تعتمد على المعدات العسكرية الصينية، بينما تشتري الأرجنتين وبوليفيا والإكوادور وبيرو من الصين الطائرات والمركبات الأرضية والرادارات والبنادق الهجومية، واستطاعت الصين أيضا أن تعزز تعاونها العسكري والاستخباراتي مع كوبا. وتوفر الصين تدريبات عسكرية وإمدادات شُرطية للعديد من البلدان في تلك المنطقة، ومن أهمها بوليفيا والإكوادور، فضلا عن تبرعاتها للشرطة في ترينداد وتوباغو.
إعلان الولايات المتحدة الأميركية.. خائفةكثيرا ما تتحدث الأوراق البحثية والمقالات الصحافية الأميركية والأوروبية عن أن الصين "تُغرق دول أميركا اللاتينية في القروض، وتُوقعها في فخ الاعتماد المفرط المستقبلي عليها، كما أنها تدمر بمشاريعها الحقوق العمالية الراسخة هناك، وأن مشاريعها في بعض مجالات الطاقة لها آثار بيئية مستقبلية خطيرة للغاية، فضلا عن أنها تدعم النظم الاستبدادية وانتهاكات حقوق الإنسان في المنطقة"، وتذهب بعض الصحف الغربية إلى تغطيات كاملة عن أن المواطنين في أميركا اللاتينية غاضبون من آثار الحضور الصيني المدمر للبيئة.
ولكن بعيدا عن تلك العناوين الرنانة التي تُخفي وراءها الكثير، فإن ما يُقلق الولايات المتحدة حقا هو أن هذا الحضور الصيني المكثف في تلك المنطقة شديدة القرب منها يُعد اقترابا خطيرا قد يُستَخدم لتهديد أمنها القومي في المستقبل، تماما كما تفعل أميركا بحضورها في بحر جنوب الصين ومنطقة المحيطين الهندي والهادي.
وقد نصَّت إستراتيجية الأمن القومي الأميركي التي خرجت للنور عام 2022 على أنه لا توجد منطقة يمكن أن تؤثر على الولايات المتحدة الأميركية بقدر التأثير الذي يمكن أن يحدث من نصف الكرة الغربي، وتعترف تلك الإستراتيجية بأن شراكات الولايات المتحدة الأميركية مع دول أميركا اللاتينية قد أصابها الضمور على نحو واضح استغلته الصين لتحل محلها، مما خلق تهديدات أمنية واضحة للولايات المتحدة، إذ أصبحت الصين هي اللاعب الأقوى في أميركا الجنوبية تحديدا، واستطاعت تشكيل المنطقة لصالحها عبر وسائل السياسة والاقتصاد.
دفع الوجود الصيني القوي والسيطرة المتزايدة على البنية الأساسية والموانئ وشبكات الطاقة في تلك المنطقة العديد من السياسيين الأميركيين إلى إثارة المخاوف حول التمدد الصيني، في ظل غياب حل فعال لاحتوائه، بينما تركز الولايات المتحدة الأميركية على مناطق أخرى من العالم وتترك باحتها الخلفية عُرضة للتوسع الصيني على هذا النحو، ويُحمِّل بعض المحللين الرئيس السابق دونالد ترامب هذا التراجع بسبب إثارته انزعاج البلدان المجاورة وتراجعه عن العلاقات التجارية مع المنطقة، وهو ما استغلته بكين للتقرب من الحكومات اللاتينية.
إعلانوقد عبَّر الأدميرال كريج إس فالر، الرئيس السابق للقيادة الجنوبية الأميركية، عام 2021 عن هذا الانزعاج حين قال: "نحن نفقد ميزتنا التموضعية في هذا النصف من الكرة الأرضية، وهناك حاجة إلى اتخاذ إجراءات فورية لعكس هذا الاتجاه".
