جوزيب بوريل: «انقلاب مؤسساتي» في الغابون أم تونس؟!

هل نلوم انتهازية الأوروبيين؟ طبعا لا فاللوم كله على من يقبل بالاستبداد، أو يرى الخلاص في انقلاب عسكري، مع أن كليهما ألعن من الآخر.

انصرف الاهتمام الأوروبي إلى الوضع الاقتصادي في تونس والخوف من «انهيارها» وقضايا الهجرة واللجوء، بعد تكدس اللاجئين الأفارقة في تونس.

ليس فقط لم يتحقق في تونس «استقرار المؤسسات» الذي طالب به بوريل بل ما حدث هو تفجير كامل لهذه المؤسسات التي بنيت بعد 2011 فتناثرت أشلاء مبعثرة.

الأوروبيين متسامحون مع أي استبداد طالما لا يهدد مصالحهم ويضمن التبعية، لكن يصرخون إذا حدث انقلاب يهددها بل يتفهمون أي انقلاب ضد حكم يناهضهم أو حتى يدبرونه.

تراجع الحديث الأوروبي عن الديمقراطية في تونس، وأصبح أكثر خجلا، بعد فرض سعيدأمرا واقعا جديدا لم ير الأوروبيون أن التونسيين غاضبون منه أو خرجوا بكثافة ضده!

* * *

تعبير سياسي نادر استعمله جوزيب بوريل الممثل الأعلى للسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي يستحق فعلا التوقف عنده: «الانقلاب المؤسساتي».

الخميس الماضي وفي سياق حديثه عن الانقلاب العسكري في الغابون، قال بوريل إن الانتخابات التي جرت في هذا البلد الافريقي قبل هذا الانقلاب، وفاز بها علي بونغو «شابتها مخالفات عدة» وأن تصويتا مزورا كالذي حدث يمكن اعتباره «انقلابا مؤسساتيا مدنيا».

كان لافتا اللجوء إلى مثل هذا التعبير عندما يتعلق الحدث بانقلاب عسكري واضح المعالم لأنه يوحي بنوع من التفهم للسياق الذي جاء فيه عبر القول إن بانغو كان سبقه بـ«انقلاب مؤسساتي مدني».

صحيح أن تزييف نتائج أي انتخابات خطيئة كبرى، إلا أن استعمال «انقلاب مؤسساتي مدني» بدا أوسع بكثير مما جرى هناك، في حين أنها تنطبق تماما على بلد مثل تونس، لكن بوريل لم يقل ذلك قط.

ما قام به الرئيس قيس سعيد بعد 25 يوليو/تموز 2021 متعسفا على الدستور، قبل أن يلغيه لاحقا، وحله كل المؤسسات الدستورية المنتخبة، وتنصيب أخرى هو من قرر منفردا تركيبتها وأعضاءها، ثم كتابة دستور جديد يمنحه صلاحيات طاغوتية، هو من صاغه وحده في سابقة لم يعرفها العالم، ثم المضي لاعتماده بعيدا عن إجماع وطني أو تأييد شعبي مقنع.

ثم الذهاب إلى انتخابات برلمان جديد بصلاحيات هزيلة شارك فيها فقط عشر الناخبين، والدخول في مواجهة مفتوحة مع القضاة لترهيبهم وإخضاعهم، ثم الزج بعشرات المعارضين في السجون بتهم واهية من بينهم رئيس البرلمان الشرعي.

فضلا عن سن قوانين تنسف الحق في التعبير وتسمح بملاحقات قانونية للمعبرين عن آراء معارضة ومنع المئات من السفر دون أدنى وجاهة…وغير ذلك كثير…

إذا لم يكن هذا «انقلابا دستوريا مدنيا» فماذا عساه يكون؟!

بوريل، الذي سارع لوصف ما جرى في الغابون قبل الانقلاب من تجاوزات بأنه «انقلاب مؤسساتي مدني» لم يلجأ إلى ذات التوصيف عن تونس حتى بعد مرور عامين، لا هو ولا غيره من الدول الغربية للأمانة، مع أنه صرح الكثير والكثير عن تونس، وبلهجة نقدية أثارت في بعض المرات حفيظة السلطات، نفسها، لكنه لم يقل أبدا ما قاله عن الغابون مع أن سياقه أكثر وجاهة ألف مرة.

هناك فرق كبير بين مخالفات، حتى وإن كانت جسيمة في الغابون، وبين ما جاء ليفكك بالكامل أوصال المنظومة الدستورية التي جاءت به أصلا إلى دفة الرئاسة ليفرض أخرى على مزاجه.

ماذا قال بوريل عن تونس طوال أكثر من عامين؟

بعد يومين فقط من 25 يوليو/ تموز 2021، خرج الممثل الأعلى للشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي ليتحدث عن «ضرورة أن يتم احترام الدستور وسيادة القانون والمؤسسات في تونس» وأن «بروكسل وعواصم الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تتابع عن كثب التطورات في تونس، وتطالب بإعادة عمل البرلمان وضمان استقرار المؤسسات بشكل عاجل وبدون إبطاء» كما جاء في بيانه وقتها.

