لجريدة عمان:
2025-04-07@14:13:53 GMT

في قضية التراث العربي والنظرة إليه

تاريخ النشر: 6th, September 2023 GMT

لا تزال قضية التراث مدار الاهتمام من خلال صدور العديد من المؤلفات والدراسات، إلى جانب النقاشات في المؤتمرات والندوات، التي تتحدث إلى الآن عن التراث العربي: ماذا نأخذ منه؟ وماذا نترك؟ وماذا نستلهم من روافده الفكرية والثقافية؟ وما نرفض؟ مع أنه أصبح من التاريخ الماضي، إلا أنه ما زال يلاقي المتابعة، ومن هنا تأتي الأحكام والآراء عليه بصور متعددة ومتباينة، ولذلك فإن هذه الكتابات والنقاشات التي تدور حول هذا التراث، لم تتوقف منذ أكثر من نصف قرن أو يزيد، فالبعض يعتقد أن أي أمة من الأمم تصاب بالتخلف، أو إذا واجهت الأزمات والأخطار والحروب تلجأ إلى تراثها، وهذا الاعتقاد فيه شيء من الصحة، وليس كل الصحة، فبعض الدول تهتم بتراثها باعتباره من مقومات حاضرها، دون أن تكون لديها أزمات أو مشكلات للنظر في التراث، وتتمسك فيه ولا تتجاهله، كما عبر عن ذلك الكثير من المهتمين بالتراث من مختلف الثقافات الإنسانية.

فلا بد لأي أمة من الأمم من النظر لماضيها، لتكتشف ما سار عليه الأوائل وكيف نهضوا وتقدموا؟ وما طرحوه وما سطروه في كتبهم التي أصبحت متاحة لكل من أراد التعرف على هذا المخزون الفكري والثقافي بالتراث، لكن النظرة لهذا التراث كونه ماضيا، ليس متجانسا في النظرة إليه، بحسب التوجهات الفكرية والإيديولوجية لمن كتب وبحث وأصدر أبحاثا عن التراث، فكل من هؤلاء لهم نظرتهم للتراث في ماضي الأمة، كما سنشير إلى ذلك في هذا المقال، وكيف نظروا إليه بحسب ما يراه كل واحد منهم، فالتراث يعد عصارة الفكر المتراكم، فكل أمة من الأمم لها تاريخها وتراثها الممتد، وحصيلة جهدها الفكري والعقلي والروحي، منذ قرون مضت، ولا يزال هذا التراث يتجدد مع كل جيل من الأجيال في كل العصور، فحاضرنا الراهن الذي نعيشه سيصبح ماضيا وتراثا للأجيال القادمة، وهكذا تتعاقب الأجيال، وتترك ما خلّفته في حياتها في كل المجالات تراثا ماضيا، لكن الإشكال الذي تواجهه النظرة للتراث، هو الرؤية التي ينظر إليها الباحث المهتم بالتراث من الجانب الفكري الأيديولوجي الذي ينظر فيه للتراث.

فالبعض ممن تأثر بالنهضة الغربية وتحولاتها السياسية والفكرية، وما جرى فيها من صراع بين القساوسة في الكنائس الغربية، وبين ما سمّي برجال التنوير والتحديث، بعد إنهاء تدخلات الكنيسة في المجال العام المدني، والقيام بتحجيم دورها في مجالها الروحي فقط، كما هي ديانة روحية، كما كانت عليه قبل قرون التي سبقت الصراع بينهما، فبعض هؤلاء الباحثين في مجال التراث، يسقطون ما جرى في الغرب على ثقافتنا وفكرنا العربي، ويعتقدون أن الحل في أن يتم إقصاء القيم الدينية والتراثية، لاعتقاد بعضهم أن الغرب عندما نهض وتقدم، عندما تجاهل ماضيه وتراثه، بل إن بعضهم دعا إلى تجاوز التراث كله الإيجابي منه والسلبي، ويعني هذا تجاوز كل التراث والميراث الذي هو رصيد لكل ثقافة من الثقافات الإنسانية، سواء كانت إيجابياته للحاضر أو المستقبل، ويعتقد هؤلاء ـ وقد كتبوا عن ذلك في مؤلفات ودراسات، أن هذا التراث سبَب تراجعنا وتخلفنا عن ركب التقدم والتحضر- بحسب إسقاطاتهم الفكرية ـ وأن علينا أن نتبع ونقلد ما جرى في أوروبا كمحاكاة لها فيما قامت به من خطوات في القرن السابع عشر والثامن عشر، في تجاوز التراث وإقصائه عن الفاعلية، وما يحمله من أفكار ونظرات وقيم، ونطبق ذلك على واقعنا الراهن، وهذا ما أشار إليه الأكاديمي المغربي د/ عبد الله العروي في القول بالقطيعة مع التراث، وتبعه الكثيرون من أصحاب هذا التوجه في الاتجاه الفكري نفسه، من أمثال د.طيب تيزيني ود. نصر حامد أبو زيد وغيرهم ممن سار في هذا الاتجاه، ولكن بصورة أكثر غموضا وتورية، ودون الكلمة الصريحة الواضحة فيما طُرح من آراء في هذا الجانب، ويعلق الفيلسوف المغربي د. طه عبد الرحمن، وهو الأقرب للرؤية المقدرة للتراث العربي الإسلامي دون الاستغراق فيه، عندما رد على هؤلاء في رؤيتهم الاختزالية غير المقنعة لما يُطرح عن التراث الغربي، وهل تخلص الغرب من تراثه بسبب إعاقته لنهضته الحديثة ؟، فيقول: «في اعتقادي أن الغرب لم ينقد تراثه كما تولى المسلمون نقد تراثهم، والشاهد على ذلك ما يسمى بـ«النهضة»، فهي عبارة عن عودة للتراث اليوناني دون نقد، أما النقد الذي حصل في بداية النهضة الأوروبية، فقد كان نقدا للتراث الكنسي والسلطة الكنسية، أما التراث كثقافة في العالم الغربي فلم يتعرض في تلك الفترة للنقد الذي نجد له شواهد في النقد العربي الحديث للتراث الإسلامي، لقد كان الغرب دائما يعتبر تراثه جزءا من هويته، وجزءا من طاقته الإبداعية التي يمتلكها». وهذا ما برز في العديد من المؤلفات التي تصدر في مجالات المعرفة المختلفة في الغرب تجاه التراث وروافده المختلفة، وهي معارف الفكر اليوناني والروماني القديمين، ولا تزال الكتابات مستمرة، خاصة ترجمات الكتب في بعض مراكز البحوث العربية المعروفة في بعض الحواضر العربية.

