جوزيب بوريل: «انقلاب مؤسساتي» في الغابون أم تونس؟!
تاريخ النشر: 7th, September 2023 GMT
جوزيب بوريل: «انقلاب مؤسساتي» في الغابون أم تونس؟!
هل نلوم انتهازية الأوروبيين؟ طبعا لا فاللوم كله على من يقبل بالاستبداد، أو يرى الخلاص في انقلاب عسكري، مع أن كليهما ألعن من الآخر.
انصرف الاهتمام الأوروبي إلى الوضع الاقتصادي في تونس والخوف من «انهيارها» وقضايا الهجرة واللجوء، بعد تكدس اللاجئين الأفارقة في تونس.
ليس فقط لم يتحقق في تونس «استقرار المؤسسات» الذي طالب به بوريل بل ما حدث هو تفجير كامل لهذه المؤسسات التي بنيت بعد 2011 فتناثرت أشلاء مبعثرة.
الأوروبيين متسامحون مع أي استبداد طالما لا يهدد مصالحهم ويضمن التبعية، لكن يصرخون إذا حدث انقلاب يهددها بل يتفهمون أي انقلاب ضد حكم يناهضهم أو حتى يدبرونه.
تراجع الحديث الأوروبي عن الديمقراطية في تونس، وأصبح أكثر خجلا، بعد فرض سعيدأمرا واقعا جديدا لم ير الأوروبيون أن التونسيين غاضبون منه أو خرجوا بكثافة ضده!
* * *
تعبير سياسي نادر استعمله جوزيب بوريل الممثل الأعلى للسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي يستحق فعلا التوقف عنده: «الانقلاب المؤسساتي».
الخميس الماضي وفي سياق حديثه عن الانقلاب العسكري في الغابون، قال بوريل إن الانتخابات التي جرت في هذا البلد الافريقي قبل هذا الانقلاب، وفاز بها علي بونغو «شابتها مخالفات عدة» وأن تصويتا مزورا كالذي حدث يمكن اعتباره «انقلابا مؤسساتيا مدنيا».
كان لافتا اللجوء إلى مثل هذا التعبير عندما يتعلق الحدث بانقلاب عسكري واضح المعالم لأنه يوحي بنوع من التفهم للسياق الذي جاء فيه عبر القول إن بانغو كان سبقه بـ«انقلاب مؤسساتي مدني».
صحيح أن تزييف نتائج أي انتخابات خطيئة كبرى، إلا أن استعمال «انقلاب مؤسساتي مدني» بدا أوسع بكثير مما جرى هناك، في حين أنها تنطبق تماما على بلد مثل تونس، لكن بوريل لم يقل ذلك قط.
ما قام به الرئيس قيس سعيد بعد 25 يوليو/تموز 2021 متعسفا على الدستور، قبل أن يلغيه لاحقا، وحله كل المؤسسات الدستورية المنتخبة، وتنصيب أخرى هو من قرر منفردا تركيبتها وأعضاءها، ثم كتابة دستور جديد يمنحه صلاحيات طاغوتية، هو من صاغه وحده في سابقة لم يعرفها العالم، ثم المضي لاعتماده بعيدا عن إجماع وطني أو تأييد شعبي مقنع.
ثم الذهاب إلى انتخابات برلمان جديد بصلاحيات هزيلة شارك فيها فقط عشر الناخبين، والدخول في مواجهة مفتوحة مع القضاة لترهيبهم وإخضاعهم، ثم الزج بعشرات المعارضين في السجون بتهم واهية من بينهم رئيس البرلمان الشرعي.
فضلا عن سن قوانين تنسف الحق في التعبير وتسمح بملاحقات قانونية للمعبرين عن آراء معارضة ومنع المئات من السفر دون أدنى وجاهة…وغير ذلك كثير…
إذا لم يكن هذا «انقلابا دستوريا مدنيا» فماذا عساه يكون؟!
بوريل، الذي سارع لوصف ما جرى في الغابون قبل الانقلاب من تجاوزات بأنه «انقلاب مؤسساتي مدني» لم يلجأ إلى ذات التوصيف عن تونس حتى بعد مرور عامين، لا هو ولا غيره من الدول الغربية للأمانة، مع أنه صرح الكثير والكثير عن تونس، وبلهجة نقدية أثارت في بعض المرات حفيظة السلطات، نفسها، لكنه لم يقل أبدا ما قاله عن الغابون مع أن سياقه أكثر وجاهة ألف مرة.