فهل حصل أي شيء من هذا؟! طبعا لا.

أكثر من ذلك، بوريل وفي زيارته إلى تونس في سبتمبر /أيلول من نفس العام، أي بعد أقل من شهرين من انقلاب سعيد، اكتفى بالتأكيد على «احترام سيادة تونس» وأهمية «قيادتها نحو الاستقرار المؤسساتي».

وأضاف بعد لقائه سعيد أنه نقل إليه «المخاوف الأوروبية بشأن الحفاظ على المكتسبات الديمقراطية في تونس الكفيلة دون غيرها بضمان استقرار وازدهار البلاد ولا شك في أن الممارسة الحرة للسلطة التشريعية واستئناف النشاط البرلماني يدخلان في إطار تلك المكتسبات وينبغي احترامها» وأنه «لا بد أن تسير البلاد نحو استعادة استقرار المؤسسات مع الحفاظ على هذه الركائز الديمقراطية».

ليس فقط لم يتحقق «استقرار المؤسسات» الذي طالب به بوريل بل ما حدث هو تفجير كامل لهذه المؤسسات التي بنيت بعد 2011 فتناثرت أشلاء مبعثرة. بعد ذلك، انصرف الاهتمام الأوروبي بالدرجة الأولى إلى الوضع الاقتصادي في تونس، والإعراب عن الخوف من «انهيارها» وقضايا الهجرة واللجوء، خاصة بعد ما تعرض له اللاجئون الأفارقة في تونس والزيارات المكوكية لرئيسة الحكومة الإيطالية إليها.

تراجع الحديث الأوروبي عن الديمقراطية في تونس، وأصبح أكثر خجلا، بعد أن نجح سعيد في فرض أمر واقع جديد لم ير الأوروبيون أن التونسيين غاضبون منه، أو خرجوا بكثافة للاحتجاج ضده، فلم يريدوا على ما يبدو أن يكونوا ملكيين أكثر من الملك وقد يكونون محقين في ذلك.

والخلاصة أن الأوروبيين متسامحون مع أي استبداد طالما لا يهدد مصالحهم ويضمن ديمومة التبعية، لكنهم يصرخون إذا حدث أي انقلاب يربك ذلك، لكنهم قادرون في المقابل على تفهم أي انقلاب، أو حتى تدبيره، إذا جاء لينقض على حكم مناهض لهم، والأمثلة كثيرة.

هل نلومهم على ذلك؟ طبعا لا، فاللوم كله على من يقبل بالاستبداد، أو يرى الخلاص في انقلاب عسكري، مع أن كليهما ألعن من الآخر.

*محمد كريشان كاتب وإعلامي تونسي

المصدر | القدس العربي

المصدر: الخليج الجديد

كلمات دلالية: أوروبا بوريل تونس الغابون الاستبداد الانتخابات الدستور الديمقراطية أوروبيون التبعية قيس سعيد الهجرة واللجوء فی الغابون فی تونس

إقرأ أيضاً:

بوريل: الأردن شريك لا يمكن الاستغناء عنه وهو مرساة للاستقرار

سرايا - قال الممثل الأعلى للسياسة الخارجية والأمنية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، الخميس، إن الأردن يعتبر شريكا لا يمكن الاستغناء عنه وهو مرساة للاستقرار في عين العاصفة.

وأكد بوريل أن الأردن كان وما يزال يدافع عن مبادئ النزاهة بالوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية وهو دائما يدعو لإنصاف الفلسطينيين.

وأشار بوريل إلى أن التعاون بين الاتحاد الأوروبي والأردن ينمو، والاتحاد الأوروبي على استعداد لتعزيز اتفاقية الشراكة والعمل يجري لتحقيق ذلك مع نهاية العام الحالي.

وأوضح بوريل أن الاتحاد الأوروبي ملتزم بتقديم الدعم للأردن والمنطقة بأكبر قدر ممكن، معربا عن أمله أن تستمر وتتقدم الصداقة في مجال الأمن والتجارة والتنمية البشرية والأمور التكنولوجية، مشددا على تقديم الدعم للأردن في عملية التحديث ثلاثية الأبعاد السياسية والاقتصادية والإدارة العامة.

وفيما يخص غزة، أعرب بوريل عن انزعاجه الشديد على التكلفة البشرية الباهظة والتدمير واسع النطاق جراء النزاع، مشيرا إلى أن أعداد الأطفال الذين قتلوا في غزة مرعب جداً.

وقال بوريل إن قرار المحكمة الجنائية الدولية ملزم لجميع الدول لتنفيذ القرار الصادر عنها.

وكانت المحكمة الجنائية الدولية أصدرت الخميس أوامر اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الحرب المقال يوآف غالانت بخصوص جرائم حرب في غزة.





