في الوطـــن والفكرة الوطنيّـة
تاريخ النشر: 6th, September 2023 GMT
حين صعقتني أحداثُ «الرّبيع العربيّ» - شأن آلافٍ من النّاس - ببعض ظواهرها التي بدتْ لي شاذّةً و«غيرَ مفهومة»، أدركْتُ - حينها - مدى الفقـر الذي تعانيه الثّـقافةُ السّياسيّة العربيّة، ومدى الاضطراب الذي يُمسك بخناقها، فيمنعها من التّوازن أمام متغيّرات العالم الاجتماعيّ والدّوليّ، ويَحُـول دونَها والجواب عن إعضالات ذلك الواقع وتحدّيات ما استجدّ فيه ويستجدّ من معطيات.
لستُ أقصد بالثّـقافة السّياسيّة، هنا، الثّـقافةَ الجمْعيّة أو ثقافةَ الجمهور حصراً، بل أعني بها ثقافةَ النّخب السّياسيّة العربيّة من المِلل والنِّـحل كافّة؛ بيمينها ويمينِه ويسارها ويسارِه. ولمكانة هذه النّخبة في المجال السّياسيّ - بحسبانها مَـن ينتج الأفكار والرّؤى السّياسيّة ويضع لها التّعبيرات التّنظيميّة والمؤسّسيّة المطابقة - فإنّ عِظَم مسؤولـيّـتها لا يُقاسُ بحجم مسؤولية جمهورٍ نجحت مفرداتُها في تحشيده، مثلما لا يُقاسُ وعْيُه المنفعل بوعيها الفاعل، ولا إصْفارُ أيْـديه بما ملكتْ أَيْمانُ مؤسّساتها من جزيل الأَوَد! ولستُ أبغي، هنا، إبراءَ ذمّـةِ الجمهور أو الْـتماسِ الأعذار له، كما لستُ أبغي أن أضع ثقافةَ هذه النّخبة وخطابَها السّياسيّ إبّان «الرّبيع العربيّ» موضعَ فحصٍ نقديّ (فلقد فعلت ذلك، بتفصيلٍ وإفاضةٍ، في كتابي: ما بعد الرّبيع العربيّ)، إنّما يعنيني أن أقف، في المقام الأوّل، أمام نازلةٍ من النّوازلِ السّياسيّة لهذه النّخبة ولثقافتها السّياسيّة هي: فقرها الحادّ إلى الشّعور الوطنيّ أو إلى الشّعور بالوطن بما هو قِـبْـلَةٌ للسّياسة وهـدفٌ أعلى! وأن أسجّـل في شأنها موقفاً نقديّـاً كان قد تبلور لديّ، على الحقيقة، منذ ما قبل غـزو العراق بأعوامٍ قليلة قبل أن تصقله حوادث ذلك «الرّبيع».
وقـفتِ المعارضاتُ العربيّة بأطيافها الفكريّـة والسّياسيّة كافّـة (بليبـراليّـيها، وإسلاميّـيها، وقوميّـيها، وماركسيّـيها...، سِلْميّـيها و«جهاديّـيها») موقفَ خَلطٍ شنيعٍ فادح بين الدّولة والنّظام السّياسيّ فأسقطتِ الدّولـةَ - بعـوْن من أنفقوا على «ثورتها» و«جهادها» من القوى الأجنبيّة - وفي ظنّها أنّها تُسقط نظاماً سياسيّاً! كانتِ الفاجعةُ من وراء إسقاط الدّولة ومؤسّساتها أَنِ استُبيحَ الوطن للقوى الدّوليّة والإقليميّة وللجماعات المسلّحة المستوردة من أركان الأرض جميعها. أتى ذلك يمثّـل فضيحةً لا نجد سابقةً لها سوى في العراق قبيل غزوه. ومَأْتى الفضيحة هذه من ذلك الفقر الحادّ في الثّقافـة السّياسيّة لدى تلك النّخب والمعارضات الذي يبلغ درجة التّخليط بين الدّولة والسّلطة والنّظام السّياسيّ: الدّرجة التي تُزهِـق روح الوطـن كما هي، حقّـاً، أزهـقَـتْهُ في غير مكانٍ من الجغرافيا العربيّة!
