في قضية التراث العربي والنظرة إليه
تاريخ النشر: 6th, September 2023 GMT
لا تزال قضية التراث مدار الاهتمام من خلال صدور العديد من المؤلفات والدراسات، إلى جانب النقاشات في المؤتمرات والندوات، التي تتحدث إلى الآن عن التراث العربي: ماذا نأخذ منه؟ وماذا نترك؟ وماذا نستلهم من روافده الفكرية والثقافية؟ وما نرفض؟ مع أنه أصبح من التاريخ الماضي، إلا أنه ما زال يلاقي المتابعة، ومن هنا تأتي الأحكام والآراء عليه بصور متعددة ومتباينة، ولذلك فإن هذه الكتابات والنقاشات التي تدور حول هذا التراث، لم تتوقف منذ أكثر من نصف قرن أو يزيد، فالبعض يعتقد أن أي أمة من الأمم تصاب بالتخلف، أو إذا واجهت الأزمات والأخطار والحروب تلجأ إلى تراثها، وهذا الاعتقاد فيه شيء من الصحة، وليس كل الصحة، فبعض الدول تهتم بتراثها باعتباره من مقومات حاضرها، دون أن تكون لديها أزمات أو مشكلات للنظر في التراث، وتتمسك فيه ولا تتجاهله، كما عبر عن ذلك الكثير من المهتمين بالتراث من مختلف الثقافات الإنسانية.
فالبعض ممن تأثر بالنهضة الغربية وتحولاتها السياسية والفكرية، وما جرى فيها من صراع بين القساوسة في الكنائس الغربية، وبين ما سمّي برجال التنوير والتحديث، بعد إنهاء تدخلات الكنيسة في المجال العام المدني، والقيام بتحجيم دورها في مجالها الروحي فقط، كما هي ديانة روحية، كما كانت عليه قبل قرون التي سبقت الصراع بينهما، فبعض هؤلاء الباحثين في مجال التراث، يسقطون ما جرى في الغرب على ثقافتنا وفكرنا العربي، ويعتقدون أن الحل في أن يتم إقصاء القيم الدينية والتراثية، لاعتقاد بعضهم أن الغرب عندما نهض وتقدم، عندما تجاهل ماضيه وتراثه، بل إن بعضهم دعا إلى تجاوز التراث كله الإيجابي منه والسلبي، ويعني هذا تجاوز كل التراث والميراث الذي هو رصيد لكل ثقافة من الثقافات الإنسانية، سواء كانت إيجابياته للحاضر أو المستقبل، ويعتقد هؤلاء ـ وقد كتبوا عن ذلك في مؤلفات ودراسات، أن هذا التراث سبَب تراجعنا وتخلفنا عن ركب التقدم والتحضر- بحسب إسقاطاتهم الفكرية ـ وأن علينا أن نتبع ونقلد ما جرى في أوروبا كمحاكاة لها فيما قامت به من خطوات في القرن السابع عشر والثامن عشر، في تجاوز التراث وإقصائه عن الفاعلية، وما يحمله من أفكار ونظرات وقيم، ونطبق ذلك على واقعنا الراهن، وهذا ما أشار إليه الأكاديمي المغربي د/ عبد الله العروي في القول بالقطيعة مع التراث، وتبعه الكثيرون من أصحاب هذا التوجه في الاتجاه الفكري نفسه، من أمثال د.طيب تيزيني ود. نصر حامد أبو زيد وغيرهم ممن سار في هذا الاتجاه، ولكن بصورة أكثر غموضا وتورية، ودون الكلمة الصريحة الواضحة فيما طُرح من آراء في هذا الجانب، ويعلق الفيلسوف المغربي د. طه عبد الرحمن، وهو الأقرب للرؤية المقدرة للتراث العربي الإسلامي دون الاستغراق فيه، عندما رد على هؤلاء في رؤيتهم الاختزالية غير المقنعة لما يُطرح عن التراث الغربي، وهل تخلص الغرب من تراثه بسبب إعاقته لنهضته الحديثة ؟، فيقول: «في اعتقادي أن الغرب لم ينقد تراثه كما تولى المسلمون نقد تراثهم، والشاهد على ذلك ما يسمى بـ«النهضة»، فهي عبارة عن عودة للتراث اليوناني دون نقد، أما النقد الذي حصل في بداية النهضة الأوروبية، فقد كان نقدا للتراث الكنسي والسلطة الكنسية، أما التراث كثقافة في العالم الغربي فلم يتعرض في تلك الفترة للنقد الذي نجد له شواهد في النقد العربي الحديث للتراث الإسلامي، لقد كان الغرب دائما يعتبر تراثه جزءا من هويته، وجزءا من طاقته الإبداعية التي يمتلكها». وهذا ما برز في العديد من المؤلفات التي تصدر في مجالات المعرفة المختلفة في الغرب تجاه التراث وروافده المختلفة، وهي معارف الفكر اليوناني والروماني القديمين، ولا تزال الكتابات مستمرة، خاصة ترجمات الكتب في بعض مراكز البحوث العربية المعروفة في بعض الحواضر العربية.