تابع قناتنا على يوتيوب تابع صفحتنا على فيسبوك تابع منصة ترند سرايا


طباعة المشاهدات: 564  
1 - ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه. 21-11-2024 05:18 PM

سرايا

لا يوجد تعليقات
رد على :
الرد على تعليق
الاسم : *
البريد الالكتروني :
التعليق : *
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :
اضافة
أثناء عمله في قبو .. سباك يعثر على كنز "ذهبي" بيع موزة وشريط لاصق بـ6.2 ملايين دولار مرض دماغي غامض يثير رعبا في كندا .. والسلطات تتدخل بطريقة دفنه .. البابا فرنسيس يتخلى عن عُرف استمر لقرون تفاصيل "اليد المميتة" الروسية .. 400... الأردن يمنع استيراد الكركم الطازج اختبار الثانوية العامة لطلبة الـ11 إلكترونيا موجة باردة للغاية تلوح في أفق الأردن مطالب بوقف العمل بتمديد نظام التوقيت الصيفي - تفاصيل قطر تدعو الأمم المتحدة لمواصلة استخدام القرار رقم...لجنة أممية تعتمد 3 قرارات لصالح فلسطينأكثر من 44 ألف شهيد في اليوم الـ412 لحرب الإبادة...لأول مرة .. روسيا تطلق باليستياً عابراً للقارات...من المؤرخ الإسرائيلي الذي قُتل في معارك لبنان وماذا...بن غفير: الرد على أوامر الاعتقال بفرض السيادة... مرشح ترامب للقضاء دفع مالاً لنساء مقابل علاقة .....أثناء اجتماعه بهوكشتاين .. هكذا تلقى نتنياهو خبر...بعد مذكرة الاعتقال .. نتنياهو وغالانت محرومان من... مريم أوزرلي تعود إلى الشاشة بعد 11 عامًا بدور العشيقة علي جابر يعود بقوة لـArabs Got Talent: انتقاد لجنة... ممثل أميركي يرفض كوب "ستاربكس" على المسرح... بسبب صباح الجزائري كانت وفاء موصلي سترفض "باب... بعد مقتل مصورته على يد الممثل .. عرض أول متواضع... ما هو المرض الذي يعاني منه بيكهام .. وليس له علاج؟ نادي هلال القدس يهنئ نادي السلط بعد فوزه بلقب درع الاتحاد 200 دينار لكل لاعب بنادي السلط من الحياصات "عبء ثقيل" .. ديشان يجتمع مع مبابي لسحب "شارة القيادة" الاتحاد البرازيلي يصدم جماهيره: فينيسيوس "كاميروني" الملياردير الهندي جوتام أداني متهم في قضية رشوة بقيمة 265 مليون دولار جريمة تحولت لحرب سياسية .. إدانة قاتل الطالبة الأميركية سجن طبيب تخدير أمريكي 190 عاما لحقنه مادة حاصرة للأعصاب وأدوية أخرى في الأكياس الوريدية في حادثة غريبة .. "آيفون" يوثّق لقطات من داخل فم قرش النمر .. فيديو بعد ماكدونالدز .. الجزر يتسبب بوفاة واحدة وعشرات الإصابات بأميركا جريمة تصدم الليبيين .. يذبحون الحمير لبيع لحومها في الأسواق بحكم قضائي .. الزوجة الثانية لـ"بيغ رامي" تعلن الخلع بدولار واحد .. منازل إيطالية للمنزعجين من فوز ترامب لعنة "تاريخية" تلاحق قصراً في البندقية أعلى مطار في العالم .. الركاب يستخدمون أقنعة الأوكسجين

الصفحة الرئيسية الأردن اليوم أخبار سياسية أخبار رياضية أخبار فنية شكاوى وفيات الاردن مناسبات أريد حلا لا مانع من الاقتباس وإعادة النشر شريطة ذكر المصدر(وكالة سرايا الإخبارية) saraynews.com
الآراء والتعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها فقط
جميع حقوق النشر محفوظة لدى موقع وكالة سرايا الإخبارية © 2024
سياسة الخصوصية برمجة و استضافة يونكس هوست test الرجاء الانتظار ...

مقالات مشابهة

  • جوزيب بوريل يعلق على قرار المحكمة الجنائية الدولية بحق نتنياهو وغالانت
  • بعد اصدار مذكرة اعتقال ضد نتنياهو وغالانت .. هكذا علق بوريل
  • بوريل: الأردن شريك لا يمكن الاستغناء عنه وهو مرساة للاستقرار
  • بوريل: الحرب في غزة حرب ضد الأطفال وتقتل مستقبل جيل كامل
  • بوريل: الأطفال يمثلون غالبية الضحايا في قطاع غزة
  • جلسة بمعرض Cairo ICT’24 تؤكد أهمية التحليل البياني في اتخاذ قرارات أكثر دقة وكفاءة
  • Cairo ICT’24.. أهمية التحليل البياني في اتخاذ قرارات أكثر دقة وكفاءة
  • رغم الانتصار على الغابون وليسوتو... المنتخب المغربي يتراجع بمركز في الترتيب العالمي
  • بوريل: على أوروبا دعم أوكرانيا بغض النظر عن موقف ترامب
  • بوريل: وزراء دفاع الاتحاد الأوروبي يناقشون مع "الناتو" استمرار المساعدات لأوكرانيا