هناك فرق كبير بين مخالفات، حتى وإن كانت جسيمة في الغابون، وبين ما جاء ليفكك بالكامل أوصال المنظومة الدستورية التي جاءت به أصلا إلى دفة الرئاسة ليفرض أخرى على مزاجه.
ماذا قال بوريل عن تونس طوال أكثر من عامين؟
بعد يومين فقط من 25 يوليو/ تموز 2021، خرج الممثل الأعلى للشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي ليتحدث عن «ضرورة أن يتم احترام الدستور وسيادة القانون والمؤسسات في تونس» وأن «بروكسل وعواصم الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تتابع عن كثب التطورات في تونس، وتطالب بإعادة عمل البرلمان وضمان استقرار المؤسسات بشكل عاجل وبدون إبطاء» كما جاء في بيانه وقتها.
فهل حصل أي شيء من هذا؟! طبعا لا.
أكثر من ذلك، بوريل وفي زيارته إلى تونس في سبتمبر /أيلول من نفس العام، أي بعد أقل من شهرين من انقلاب سعيد، اكتفى بالتأكيد على «احترام سيادة تونس» وأهمية «قيادتها نحو الاستقرار المؤسساتي».
وأضاف بعد لقائه سعيد أنه نقل إليه «المخاوف الأوروبية بشأن الحفاظ على المكتسبات الديمقراطية في تونس الكفيلة دون غيرها بضمان استقرار وازدهار البلاد ولا شك في أن الممارسة الحرة للسلطة التشريعية واستئناف النشاط البرلماني يدخلان في إطار تلك المكتسبات وينبغي احترامها» وأنه «لا بد أن تسير البلاد نحو استعادة استقرار المؤسسات مع الحفاظ على هذه الركائز الديمقراطية».
ليس فقط لم يتحقق «استقرار المؤسسات» الذي طالب به بوريل بل ما حدث هو تفجير كامل لهذه المؤسسات التي بنيت بعد 2011 فتناثرت أشلاء مبعثرة. بعد ذلك، انصرف الاهتمام الأوروبي بالدرجة الأولى إلى الوضع الاقتصادي في تونس، والإعراب عن الخوف من «انهيارها» وقضايا الهجرة واللجوء، خاصة بعد ما تعرض له اللاجئون الأفارقة في تونس والزيارات المكوكية لرئيسة الحكومة الإيطالية إليها.
تراجع الحديث الأوروبي عن الديمقراطية في تونس، وأصبح أكثر خجلا، بعد أن نجح سعيد في فرض أمر واقع جديد لم ير الأوروبيون أن التونسيين غاضبون منه، أو خرجوا بكثافة للاحتجاج ضده، فلم يريدوا على ما يبدو أن يكونوا ملكيين أكثر من الملك وقد يكونون محقين في ذلك.
والخلاصة أن الأوروبيين متسامحون مع أي استبداد طالما لا يهدد مصالحهم ويضمن ديمومة التبعية، لكنهم يصرخون إذا حدث أي انقلاب يربك ذلك، لكنهم قادرون في المقابل على تفهم أي انقلاب، أو حتى تدبيره، إذا جاء لينقض على حكم مناهض لهم، والأمثلة كثيرة.
هل نلومهم على ذلك؟ طبعا لا، فاللوم كله على من يقبل بالاستبداد، أو يرى الخلاص في انقلاب عسكري، مع أن كليهما ألعن من الآخر.
*محمد كريشان كاتب وإعلامي تونسي
المصدر | القدس العربيالمصدر: الخليج الجديد
كلمات دلالية: أوروبا بوريل تونس الغابون الاستبداد الانتخابات الدستور الديمقراطية أوروبيون التبعية قيس سعيد الهجرة واللجوء فی الغابون فی تونس
إقرأ أيضاً:
محاكمة معارضين بتهمة التآمر في تونس تنطلق الثلاثاء
تنطلق محاكمة العديد من الشخصيات البارزة المعارضة للرئيس التونسي قيس سعيد، بعد غد الثلاثاء، بتهمة "التآمر على أمن الدولة"، التي وصفتها منظمات غير حكومية وقوى المعارضة بأنها "سياسية" و"فارغة".