ومن هنا لا غنى عن التراث الماضي، وقراءته قراءة جديدة، وليس القطيعة معه، لاكتشاف إبداعاته التي نهضت عنه الحضارات السابقة، ومنها النهضة الإبداعية في الفلسفة وعلم الكلام والعلوم المختلفة والكتابات في القيم الدينية وغيرها، التي كتب فيها الأوائل، وهذه ليست كلها قامت وانتهت ولا نحتاج إليها، فالنهضات تستمد من بعضها البعض، ولو تتبعنا كيف نشأت الحضارات عبر التاريخ، لوجدنا أن الحضارات سلسلة متصلة من النهوض، وكل حضارة تأخذ من الأخرى وتضيف إليها إبداعا.
والمفكر القومي العربي د. محمد عابد الجابري، وهو من الباحثين الذين أصدروا العديد من المؤلفات عن التراث، منها كتبه المعروفة (نحن والتراث.. قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي)، وكتاب: (التراث والحداثة)، وغيرها من الكتابات المتفرقة عن التراث، وأيضا ما كتبه في مؤلفاته المعروفة في مشروعه الفكري الشهير في (نقد العقل العربي)، وقد ناقشت بعض هذه الأفكار المؤيدة أو الناقدة للدكتور الجابري في نقد العقل العربي، في كتابنا (مفكرون وأكاديميون عرفتهم)، فالدكتور الجابري له رؤية عقلانية واقعية للتراث، فهو لا يرفض هذا التراث رفضا باتا ويتجاوزه، كما طرح بعض الباحثين الذين تأثروا بفكر الآخر وثقافته وطريقة نظرته، ولا هو اعتبر هذا التراث كله المرتجى وليس لنا غيره، بل كان أكثر منطقية وعقلانية لهذا التراث الذي هو واقع وسيستمر كذلك في كل الثقافات والحضارات، ولذلك علينا أن نتعامل معه بموضوعية ومنهجية، بعيدا عن الأحكام المسبقة بحيث يواكب العصر وتحدياته ومستجداته، فيرى د. الجابري في كتابه: (التراث والحداثة)، أن هذا: «التراث هو كل ما هو حاضر فينا أو معنا من الماضي، سواء ماضينا أو ماضي غيرنا، سواء القريب منه أو البعيد... لأن التراث بما أنه شيء «حاضر فينا ومعنا» فهو أقرب إلى أن يكون ذاتا منه إلى أن يكون موضوعا، وبالتالي فنحن معّرضون إلى أن يحتوينا بدل أن نحتويه».