ورغم أن الرئيس جو بايدن قد عبَّر عن احتياج بلاده إلى تولي زمام المبادرة دائما في أميركا اللاتينية منذ أن كان نائبا للرئيس أوباما، وتعهده خلال فترة رئاسته بتعزيز الشراكات الأميركية من جديد مع نصف الكرة الغربي في إطار منافسة الصين ومواجهة مبادرة الحزام والطريق، فإن العديد من الخبراء يرون أن بايدن لم يبذل الجهد الكافي للتركيز على أميركا اللاتينية الخطيرة بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية، ولم يضخ القدر الكافي من المال اللازم لمواجهة المد الصيني في تلك المنطقة.
وبحسب مؤسسة "بروغل" الفكرية الأوروبية المخصصة للدراسات الاقتصادية ومقرها بروكسل، فإن الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي هما مَن تسببا في النفوذ الصيني المتصاعد في أميركا اللاتينية، ولا ينبغي للغرب أن يلوم أحدا على هذا النفوذ الصيني إلا نفسه، إذ لم تتخذ الولايات المتحدة ولا أوروبا مسألة التوصل إلى اتفاقات تجارية واستثمارية مع أميركا اللاتينية بجدية منذ سنوات، ومن ثم فقد الغرب نفوذه تدريجيا في تلك المنطقة، وفي الوقت نفسه كانت الصين تستغل الفرصة التي تخلى عنها الغرب ببساطة.
وباختصار شديد، ترى "بروغل" أنه بينما كان الغرب يُجري مفاوضات معقدة وطويلة ومليئة بالتفاصيل المنفرة مع حكومات أميركا اللاتينية، كانت الصين تأتي بنشاط وتتوسع وتنمو في المنطقة دون الكثير من المفاوضات المرهقة، إذ لم تعد دول أميركا اللاتينية مضطرة لقبول الشروط الغربية المرهقة في وقت تمد فيه الصين أيديها بالكثير من المبادرات سريعة الفاعلية.
جانب من تطوير الصين لميناء تشانكاي في البيرو (الفرنسية)وبحسب الصحيفة البريطانية "فايننشال تايمز"، فإن مسؤولي إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن قد حذَّروه مرارا وتكرارا من أن التوغل الصيني بهذا الشكل لن يؤدي فقط إلى الاعتماد المفرط لدول أميركا اللاتينية على الاستثمارات الصينية، وإنما قد يؤدي إلى مخاطر أمنية بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية، إذ يمكن أن تستخدم الصين البنية التحتية اللاتينية في المستقبل لأغراض عسكرية.
إعلانفي حين أشار المراقبون الاقتصاديون إلى أن التركيز الصيني مؤخرا على الاستثمار في التكنولوجيا الفائقة في تلك المنطقة يُمثل تحديا مباشرا لأوروبا والولايات المتحدة في إستراتيجياتها الاستثمارية وفي ساحات التنافس الاقتصادي الحاسمة في القرن الحالي. وعلى سبيل المثال، تركزت استثمارات الصين في المكسيك مباشرة على التصنيع عالي القيمة، ونقلت الشركات الصينية الإنتاج إلى المكسيك بهدف الوصول المباشر إلى أسواق أميركا الشمالية.
وبحسب "فايننشال تايمز" أيضا فإن الولايات المتحدة الأميركية رغم ذلك لا تزال فاشلة في تقديم تمويلات لمشاريع البنية التحتية في تلك المنطقة، أو عقد صفقات تجارة حرة مع مسؤولي أميركا اللاتينية، أو تقديم منتجات بديلة للمنتجات الصينية في المنطقة بأسعار تنافسية.