وتشمل المحاكمة مسؤولين حزبيين ومحامين وشخصيات إعلامية من بين نحو 40 متهما، ويواجهون تهما خطيرة قد تصل عقوبتها إلى الإعدام.
ووجهت السلطات إلى المتهمين تهم "التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي" و"الانتماء إلى تنظيم إرهابي"، وفقا لهيئة الدفاع عنهم. وتشير الاتهامات إلى أن بعض المتهمين أقاموا اتصالات مع جهات أجنبية، بما في ذلك دبلوماسيون.
ومن بين المتهمين رئيس "الحزب الجمهوري" عصام الشابي، والمحامي جوهر بن مبارك، والمسؤول السابق في حزب النهضة عبد الحميد الجلاصي، بالإضافة إلى الناشطة شيماء عيسى ورجل الأعمال كمال الطيف والنائبة السابقة بشرى بلحاج حميدة والكاتب الفرنسي برنار هنري ليفي.
وقد أُوقف العديد من المتهمين خلال حملة أمنية شنتها السلطات التونسية على صفوف المعارضة عام 2023. ومنذ ذلك الحين، تواجه تونس انتقادات حادة من منظمات حقوقية ودولية بسبب ما يعتبر تراجعا في الحريات العامة وحقوق الإنسان.
رسالة من السجنومن داخل سجنه، ندد بن مبارك، أحد مؤسسي "جبهة الخلاص الوطني" (الائتلاف الرئيسي للمعارضة)، بما وصفه بمحاولة الدولة "إجهاض التجربة الديمقراطية التونسية الفتية".
إعلانوقال في رسالة قُرئت خلال مؤتمر صحفي "سعت السلطة جاهدة إلى تدجين القضاء وحشره في زاوية المظالم لتنفيذ أهوائها وتصفية منهجية لكل الأصوات الرافضة أو المقاومة أو حتى الناقدة".
وأكدت المحامية دليلة مصدق، شقيقة بن مبارك، أن ملف التحقيق "فارغ" ومبني على "اتهامات تعتمد على شهادات زائفة". كما أعلنت هيئة الدفاع أن السلطات القضائية قررت إجراء المحاكمة عن بُعد عبر الفيديو، دون نقل المتهمين إلى المحكمة، وهو ما قوبل برفض شديد من قبل الدفاع وأهالي المتهمين الذين يطالبون بمحاكمة علنية.
انتقادات دوليةبدورها، أعربت مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان عن قلقها إزاء هذه المحاكمات، داعية السلطات التونسية إلى "وقف جميع أشكال اضطهاد المعارضين السياسيين، واحترام الحق في حرية الرأي والتعبير".
كما طالبت بالإفراج الفوري عن المتهمين الذين يعانون من مشاكل صحية أو هم في سن متقدمة.
وردا على هذه الانتقادات، أعربت تونس عن "بالغ الاستغراب"، مؤكدة أن المتهمين قد أُحيلوا إلى المحاكم بسبب "جرائم حق عام لا علاقة لها بنشاطهم الحزبي أو السياسي أو بممارسة حرية الرأي والتعبير".
وأضافت وزارة الخارجية أن تونس يمكن أن تعطي دروسا "لمن يعتقد أنه في موقع يسمح له بتوجيه بيانات أو دروس".
وتعود جذور هذه الأزمة إلى قرارات سعيد في صيف 2021، التي شملت حل البرلمان وتعليق العمل بأجزاء من الدستور، وإعلان حالة الطوارئ، مما أثار انتقادات واسعة من المعارضة والمنظمات الدولية.
ومنذ ذلك الحين، شهدت تونس تصاعدا في حملات الاعتقالات ضد النشطاء والسياسيين المعارضين، بالإضافة إلى إصدار أحكام قاسية بحق بعضهم. وفي مطلع فبراير/شباط الماضي، حُكم على زعيم حركة النهضة والرئيس السابق للبرلمان، راشد الغنوشي، بالسجن 22 عاما في قضية أخرى.