التوقف أمام الموقع الذي يحتله سيد درويش في عالمي نجيب محفوظ وصنع الله إبراهيم قد يكون مفيدا في الكشف عن مكانة فنان الشعب وعظيم مكانته وتأثيره، فهو عند كاتبين مختلفين من حيث الانتماء الجيلي والقناعات السياسية والفكرية، يحظى بوجود دال ينم عن استمرار تأثيره في نسيج الحياة المصرية.

 


نجيب محفوظ
لا يحتاج ولع نجيب بالغناء والموسيقى إلى دليل، ففي عالمه الروائي والقصصي تبرز أسماء ذات شأن، أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب ومنيرة المهدية، فضلا عن عبده الحامولي، لكن خصوصية رؤية محفوظ لسيد درويش تتجسد في الانتباه إلى دوره التجديدي البارز في الموسيقى العربية، ملحنا رائدا قبل أن يكون مطربا.

ولأن الشهرة التي ينالها المطربون أضعاف أضعاف ما يحظى به الملحنون وشعراء الأغنية عادة، فإن سيد درويش قد يكون الملحن الأبرز عند نجيب، لكنه لا يصل على الصعيد الكمي إلى منافسة كبار المطربين والمطربات.


شخصيات 
الصحفي أحمد بدير، في "القاهرة الجديدة"، متأثرا بجمال الرقص الذي يشاهده في حفلة خيرية، يترنم بأغنية لسيد درويش تترجم مشاعر الإبهار والدهشة التي تسكنه:"دا بأف مين اللي يألس على بنت مصر بأنه وش".
وجعفر خليل، أحد أصدقاء طفولة الراوي في "المرايا"، يبدو مولعا بالغناء لسيد درويش ومنيرة المهدية وعبد اللطيف البنا.
وفنان الشعب الذي يحقق شهرة مدوية في عشرينيات القرن العشرين، واحد من مجموعة الفنانين البارزين الذين يتطرق إليهم حديث الأصدقاء في "قصر الشوق":"ثم اشترك حسين وإسماعيل وحسن في حديث عن منيرة وسيد درويش وصالح وعبداللطيف البنا".
في "ميرامار"، يعتزل الصحفي عامر وجدي قانعا بالحياة الهامشية الهادئة، ويودع في ذمة الله ذكريات الأزهر:"وصحبة الشيخ علي محمود وزكريا أحمد وسيد درويش".

 


في جلسة السكر التي تواكب فرح عايدة شداد في "قصر الشوق"، يُذكر خبر موت سيد درويش على اعتبار أنه من الكوارث التي تصيب الوطن:"موت المنفلوطي وسيد درويش وضياع السودان أحداث كللت زماننا بالسواد".
لا يتوافق الاهتمام الكمي بسيد درويش في عالم محفوظ مع النظر إلى موته ككارثة لا تقل هولا عن موت المنفلوطي وضياع السودان، والسر كامن في تفرده اللحني دون الغنائي، ومن هنا تظهر عشرات من الأغنيات التي يلحنها دون الإشارة إلى اسمه، ومن ذلك ما نجده في السطور الأخيرة من "بين القصرين"، حيث يُسدل الستار مع صوت الطفل كمال وهو يغني:"زوروني كل سنة مرة".


