حقيقة علمية لا تقبل النقاش!
تاريخ النشر: 6th, September 2023 GMT
ثمة الكثير مما يستحق النقاش ضمن سلسلة المقالات التي ينشرها أ. د. حيدر بن أحمد اللواتي في جريدة الرؤية، والتي تُحاول الإجابة عما إذا كانت العلوم الطبيعية مؤلفة من حقائق لا شك فيها، أم أنها مجرد نظريات خاضعة للتغيير؟ إلا أنني سأُركز نقاشي اليوم على السؤال الجوهري للسلسلة، وأتساءل بدوري: هل ثمة فعلا ما يُمكن أن يُطلق عليه حقيقة علمية لا تقبل الشك؟
يبدو أن اللواتي يؤمن بأن ثمة بالفعل حقائق علمية لا تقبل النقاش، فهو يقول مثلا: «فقبل اكتشاف المجهر مثلًا كان الإيمان بوجود كائنات دقيقة لا نراها بالعين المجردة مجرد فرضية ولا يوجد ما يُثبت صحتها، لكن ومع اكتشاف المجهر والذي يعد امتدادًا لحاسة الإبصار، استطعنا أن نحوِّل هذه الفرضية إلى حقيقة علمية، فلا يُمكن في يوم من الأيام القادمة أن يثبت خطأ هذه الحقيقة العلمية».
اللواتي لا يأخذ أمر الحقائق بخفة، فهو يضع شروطا لما يُمكن أن يُعد حقيقة، يُمكن تلخيصها في الآتي:
1. طبيعة الحقائق: الظواهر المتعلقة بالحقائق العلمية قابلة للرصد عبر الحواس، أو ما يُعد امتدادا لها مثل المايكروسكوب أو التلسكوب.
2. المنهج: يتم التوصل إلى الحقائق العلمية عبر المنهج التجريبي.
يقول اللواتي في افتتاح مقالته الثانية: «إن الظاهرة الطبيعية التي نرصدها بحواسنا أو بامتداداتها هي حقائق علمية لا يُشك في صحتها». والآن لنُحلل هذه المقولة، مع وضع مثال ما في أذهاننا، لنقل البرق. تُخبرنا أبصارنا أن ثمة شيئا ما يحدث (ظاهرة)، نُسمي هذا الشيء برقا. والآن يُمكن المجادلة بسهولة بأن البرق «حقيقي» بمعنى أنه قابل للإدراك بالحواس. لكني أحسب أن الكاتب يعني أن تفسيرنا للبرق (النظرية وليس الظاهرة) هي الحقيقة العلمية، أي القول إن ظاهرة البرق تنشأ عن تفريغ كهربائي في مناطق الغلاف الجوّي المشحونة. لأن النقاش حول حقيقة الأشياء المحسوسة يقع في بُعدٍ مختلف تماما (الأنطولوجيا رُبما) عن البعد الذي نحن فيه، أي فلسفة العلم. فالظاهرة هي مجموعة الملاحظات المنظمة، بينما النظرية هي ما يلي هذه الملاحظات من شرح أو تفسير للظاهرة المُلاحظة، والنظرية هي ما يصيب أو يخطئ، يُقبل أو يُرفض، يدلل عليه أو يُدحض. البرق مثلا هو ظاهرة يُمكننا إدراكها بحواسنا، أما كيف ينشأ البرق وفي أي ظروف فهذه هي النظرية. والنظرية هي ما أحسب الكاتب مهتما ببحثه. والآن -وقد أوضحنا هذا- صار بإمكاننا دفع النقاش للخطوة التالية والتساؤل هل يُمكن أن يُعد تفسيرنا هذا (حول نشوء ظاهرة البرق) حقيقة علمية لا تقبل الشك؟
نعرف أن تفسيرنا (نظريتنا) لظاهرة البرق قد يكون صحيحا، لأننا قادرون على بناء نماذج تفريغ كهربائي تُحاكي هذه الظاهرة في المختبر. لكن -مجددا- هل يعني هذا أننا وجدنا «الحقيقة» أو أننا قاربناها فحسب؟
قبل الإجابة، دعونا نتحدث قليلا عن المنطلقات، لما تمنحه من فهم ضروري لسياق الأشياء. أفهم أن الدفاع عن «الحقائق العلمية» قادم من رغبة في صناعة التقدم (في أن نكون عمليين)، فنحن متى ما سلمنا بنظرية حول البرق، سعينا لبناء مانعات الصواعق لحماية البشر، أو العمل على استغلالها كمصدر للطاقة البديلة، وغير ذلك من التطبيقات، عوضا عن هدر الموارد في مُساءلة الأُسس. وكما أتساءل عما يدفع اللواتي للدفاع بعناد عن فكرة وجود حقائق علمية، أتساءل بالمثل عن مُحرك التشكيك. فنوع التشكيك الذي يأتي من تسليمٍ بمحدوديتنا ومحدودية أدواتنا، يختلف عن التشكيك الذي يأتي ضمن سردية بديلة، خصوصا إذا ما انطوت على عناصر تآمرية كأن تقول إن ثمة مستفيدين من إقناع الناس بأن الأرض كروية. أقول إنني أفهم أهمية التسليم كجزء مهم للمؤسسة العلمية، لكن النقد، التشكيك، والمُساءلة لا تقل أهمية عنها.