من النّافل القول إنّ مثل ذلك الخلط الشّنيع هو ممّا يأتيه مَن يعانون نقصاً في الوطنيّة لا فقط نقصاً في الوعي السّياسيّ والنّظريّ؛ فلقد يكون المرءُ مُغَـفَّلاً وقليلَ الدّراية بالفوارق بين حيِّـزات السّياسة ومراتبها، ولكنّه يظلّ محصَّـناً بوطنيّـته ضدّ مهالك الانزلاق نحو المسّ بوحدة وطنه وسلامته واستقراره، فيستعصي بذلك على كلّ محاولات التّغرير به، وشراء ولائه، واستدرار السُّخـرةِ السّياسيّة منه ضدّ شعبه؛ ولعلّ هذا شأنُ السّواد الأعظم من النّاس الذين لم ينساقوا نحو امتشاق السّلاح، أو العدوان على مؤسّسات الدّولة، أو الإساءة إلى شعبهم وجماعاتٍ أهليّة بعينها، فحفِظوا ولاءَهم للدّولة والوطن لا لجماعةٍ أهليّة وفئويّة ولا لخارجٍ مُغْـدِق ولا لمليشياتٍ تنهش في لحم المجتمع والكيان. هكذا حافظوا، قـدْر ما استطاعوا، على الوحدة الوطنيّة من التّفكيك وعلى النّسيج الاجتماعيّ من التّمـزيق.
ومن عجبٍ أنّ أكثر تلك النّخب دَانَ بفكرةٍ عليا عابرة للأوطان الصّغرى، لكنّه تنكَّـب عن صيانة حرمة الوطن وكأنّه ليس لذلك أهلاً (= أعني الوطن). هكذا انْهَـمَّ الإسلاميّون بوطنٍ رمزيّ أعلى - من مَحْتِدٍ روحيٍّ هو في أساسه - هو «دار الإسلام» أو عالم كيانات المجتمعات المسلمة. وذهب الماركسيّون أبعد منهم إلى وطنٍ كونيّ أعلى هـو الأمميّة؛ فيما انشغل القوميّون بالوحدة القوميّة أكثر من الوحدة الوطنيّة وبالأمّة أكثر من الشّعب. ومع أنّي لست ضدّ أن ينتحل المرءُ لنفسه هذه الإيديولوجيا السّياسيّة أو تلك، فيفكّر في مصائـرَ أعلى من المصير الوطنيّ؛ ومع أنّي أنبذ النّزعة الوطنيّة الشّوڤـينيّة لأنّها واحدةٌ من المداخل إلى العنصريّة وإلى التّشرنق المَرضيّ على الذّات، وأربَـأ بالفكرة الوطنيّة أن تسقُط في أحابيلها، إلاّ أنّني إزاءَ العلاقة بين الفكرة الوطنيّة والأفكار السّياسيّة الأخرى التي تتجاوز نطاقَها، بما هي أفكار محمولة على صهوة إيديولوجيّات سياسيّة عابرة لحدود الأوطان، أرى المسألةَ من وجهيْـن:
من وجهٍ أوّل أَفْهَم فيه أنّ النّاس ينقسمون على حدود إيديولوجيّات سياسيّة فيتدافعون في سعيٍ منهم إلى تحقيق مصالح لهم داخل أوطانهم. وهُـمْ إذْ ينقسمون عليها لا ينقسمون على أوطانهم، بل يجتمعون عليها حتّى من غير اتّفاقٍ بينهم على ذلك الاجتماع؛ إذِ الانحياز إلى إيديولوجيا بعينها لا معنًى له سوى في أنّ الغاية منه تقديمُ نموذج اجتماعيّ- سياسيّ (ليبراليّ، اشتراكيّ ديمقراطيّ، وحدويّ، إسلاميّ...) والسّعي في تمكينه من التّـحقّـق داخل حدود الوطن. هكذا تبدو الإيديولوجيّات روافـدَ والوطنُ مَصَـبّاً لها.