في ورقة بحثية بعنوان "كيف ينبغي للولايات المتحدة أن تستجيب لنفوذ الصين في أميركا اللاتينية؟"، أصدرها معهد الولايات المتحدة للسلام الذي أسسه الكونغرس الأميركي عام 1984، يتحدث الباحث نيكولاس فالبوينا كثيرا عن كيف يؤدي النفوذ السياسي الصيني في أميركا اللاتينية إلى ترسيخ "الدكتاتورية السياسية والشمولية" بحسب وصفه، وكيف يضر بالبيئة ويُوقع تلك الدول في فخ الاستدانة، مع ذلك فحين بدأت الورقة تناولها بدأته بما يؤرق الولايات المتحدة بالفعل، وهو أن النفوذ الاقتصادي الصيني يؤدي إلى زيادة نفوذ الصين السياسي على المستوى الدولي.
تبدأ الورقة البحثية من حادثة جرت 21 أغسطس/آب 2023، حين صوَّت برلمان أميركا الوسطى الذي يُمثِّل غواتيمالا والسلفادور وهندوراس ونيكاراغوا وجمهورية الدومينيكان وبنما على طرد تايوان بوصفها مراقبا دائما واستبدال جمهورية الصين بها، وسط اتجاه متزايد يدفع الدول التي يدخلها النفوذ الاقتصادي الصيني لأن تقف مع الصين بدلا من تايوان، حيث استطاعت الصين أن تجتذب 5 دول من المنطقة من عام 2017 حتى 2021 إلى صفها في تلك المعركة الدبلوماسية، ومن ثم لم يبقَ إلا 13 دولة تعترف بتايوان، منها 7 دول فقط في أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، ومن المتوقع أن تجتذب الصين المزيد من الدول مستقبلا، خاصة وقد أصبحت 21 دولة في المنطقة جزءا من مبادرة الحزام والطريق، حيث تتطور العلاقات التجارية بسرعة بين الصين ودول المنطقة إلى تحالف تنموي وثقافي.
إعلانوترى الورقة البحثية أن دول أميركا اللاتينية وحكوماتها، سواء اليسارية أو اليمينية، باتت ترى في الصين ذات النهضة الاقتصادية الجذابة فرصة حقيقية للنمو الاقتصادي، وزيادة التجارة والاستثمارات في قطاعات البنية التحتية والاتصالات والخدمات اللوجستية، فضلا عن تمويل الديون.
وتلفت الورقة الانتباه إلى أن مثل هذا النجاح الصيني يأتي في ضوء منافسة جيوسياسية بين الولايات المتحدة الأميركية والصين تجعل مثل هذا التقدم الدبلوماسي والاقتصادي الصيني في أميركا اللاتينية يُمثل تهديدا مباشرا للمصالح الأميركية، كما تُنبِّه الورقة إلى أن العديد من صناع السياسة في الولايات المتحدة الأميركية يخشون بشكل مباشر من أن تكون القوات المسلحة الصينية تخفي بالفعل منشآت ذات استخدام عسكري داخل مشاريعها العملاقة في أميركا اللاتينية، مما يُشكِّل خطرا مستقبليا على الولايات المتحدة في حال ازداد التنافس والعداء بين البلدين.
في الواقع، تتفق جُلُّ التحليلات الغربية التي تتحدث عن النفوذ الصيني في أميركا الجنوبية واللاتينية عموما على أن هناك خطرا ينبغي الانتباه إليه بالنسبة للولايات المتحدة، وأن الصين قد تمددت على نحو قد يهدد مستقبلا الأمن القومي لها، لكنها مع ذلك لا تتمكن من تقديم حلول متماسكة للسير في اتجاه معاكس، فبينما تتحدث عن الآثار البيئية السلبية المحتملة للمشاريع والتمويلات الصينية، تبدو الحكومات اللاتينية متوافقة مع الحكومة الصينية وساعية لمد التعاون أكثر وأكثر، بينما تقف الولايات المتحدة ومعها الاتحاد الأوروبي في موقع يفتقد للفاعلية حتى الآن، ولا تُبدي التحركات النشطة اللازمة لمحاولة مقاومة المد الصيني في فنائها الخلفي.