العلم له ميزة خاصة تتمثل في أنه لا يُسائل الأشياء. لمارتن هيدجر اقتباس شائع يبدو مثاليا لهذه المناسبة، يقول إن «العلم لا يُفكر». بعض المعلقين على هذه المقولة يرون أن هيدجر لا يقصد وضع العلم في مكانة أدنى من الفلسفة، بل إنه يكشف عن ميزة العلم التي تجعله حاسما مقارنة بحقول معرفية أخرى، فالعلماء عمليون لأنهم ينشغلون ضمن نطاق عمل محدد، يتحاشى غالبا الخوض في نقاشات جذرية. (للمزيد: يُمكن الرجوع إلى مقال «Martin Heidegger: Die Wissenschaft denkt nicht» المنشور على «Philosophy Magazin» بتاريخ: 12 /09 / 2013).
مع هذا فبرغم الجانب المفيد لعدم نقاش الأُسس، والشروع في إيجاد تطبيقات جديدة للمعرفة المكتسبة عوضا عن ذلك، إلا أن هذا لا يُغير في جوهر الموضوع: نظريتنا حول البرق معضدة بجسد من الأدلة كافٍ لتبرير قبولها، لكني لا أجرؤ على القول إنها حقيقة لا نقاش فيها.
يميل المُعجم العلمي اليوم إلى الإقرار بالقصور، وتحاشي الحديث عن الحقيقة، البراهين، واستبدالها بمصطلحات أقل يقينا فنقول إننا نجد أدلة تدعم أو تُعاضد نظرية ما عوضا عن أن نقول إن الأدلة تثبتها، ونقول إننا نُقارب الحقيقة في أحسن الأحوال. يعني هذا أن كل مقولة علمية قابلة للنقاش وبالتالي قابلة للدحض. وهذا في الواقع ما يجعلها ذات طبيعية علمية. فهي إن خرجت من هذا النطاق، ودخلت للتصديق الكامل تُصبح شيئا آخر: مُعتقد.
يختم اللواتي مقالته الأولى بالقول: «إنَّ علوم الطبيعة تكشف عن حقائق علمية لن تتغير- كما أوضحنا- ومن يرفضها فهو يرفض حقائق ثابتة لن تتغير ويعيش في وَهْمٍ لا واقعَ ولا حقيقةَ له!» وأختم مقالتي هذه بالقول إنه إن كان ثمة ما يُعلمنا إياه العلم فهو التواضع، والاعتراف بمحدوديتنا ومحدودية أدواتنا، وخطاب الحقائق هذه وإن كان «مُفيدا» من الناحية العملية، إلا أنه لا يُقربنا أكثر من فهم الظواهر الطبيعية.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: حقیقة علمیة
إقرأ أيضاً:
خبراء ومختصون يجتمعون في مسقط لمناقشة قضايا "التعريب وصناعة المصطلحات العلمية"
مسقط- العُمانية
أقيم أمس بمحافظة مسقط المؤتمر الرابع عشر للتعريب بعنوان "توظيف المصطلحات العلمية والتقنية في فضاءاتها التخصصية"؛ بهدف تنسيق وتعزيز صناعة ونشر المصطلحات والمعاجم الموحدة، بما يسهم في دعم اللغة العربية وتأهيلها لمواكبة التطورات العلمية والتقنية الحديثة، ويستمر يومين، ورعى حفل افتتاح المؤتمر سعادة السيد سعيد بن سلطان البوسعيدي وكيل وزارة الثقافة والرياضة والشباب للثقافة.