ومن وجهٍ ثانٍ أَفْهـم أن يعتنق النّاسُ الإيديولوجيّات، وأن يذهبوا في التّمسُّك بيقينيّاتها إلى حدود التّمذهُب؛ مثلما أفهم أن يبارحوها إلى غيرها إنْ عَـنَّ لهم الانصراف عن واحدة إلى أخرى، أو أن يعيدوا مراجعتَها وتعديل موضوعاتها على نحو ما قد يقضي بذلك ويَحْمـل عليه تبدُّل المعطيات أو الفرضيّات أو هُمَا معاً، ولكنّ الذي لا أفهمه هو أن يكون معتنقُ إيديولوجيا ما مجرّداً من البنية التّحتيّة لأيّ خيارٍ فكريّ (= الوطنيّة)، والحال إنّه ليس يمكن المرءَ أن يكون اشتراكيّاً أو ليبراليّاً أو وحدويّاً قوميّاً أو إسلاميّاً إنْ لم يكـن وطـنيّاً. الصّفات الأخرى الفائضة كناية عن انحيازات إيديولوجيّة؛ عن حالات إيديولوجيّة ينتحلها المرءُ لنفسه، أمّا الوطن فليس إيديولوجياً؛ إنّه الهويّـةُ والماهية.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الس یاسی ة الوطنی ة العربی ة الد ولة من الن من الت
إقرأ أيضاً:
بنك عُمان العربي يشارك في تدشين 5 منصات للتداول
مسقط- الرؤية
شارك بنك عُمان العربي- كشريك رئيسي لهيئة الخدمات المالية- في تدشين 5 منصات رقمية للتداول عن بعد للشركات المرخصة لمزاولة نشاط الوساطة المالية في بورصة مسقط. وتعد هذه المنصات إحدى مبادرات الاستدامة المالية لتسهيل وتحفيز الاستثمار وتحقيق التحول الرقمي الشامل في سوق رأس المال العُماني، وتمكين المستثمرين من الوصول إلى الأسواق المحلية.
ومن خلال الشراكة في تدشين هذه المنصات، يواصل بنك عُمان العربي ريادته في تعزيز نمو القطاع المالي وتشجيع الاستثمار في سوق رأس المال، حيث قام البنك مؤخرا بتدشين حزمة جديدة من الخدمات الرقمية المتطورة من بينها حلول التحصيل عبر الحسابات الافتراضية لمساعدة العملاء على إدارة التدفقات النقدية بشكل أفضل من خلال فتح حسابات افتراضية، مما يعزز الشفافية ويسهل متابعة المبالغ المستحقة لكل مشروع أو منتج على حدة، وتساهم هذه الحلول بشكل غير مسبوق في تسهيل التعاملات المالية بين مختلف المؤسسات العاملة في القطاع المالي.
وقال سليمان الحارثي الرئيس التنفيذي لبنك عُمان العربي: "يواكب إطلاق المنصات الرقمية للتداول تطور المتطلبات التنظيمية في الأسواق المالية الحديثة بهدف رفع جودة الخدمات وضمان حماية البيانات، وتعزيز الشفافية، ونحرص في بنك عُمان العربي على أن نكون دائما في موقع الريادة لتطوير الخدمات وتقديم المبادرات التي تزيد الثقة في الاستثمار، إذ تمثل حلول التحصيل عبر الحسابات الافتراضية التي دشنها بنك عُمان العربي تطورا نوعيا في الربط الالكتروني بين المؤسسات المالية، وتعزيز الشمول المالي وتطوير بيئة الاستثمار في سلطنة عُمان".
وأضاف: "تعد هذه الحلول الافتراضية الأحدث من نوعها لمساعدة العملاء على إدارة التدفقات النقدية بشكل أفضل، ومن خلالها يمكن إتمام المعاملات بيسر بما في ذلك إجراءات الاستثمار والتحويلات المالية لبيع وشراء الأوراق المالية بكل سهولة وأمان بين الحساب المصرفي لعملاء بنك عُمان العربي ومحفظتهم الاستثمارية في بورصة مسقط."
وأوضح الحارثي: "نعمل باستمرار على توسيع شراكتنا في تعزيز نمو القطاع المالي كأحد مستهدفات رؤية عُمان 2040، وقد قام بنك عُمان العربي بتنظيم ورشة تدريبية خصيصا لشركات الوساطة بالتعاون مع هيئة الخدمات المالية، لتعريفهم بالإمكانيات التي تتيحها حلول التحصيل عبر الحسابات الافتراضية وتعزيز فهم الشركات لهذه التقنية المتطورة، مما يسرع انتشارها في القطاع المالي ويساعد على اجتذاب شرائح جديدة من المستثمرين، ورفع أحجام التداولات والمعاملات في بورصة مسقط، كما انها تعزز مستوى الرقابة وحماية المستثمرين".
ويواصل بنك عُمان العربي دعم الابتكار في الخدمات المالية وترسيخ مكانته في تقديم أحدث الخدمات المصرفية العصرية المتطورة، والمساهمة في نمو القطاع المالي وجهود ترقية بورصة مسقط إلى بورصة ناشئة، وكان بنك عُمان العربي من أوائل المبادرين بتقديم خدمة مزود السيولة لأسهم البنك المدرجة في بورصة مسقط من خلال اتفاقية الشراكة الاستراتيجية التي وقعها البنك مع شركة "أوبار للاستثمارات المالية.