صنع الله إبراهيم
في "نجمة أغسطس"، يردد ذهني بصوت خشن، تحت شمس المغيب، أغنية لعبدالحليم حافظ، وعندئذ يسأله الراوي:"إن كان يعرف أغاني سيد درويش أو عبدالوهاب القديمة، لكنه لم يكن يذكرها".
لا تتوافق لوحة الغروب كثيرا مع الاتجاه الذي يمثله عبد الحليم، فالمشهد في حاجة إلى إطار شجني يتمثل في ألحان سيد درويش والقديم من أغنيات محمد عبد الوهاب. لا يتواصل ذهني مع التراث الغنائي القديم، لكن الإبداع المتميز لسيد درويش يتغلغل في أعماق المصريين، ويلجأون إليه في عديد من المواقف التي تواجههم. قد لا يعرفون أنهم يرددون ألحان الفنان الرائد، لكنهم يتمثلون بها ويحفظونها.
في السجن، على النحو الذي تقدمه رواية "شرف"، يظهر اللحن الشعبي الشائع ويغيب اسم صاحبه:"سالمة يا سلامة.. رحنا وجينا بالسلامة".
لحن مسعف في التعبير الصادق الدقيق عن طبيعة المشهد، وغياب اسم الملحن فنان الشعب لا يحول دون الحضور الطاغي لما يبدع من الألحان.
في حفل لفرقة الموسيقى العربية في لبنان، تقترب به رواية "بيروت بيروت" من نهايتها، يظهر اسم سيد درويش في البرنامج المطبوع، وبألحانه الشهيرة يبدأ الحفل:"بأغنية سيد درويش المعروفة، التي اشتهرت بها فيروز، "زوروني كل سنة مرة"، تلتها اثنتان من أغانيه عن الحرف، هما لحن العربجية ولحن الشيالين.
كان الأداء جيدا والتصفيق جارفا، واجتاحني شعور من النشوة، وعندما غنت الفرقة "أهو دا اللي صار" تفجر البركان الحبيس".
الألحان العاطفية تحقق نجاحا، والاتجاه الشعبي لا يقل تأثيرا. الراوي ليس من المولعين بالموسيقى العربية، لكنه ينفعل بالأغنية ذات العنوان الدال الموجع ويتفاعل معها بطريقته:"أهو دا اللي صار"، وكأنه يرى فيها تعبيرا عن الهم الجمعي والمحنة الكابوسية وأشباح الضياع:"كانت الأغنية التي كتب كلماتها بديع خيري، منذ أكثر من ستين عاما:
أهو دا اللي صار وآدي اللي كان
مالكشي حق تلوم عليّ
تلوم عليّ إزاي يا سيدنا
وخير بلادنا ماهوش بإيدنا
قولي عن حاجات تفيدنا
وبعدها ابقى لوم عليّ
بدل ما يشمت فينا حاسد
إيدك في إيدك نقوم نجاهد
وإحنا نبقى شعب واحد
والأيادي تكون قوية
سالت الدموع من عيني كالسيل، وفشلت في إيقافها فتركت لها العنان.
- شو القصة؟
لم أرد عليها واسترسلت في البكاء".
البكاء تعبير عفوي عن الإحساس الطاغي بالتدهور العربي، والحسرة مردودة إلى الخير الضائع والتطاحن العبثي المدمر. مراودة شجنية لحلم الشعب الواحد، والقوة التي تواجه الصعاب وتقهرها.
البكاء يتوج الأزمة، والدموع تطهر القلب والروح، ويبرهن سيد درويش، بعد عقود من رحيله، على أنه معاصر ومواكب لكل ما يمر به الوطن من أحداث وحوادث.

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: سید درویش

إقرأ أيضاً:

د.مصطفى ثابت يكتب: مصر تتصدى لمخططات التهجير.. كيف أفشل السيسي مشروع ترامب لتصفية القضية الفلسطينية؟

‎لطالما كانت مصر داعمًا رئيسيًا للقضية الفلسطينية، انطلاقًا من مسؤوليتها التاريخية والقومية تجاه الشعب الفلسطيني. ومنذ اندلاع العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة، برز الدور المصري بقوة في الدفاع عن حقوق الفلسطينيين، ليس فقط من خلال الجهود الدبلوماسية لوقف العدوان، ولكن أيضًا برفضها القاطع لأي محاولات لفرض واقع جديد عبر تهجير الفلسطينيين من أرضهم.

وكانت الإدارة المصرية، وعلى رأسها الرئيس عبد الفتاح السيسي، في طليعة من تصدوا لمقترحات التهجير القسري التي روّجت لها بعض الأوساط الأمريكية والإسرائيلية، وفي مقدمتها فكرة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بترحيل الفلسطينيين إلى سيناء أو الأردن.

المحاولات الأمريكية لفرض التهجير كحل للأزمة

‎منذ بداية الأزمة، سعت بعض الدوائر الغربية، بقيادة إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، إلى إعادة إحياء أفكار قديمة تهدف إلى تفريغ قطاع غزة من سكانه، تحت مزاعم توفير “حل إنساني” لهم.