ويهدف المؤتمر -الذي جاء بتنظيم مركز الترجمة والتعريب والاهتمام باللغة العربية التابع للأمانة العامة لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية ومكتب تنسيق التعريب التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم "الألكسو"- إلى تعزيز جهود توحيد المصطلحات العلمية والتقنية في العالم العربي، ودعم استخدامها في الفضاءات التخصصية بما يسهم في تطوير المحتوى العلمي العربي، كما يسعى إلى مناقشة التحديات التي تواجه الترجمة والتعريب، واستعراض الآفاق المستقبلية لهذه المجالات في ظل التحول الرقمي المتسارع.
وأوضح الدكتور عبدالله بن سيف التوبي مدير مركز الترجمة والتعريب والاهتمام باللغة العربية- في كلمة له- أنَّ المؤتمر يهدف إلى تعزيز جهود الترجمة والتعريب بما يتماشى مع رؤية المركز الاستراتيجية (2024- 2030)، الهادفة إلى بناء قاعدة معرفية قوية تُبرز مكانة اللغة العربية في المجالات العلمية والتقنية.
وأشار إلى أنَّ المؤتمر يعكس التعاون الوثيق بين مكتب تنسيق التعريب بالرباط ومركز الترجمة والتعريب، ويُبرز أهمية التكامل بين المؤسسات العربية في دعم اللغة العربية بوصفها لغة علم ومعرفة.
وبيّن أن المؤتمر يُعنى بطرح رؤى عملية لتعزيز التعريب وتوظيف المصطلحات العلمية والتقنية في مختلف المجالات، مُشيرًا إلى أهمية تبادل الخبرات بين المشاركين من مختلف الدول العربية لتحقيق أهداف المؤتمر، ودعم مسيرة اللغة العربية نحو المزيد من الريادة العلمية والثقافية .
من جانبه، أشار الدكتور مراد العلمي الريفي مدير مكتب تنسيق التعريب التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم- في كلمته خلال فعاليات المؤتمر- إلى أهمية هذا الحدث في تعزيز مكانة اللغة العربية، مؤكدًا على دورها المحوري كوعاء فكري ووجداني يعكس الهوية الثقافية والحضارية للوطن العربي.
وتطرق الريفي إلى الأهمية التاريخية لمؤتمرات التعريب، التي تُعقد بشكل دوري منذ انطلاقها، والتي تهدف إلى دعم اللغة العربية في مختلف المجالات العلمية والتعليمية والثقافية، بالإضافة إلى السعي لتعزيز حضورها في مواجهة التحديات التي تواجهها؛ سواء من حيث توحيد المصطلحات أو إنتاج معاجم متخصصة تسهم في إثراء المحتوى العلمي العربي ومواكبته للتطورات الحديثة. وأكد الدكتور الريفي أن هذه المؤتمرات تشكل منصة حيوية لبحث سبل تطوير اللغة العربية وسبل إدماجها في المناهج التعليمية، بالإضافة إلى دورها في دعم الأبحاث العلمية والتكنولوجيا، بما يعزز مكانتها على المستوى الإقليمي والدولي.
وتضمن حفل افتتاح المؤتمر عرضًا مرئيًّا عن مركز الترجمة والتعريب والاهتمام باللغة العربية، وعرضًا مرئيًّا عن مكتب تنسيق التعريب، كما سيشهد تنظيم عدد من حلقات العمل لمناقشة مشاريع معاجم علمية ممثلة في "مشروع معجم مصطلحات الاقتصاد"، و"مشروع معجم مصطلحات المحاسبة والمراجعة المالية"، و"مشروع معجم قانون المال والأعمال" والتي أشرف مكتب تنسيق التعريب على إعدادها، بمشاركة فرق علمية عربية متخصصة.
كما أقيمت ندوة علمية بعنوان "توظيف المصطلحات العلمية والتقنية في فضاءاتها التخصصية"، يشارك فيها نخبة من الباحثين والمختصين، وتتناول عدة محاور رئيسية ممثلة في واقع الترجمة والتعريب والآفاق المستقبلية، وتجارب الباحثين والمؤسسات في الاستفادة من المعاجم المختصة في مجال العلوم والتقنية ، والمناهج الدولية في اختيار المصطلحات العلمية والتقنية ومؤشرات نجاحها، ورقمنة المصطلحات العلمية والتقنية؛ ما يفتح آفاقًا جديدة لتعزيز توحيد المصطلحات العربية وتطوير استخدامها في المجالات العلمية والتقنية.
ويُعد مؤتمر التعريب أحد أبرز الفعاليات الدورية التي ينظمها مكتب تنسيق التعريب بالرباط منذ دورته الأولى عام 1961، ويهدف إلى تطوير وتعزيز اللغة العربية بوصفها أداة علمية وثقافية قادرة على مواكبة التطورات العالمية.