والبعض الآخر أيضا يريد الاستغراق في هذا التراث، ولا يريد الخروج منه، باعتبار أن أجدادنا هم الأقدر والأعرف بحاضرنا الذي نعيش فيه، بالقياس لحاضرهم كما عاشوه، لكن هذا التصور مخالف تماما لما توقعوه، فلا يمكن خروج المرء من حاضره أبدا، ولا يستطيع أحد من الناس أن يقطع صلته به، حتى لو أدعى ذلك، فالانسحاب من التاريخ مسألة غير دقيقة، فلا يمكن أن نعيش في غير حاضرنا، فهناك فرق بين الأخذ من ماضي الأمة وتراثنا القيم واستلهام العناصر الحية فيه، وبين الاستغراق فيه، نعم في تراثنا الماضي أفكار وقيم ونظرات تستحق أن نستمد منها ما هو جدير بالنقل والاستئناس به، من خلال القيم الحية من تراثنا، وهي القيم الحية النابضة بالأفكار المبدعة التي لا يحدها الزمان أو المكان، فالأمم التي تريد الانطلاق الحضاري والنهوض العلمي والفكري، تستطيع أن تتجاوز ما يعيقها من تراكمات في التاريخ التراثي القديم، وتستلهم الفكر النير الوضاء، كما كانت عليه الحضارة العربية/الإسلامية. والبعض الآخر يريد أن يأخذ من التراث ما يتوافق مع رؤيته التي هي مجرد تلفيق لا تجديد في النظرة للتراث، وهذا ما ناقشه البعض من الباحثين العرب عندما كتبوا في هذا الجانب، وهم ممن تأثروا بالاستشراق الغربي، الذي ادعى أنه يمارس الحيادية والمنهجية في تقويم التراث العربي. فالرجوع للتراث والاهتمام به، لا يعني الاستغراق فيه والانطواء عليه، ورفض التفاعل مع العصر ومستجداته، لكن التراث أي تراث، هو لصيق بفكر الأمة وتاريخها، فالانقطاع عنه، والارتماء في أحضان فكر سلبي، لا يحقق لنا شيئا لا لحاضرنا ولا لمستقبلنا، فعندما نهمل هذا التراث الممتد، أو نقصيه من حياتنا العامة، نكون كمن يقتص جزءا من حاضره ومستقبله.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: هذا التراث عن التراث فی هذا
إقرأ أيضاً:
آخر ما وصلت إليه مفاوضات غزة ومستجدات المرحلة الأولى - لا ضمانات
كشفت صحيفة "الأخبار" اللبنانية، صباح اليوم السبت 21 ديسمبر 2024، أن تفاؤل حذر يسود حالياً إزاء إمكانية الوصول إلى صفقة لتبادل الأسرى بين إسرائيل وحركة حماس ، وذلك بعدما أحرز الوسطاء تقدُّماً ملحوظاً في المفاوضات الجارية.
وأضافت الصحيفة، أنه "بموجب هذا التقدم، فقد جرى تقسيم الاتفاق المتبلور إلى مرحلتين، مع ترحيل أهمّ الخلافات وأكثرها تعقيداً إلى المرحلة الثانية، ما يعني أن الاتفاق يمكن أن يتحوّل عمليّاً إلى نوع من الهدنة المؤقتة، التي تُستأنف في أعقابها عمليات القتل الإسرائيلية".
ووفقاً للمعلومات المتداولة، ففي المرحلة الأولى، يُفترض أن تطلق حماس سراح الأسرى من النساء والمرضى وكبار السن، في مقابل هدنة مؤقتة يُطلق خلالها أيضاً سراح مئات الأسرى الفلسطينيين، على أن تُبقي الحركة على الجنود الإسرائيليين إلى الجولة الثانية، والتي يأمل الوسطاء أن تجري فيها مبادلة هؤلاء بوقف دائم لإطلاق النار وانسحاب لجيش الاحتلال من القطاع، وفقاً لما تطالب به حماس".
وتابعت "لكن إسرائيل تتعامل، من جهتها، مع الصفقة باعتبارها فرصة لتحصيل مكاسب واستعادة عدد من الأسرى، في مقابل هدنة مؤقتة، يُصار في أعقابها إلى استئناف الحرب التي لا يريد الائتلاف الحكومي إنهاءها، ربطاً بجدول أعمال خاص بمكوناته من اليمين الفاشي".
وقالت الصحيفة، إنه "مع ذلك، فإن النتائج التي توصّل إليها المفاوضون، ستحظى، وفقاً لما يُتداول، بقبول ظاهر من الجانبَين، على أن تُبقي إسرائيل بموجبها على وجودها العسكري في قطاع غزة ، مع إعادة تموضع وانسحابات جزئية طوال مدة تنفيذ المرحلة الأولى، وهو ما يراه الوسطاء تراجعاً إسرائيلياً معتدّاً به. على أن إعادة الانتشار تلك قد يُستفاد منها لإنعاش الجنود الإسرائيليين المنهكين، فيما لا أحد يمكنه أن يضمن التزام إسرائيل بالمرحلة الثانية؛ إذ إن أكثر المتفائلين في تل أبيب يتحدّثون عن نبضة أولى من التسوية لا تلحقها نبضة ثانية، لا بل إن خبراء ومعلّقين يرون أن المرحلة الأولى نفسها ما زالت محلّ أخذ ورد، وأن هناك احتمالاً معتدّاً به لأن لا تدخل حيّز التنفيذ، في ظلّ استمرار الحكومة الإسرائيلية في تحديث مطالبها وشروطها بشكل متواصل، في ما يمثل اجتراراً لإستراتيجية جرى اتباعها سابقاً لإفشال صفقات كانت في متناول اليد".