وكان الاقتراح الذي تم تسريبه يشير إلى نقل مئات الآلاف من الفلسطينيين إلى الأراضي المصرية في سيناء، أو إلى الأردن، باعتبار ذلك مخرجًا للأزمة التي صنعتها إسرائيل عبر الحصار والعدوان المستمر.

‎ويأتي هذا الاقتراح امتدادًا لرؤية ترامب تجاه القضية الفلسطينية، التي تجلت بوضوح في خطته المعروفة بـ”صفقة القرن”، والتي تضمنت العديد من الترتيبات التي تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية وتذويب حقوق الفلسطينيين في حلول مؤقتة غير عادلة، بعيدًا عن حقهم الأصيل في إقامة دولتهم المستقلة على أرضهم.

الموقف المصري.. رفض حاسم وحجج قوية

‎ومنذ اللحظة الأولى لطرح هذه الأفكار، جاء الموقف المصري حاسمًا وواضحًا برفضها التام لأي محاولات لتهجير الفلسطينيين، سواء إلى مصر أو إلى أي مكان آخر خارج أرضهم. وتبلور هذا الموقف في عدة نقاط رئيسية:


‎ 1. رفض المساس بالسيادة المصرية:

أكدت مصر مرارًا وتكرارًا أنها لن تسمح بأي تغيير ديموغرافي في المنطقة، خاصةً إذا كان على حساب الأمن القومي المصري.

وأوضحت القيادة المصرية أن سيناء أرض مصرية لا يمكن استخدامها لتصفية القضية الفلسطينية أو فرض حلول لا يقبلها الشعب الفلسطيني.

‎ 2. التأكيد على حقوق الفلسطينيين في أرضهم:

شددت مصر على أن أي حل للأزمة في غزة يجب أن يكون عبر وقف العدوان الإسرائيلي وإنهاء الاحتلال، وليس عبر ترحيل السكان الأصليين من أرضهم.

وهذا المبدأ يتماشى مع الموقف التاريخي لمصر التي دعمت الفلسطينيين منذ النكبة، ورفضت عبر العقود أي مخططات تهدف إلى تشريدهم.

‎ 3. البعد الأمني والاستراتيجي:

يدرك صانع القرار المصري أن تهجير الفلسطينيين إلى سيناء لن يحل المشكلة، بل سيخلق أزمة جديدة قد تكون لها تداعيات كارثية على الأمن القومي المصري.

إن إدخال أعداد كبيرة من الفلسطينيين إلى سيناء سيخلق توترًا إضافيًا في منطقة كانت مصر تعمل بجهد على تأمينها واستقرارها بعد سنوات من مكافحة الإرهاب.

‎ 4. رفض فرض سياسة الأمر الواقع:

جاء الموقف المصري ليؤكد رفض سياسة “فرض الأمر الواقع”، التي تحاول بعض القوى الدولية فرضها بحجة أن الفلسطينيين بحاجة إلى "ملاذ آمن"، فمثل هذه السياسات لن تؤدي إلا إلى تعميق الأزمة، بدلًا من إيجاد حل عادل ودائم.

التفاعل المصري مع المجتمع الدولي

‎ولم يقتصر الموقف المصري على التصريحات، بل عملت الدبلوماسية المصرية بقوة على المستوى الإقليمي والدولي لمنع تمرير أي مقترحات تتعلق بالتهجير القسري للفلسطينيين. فقد تحركت القاهرة في عدة اتجاهات:

1. التواصل مع القوى الكبرى:

أجرى المسؤولون المصريون، وعلى رأسهم الرئيس السيسي ووزير الخارجية، اتصالات مكثفة مع القوى العالمية، بما في ذلك الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا، للتأكيد على رفض مصر لأي خطة تهجير وللمطالبة بحل سياسي عادل.

2. التنسيق مع الدول العربية:

لعبت مصر دورًا محوريًا في التنسيق مع الأردن ودول الخليج لتوحيد الموقف العربي ضد أي محاولات لفرض حلول غير عادلة على الفلسطينيين.