ومن هنا لا غنى عن التراث الماضي، وقراءته قراءة جديدة، وليس القطيعة معه، لاكتشاف إبداعاته التي نهضت عنه الحضارات السابقة، ومنها النهضة الإبداعية في الفلسفة وعلم الكلام والعلوم المختلفة والكتابات في القيم الدينية وغيرها، التي كتب فيها الأوائل، وهذه ليست كلها قامت وانتهت ولا نحتاج إليها، فالنهضات تستمد من بعضها البعض، ولو تتبعنا كيف نشأت الحضارات عبر التاريخ، لوجدنا أن الحضارات سلسلة متصلة من النهوض، وكل حضارة تأخذ من الأخرى وتضيف إليها إبداعا.

والمفكر القومي العربي د. محمد عابد الجابري، وهو من الباحثين الذين أصدروا العديد من المؤلفات عن التراث، منها كتبه المعروفة (نحن والتراث.. قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي)، وكتاب: (التراث والحداثة)، وغيرها من الكتابات المتفرقة عن التراث، وأيضا ما كتبه في مؤلفاته المعروفة في مشروعه الفكري الشهير في (نقد العقل العربي)، وقد ناقشت بعض هذه الأفكار المؤيدة أو الناقدة للدكتور الجابري في نقد العقل العربي، في كتابنا (مفكرون وأكاديميون عرفتهم)، فالدكتور الجابري له رؤية عقلانية واقعية للتراث، فهو لا يرفض هذا التراث رفضا باتا ويتجاوزه، كما طرح بعض الباحثين الذين تأثروا بفكر الآخر وثقافته وطريقة نظرته، ولا هو اعتبر هذا التراث كله المرتجى وليس لنا غيره، بل كان أكثر منطقية وعقلانية لهذا التراث الذي هو واقع وسيستمر كذلك في كل الثقافات والحضارات، ولذلك علينا أن نتعامل معه بموضوعية ومنهجية، بعيدا عن الأحكام المسبقة بحيث يواكب العصر وتحدياته ومستجداته، فيرى د. الجابري في كتابه: (التراث والحداثة)، أن هذا: «التراث هو كل ما هو حاضر فينا أو معنا من الماضي، سواء ماضينا أو ماضي غيرنا، سواء القريب منه أو البعيد... لأن التراث بما أنه شيء «حاضر فينا ومعنا» فهو أقرب إلى أن يكون ذاتا منه إلى أن يكون موضوعا، وبالتالي فنحن معّرضون إلى أن يحتوينا بدل أن نحتويه».