وأشارت إلى أن "ذلك يعني أن الحديث عن تقدُّم المفاوضات لا يعني أن الاتفاق بات ناجزاً، رغم كل التفاؤل الذي يُبثّ من جانب الوسطاء وإسرائيل؛ والحذر هنا لا يتعلّق بالجزأين فقط، بل بالجزء الأول الذي جرى تجريده من البنود الخلافية الصعبة".
في المقابل، لا تتفق استطلاعات الرأي لدى جمهور إسرائيل مع إستراتيجية الحكومة؛ إذ بحسب آخر استطلاع للرأي، اعتبر 74% من الإسرائيليين أن هناك ضرورة للتوصّل إلى اتفاق شامل يعيد جميع الأسرى، حتى وإنْ كان الثمن وقف الحرب في غزة.
واللافت في هذا الاستطلاع، أن مطلب استعادة الأسرى مقابل إنهاء الحرب، يحظى بموافقة 84% من ناخبي المعارضة، والأهم بتأييد 57% من جمهور الائتلاف، فيما لا تتجاوز نسبة مَن يؤيّدون صفقة جزئية، الـ10%.
لكن ذلك لا يعني على أيّ حال أن الائتلاف سيجاري جمهوره، وخصوصاً أنه وفقاً لاستطلاعات الرأي المتكرّرة، تراجع ناخبو الشرائح الوسطية عن تأييد أحزاب الائتلاف، وتحديداً الليكود، في اتجاه أحزاب المعارضة، التي باستطاعتها الآن، في حال إجراء الانتخابات، الفوز بغالبية في الكنيست ، من دون أحزاب فلسطينيي عام 1948، في حين تقهقر الليكود وأقرانه والأحزاب الحريدية والصهيونية الدينية إلى ما دون عتبة الغالبية اللازمة للفوز بولاية جديدة.
ويُضاف إلى ما تقدّم، أن عدداً من أحزاب الصهيونية الدينية، وفي المقدّمة منها حزب وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، قد لا تحظى بأيّ مقعد في "الكنيست" المقبل، فيما رئيس الحكومة السابق نفتالي بينت، قد يدخل الندوة النيابية وينافس على الشريحة الناخبة نفسها، حاملاً تجربة سابقة في الائتلاف مع أحزاب الوسط والمعارضين، وأيضاً مع أحزاب تمثّل فلسطينيي الداخل.
وفي ما يتعلّق برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ، الذي يَمثل عدّة مرات في الأسبوع أمام المحكمة على خلفية اتهامه بقضايا رشى وفساد واحتيال، فهو لا يجد في إنهاء الحرب في غزة ما يفيد محاكمته، بل إن استمرار الحرب يُعدّ جزءاً لا يتجزّأ من إستراتيجيته الدفاعية، كونه يدرك أن وقوفه في قفص الاتهام بصفته رئيساً سابقاً للحكومة أو لحكومة مستقيلة، يغري القضاة الذين يعدّهم أعداء ومتربصين به، لإدانته، في حين أن بقاءه رئيساً فعليّاً للحكومة، في ظلّ استمرار الحرب، من شأنه أن يبطّئ توثّب القضاء لإدانته.
وأضافت الصحيفة "وتشير المعطيات إلى أرجحية معتدّ بها لأن تنجح المفاوضات في التوصّل إلى اتفاق على الجزء الأول من صفقةٍ لتبادل الأسرى، تفيد الأطراف كافة بلا استثناء، ومن بينهم نتنياهو وائتلافه، كونها ستخفّف ضغوط الجمهور عليه وتنزع عنه - وإنْ مؤقتاً وفي ظلّ محاكمته - صفة التطرّف وإرادة استمرار الحرب على خلفية مصالح سياسية وشخصية. أما المرحلة الثانية من الصفقة، والتي رُحِّلت إليها كل الخلافات الصعبة والمستحيلة، فتكتنفها شكوك كبيرة جداً".
المصدر : وكالة سوا - صحيفة الأخبار اللبنانية