3. دعم الموقف الفلسطيني: 

وقفت مصر بقوة إلى جانب السلطة الفلسطينية والفصائل في غزة، مؤكدةً أن الحل يجب أن يكون عبر إقامة دولة فلسطينية مستقلة، وليس عبر تهجير سكان غزة.

الرفض الأردني يتناغم مع الموقف المصري

‎على الجانب الأردني، جاء الموقف متطابقًا مع الموقف المصري، حيث رفضت عمان بشدة أي فكرة لتهجير الفلسطينيين إلى أراضيها، معتبرةً ذلك محاولة لإنهاء القضية الفلسطينية على حساب الدول المجاورة.

وأكد الرئيس الأردني، الملك عبد الله الثاني، أن الأردن لن يكون “بديلًا عن فلسطين”، وهو موقف يعكس توافقًا عربيًا واسعًا حول ضرورة حماية حقوق الفلسطينيين ورفض أي حلول غير عادلة.

‎نتائج الموقف المصري وتأثيره على مسار الأحداث

‎وكان للموقف المصري الحازم تأثير كبير على مسار القضية الفلسطينية في هذه المرحلة الحرجة. فقد ساهم هذا الموقف في:

‎1. إفشال محاولات فرض التهجير كأمر واقع:

بفضل التحرك المصري والدعم العربي، لم يتمكن داعمو فكرة التهجير من فرضها على الأجندة الدولية كحل قابل للتطبيق.

2. تعزيز الدعم الدولي للحل العادل:

 أسهمت الجهود المصرية في دفع المجتمع الدولي للتركيز على الحلول السياسية، بدلًا من البحث عن طرق لتشريد الفلسطينيين.

3. إجبار إسرائيل على التفكير في بدائل:

مع وضوح الموقف المصري، اضطرت إسرائيل إلى إعادة حساباتها، خاصةً بعدما أدركت أن التهجير القسري لن يجد دعمًا عربيًا أو دوليًا.

‎إن الموقف المصري من رفض تهجير الفلسطينيين من غزة إلى مصر أو الأردن يعكس التزام مصر الثابت بالقضية الفلسطينية، ومسؤوليتها التاريخية في الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني.

لقد أظهر الرئيس عبد الفتاح السيسي والإدارة المصرية حكمة ووضوحًا في التصدي لهذا المخطط، مؤكدين أن الحل لا يكون بترحيل الفلسطينيين، بل بإنهاء الاحتلال وتحقيق السلام العادل والشامل.

إن هذا الموقف، إلى جانب الدعم الأردني والعربي، شكل سدًا منيعًا أمام محاولات تصفية القضية الفلسطينية عبر التهجير، ورسّخ أهمية الحل السياسي المستند إلى الشرعية الدولية والحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني.

مقالات مشابهة

  • السفير جمال بيومي: الاجتماع السداسي العربي بالقاهرة خطوة جيدة لدعم الأشقاء في فلسطين
  • إبراهيم سعيد يهاجم نجم الزمالك بسب مستواه
  • إبراهيم الصديق يكتب: أيها الأسد: شكراً لك
  • د.مصطفى ثابت يكتب: مصر تتصدى لمخططات التهجير.. كيف أفشل السيسي مشروع ترامب لتصفية القضية الفلسطينية؟
  • بالفيديو .. من هو عاطف نجيب ابن خالة الأسد الذي تسبب باشتعال الثورة السورية؟
  • مدير مديرية الأمن العام في محافظة اللاذقية المقدم مصطفى كنيفاتي: يُعتبر نجيب من المتورطين بارتكاب جرائم بحق الشعب السوري، وتأتي هذه الخطوة في إطار جهود السلطات لمحاسبة المتورطين في الانتهاكات تجاه الشعب السوري وتعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة
  • من الفراعنة إلى نجيب محفوظ.. «ميلانا فوكوفيتش» تروي حكاية عشقها لمصر بمعرض الكتاب
  • من الفراعنة إلى نجيب محفوظ.. ميلانا فوكوفيتش تروي حكاية عشقها لمصر بمعرض الكتاب
  • شاهد| اليمن وقائد الثورة السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي.. حضور متميز في وجدان الشعب الفلسطيني
  • مناقشة كتاب «سردية نجيب محفوظ» لمحمد بدوي في معرض القاهرة الدولي