والبعض الآخر أيضا يريد الاستغراق في هذا التراث، ولا يريد الخروج منه، باعتبار أن أجدادنا هم الأقدر والأعرف بحاضرنا الذي نعيش فيه، بالقياس لحاضرهم كما عاشوه، لكن هذا التصور مخالف تماما لما توقعوه، فلا يمكن خروج المرء من حاضره أبدا، ولا يستطيع أحد من الناس أن يقطع صلته به، حتى لو أدعى ذلك، فالانسحاب من التاريخ مسألة غير دقيقة، فلا يمكن أن نعيش في غير حاضرنا، فهناك فرق بين الأخذ من ماضي الأمة وتراثنا القيم واستلهام العناصر الحية فيه، وبين الاستغراق فيه، نعم في تراثنا الماضي أفكار وقيم ونظرات تستحق أن نستمد منها ما هو جدير بالنقل والاستئناس به، من خلال القيم الحية من تراثنا، وهي القيم الحية النابضة بالأفكار المبدعة التي لا يحدها الزمان أو المكان، فالأمم التي تريد الانطلاق الحضاري والنهوض العلمي والفكري، تستطيع أن تتجاوز ما يعيقها من تراكمات في التاريخ التراثي القديم، وتستلهم الفكر النير الوضاء، كما كانت عليه الحضارة العربية/الإسلامية. والبعض الآخر يريد أن يأخذ من التراث ما يتوافق مع رؤيته التي هي مجرد تلفيق لا تجديد في النظرة للتراث، وهذا ما ناقشه البعض من الباحثين العرب عندما كتبوا في هذا الجانب، وهم ممن تأثروا بالاستشراق الغربي، الذي ادعى أنه يمارس الحيادية والمنهجية في تقويم التراث العربي. فالرجوع للتراث والاهتمام به، لا يعني الاستغراق فيه والانطواء عليه، ورفض التفاعل مع العصر ومستجداته، لكن التراث أي تراث، هو لصيق بفكر الأمة وتاريخها، فالانقطاع عنه، والارتماء في أحضان فكر سلبي، لا يحقق لنا شيئا لا لحاضرنا ولا لمستقبلنا، فعندما نهمل هذا التراث الممتد، أو نقصيه من حياتنا العامة، نكون كمن يقتص جزءا من حاضره ومستقبله.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: هذا التراث عن التراث فی هذا

إقرأ أيضاً:

حمزة نمرة: الفن مغامرة.. ومرض ابني غيّر نظرتي للحياة

متابعة بتجــرد: في حوار خاص مع “النهار”، تحدّث الفنان حمزة نمرة عن محطّات محورية في حياته ومسيرته الفنية، مؤكدًا أن تجربة مرض ابنه شكّلت نقطة تحوّل جعلته يقدّر اللحظات البسيطة ويعيد النظر في مفهوم الإنجاز، قائلاً: “أصبحت أكثر امتناناً لنعم الله بعيداً عن الطموحات والتطلّعات”.

نمرة وصف مشواره الفني بـ”المغامرة المستمرة”، معتبرًا أن اختياره للاستقلالية والتمسّك بالقيمة الفنية، رغم صعوبة الطريق، هو ما منح أعماله صدقها. كما كشف عن تأثّره العميق بجيل الثمانينيات، ونيّته مواصلة استلهام قصص هذا الجيل، مشيرًا إلى أن “الحكاية لم تكتمل بعد”.

الفنان المصري تحدّث أيضًا عن شغفه بإحياء التراث من خلال برنامجه “ريمكس”، مع إمكانية تقديم مشروع موسيقي شامل يعيد تقديم الأغاني الشعبية بروح معاصرة. وأوضح أن غناء تترات المسلسلات يختلف عن أعماله الحرّة، كونه يخضع لسياق درامي محدد، لذلك يحرص على اختيار ما يليق به، كما فعل في “سرّ إلهي”.

وعن جمهوره في المهجر، عبّر نمرة عن سعادته بالارتباط العاطفي العميق معهم، واصفًا حفلاته في الخارج بلحظات تواصل وجداني مع الوطن، خصوصًا أن الجمهور “يغنّي من القلب”.

أما على المستوى الإبداعي، فأكد نمرة أنه يمرّ أحيانًا بلحظات شكّ، لكن الدعم العائلي والبحث عن الإلهام في التفاصيل الصغيرة يعيد له الشغف. وعن المستقبل، لم يستبعد تقديم أنماط موسيقية جديدة، قائلاً: “أحبّ التحدّي والتجديد، وربما أواصل الدمج بين التراث والحداثة بأساليب غير تقليدية”.

main 2025-04-04Bitajarod

مقالات مشابهة

  • افتتاح فعاليات المؤتمر الدولي حول تراث العلوم بمكتبة الإسكندرية
  • سفير جمهورية سلوفينيا: علاقتنا بمصر تمتد إلي 33 عامًا
  • أصيلة المغربية تُرمّم كنيس "كحال" بعد 200 عام وتُدرجه ضمن التراث الوطني
  • مركز الحضارة الإسلامية في أوزبكستان.. صرح ثقافي يعزز التراث والمعرفة
  • راسل براند يرد على الاتهامات الموجهة إليه “كنت أحمقًا.. لكنني لست مغتصبًا”
  • اللهم نصرك الذي وعدت ورحمتك التي بها اتصفت
  • المهرجانات.. لحن الأصالة والهوية
  • محافظ جنوب سيناء: طرح تشغيل قرية التراث لشركة متخصصة لتحقيق الاستدامة
  • إطلاق دورة تدريبية دولية لخبراء التراث في الشارقة
  • حمزة نمرة: الفن مغامرة.. ومرض ابني غيّر نظرتي للحياة