أوروبا تتجه نحو متاعب اقتصادية
تاريخ النشر: 6th, September 2023 GMT
صيف أوروبا هذا العام كان مزيجا غريبا من الأمطار الغزيرة وحرائق الغابات، اقتصاد القارة أيضا ابتُلي بأوضاع متطرفة. فالتضخم ظل محتدما. إذ ارتفعت الأسعار بنسبة 5.3% في شهر أغسطس مقارنة بمستواها قبل عام.
ويزداد قلق المسؤولين من المستقبل الضبابي للنمو. فالهبوط الذي حدث مؤخرا في مؤشر مديري المشتريات يشير إلى أن الكتلة الأوروبية تواجه انكماشا اقتصاديا.
قبل انعقاد الاجتماع القادم للبنك المركزي الأوروبي في 14 سبتمبر الحالي سينتاب واضعي السياسات القلق من احتمال ظهور التضخم الركودي (وهو الوضع الذي يقترن فيه النمو المنخفض برسوخ التضخم).
ومؤخرا جددت كريستيان لاجارد رئيسة البنك المركزي الأوروبي تعهدها بخفض معدل التضخم وتحديد أسعار الفائدة «عند مستويات تقييدية كافية طالما ظل ذلك ضروريا لتحقيق عودة التضخم في إطار زمني معقول إلى المعدل الذي نستهدفه في الأجل المتوسط وهو 2%،» حسبما ذكرت.
بعبارة واضحة البنك المركزي الأوروبي سيفضل كثيرا هبوطا خشنا ومُؤلِما للاقتصاد على الفشل في خفض ارتفاعات الأسعار. (حسب موسوعة انفستوبيديا الهبوط الخشن تعبير مستعار من عالم الطيران ويُقصَد به إحداث تباطؤ حاد في النشاط الاقتصادي بعد فترة نمو سريع من خلال تطبيق سياسة نقدية تستهدف كبح التضخم وقد تترتب عنه توترات وأضرار بل ربما يقود حتى إلى انكماش - المترجم).
المشكلة هي أن البنك بتفضيله الهبوط الخشن يخاطر بتحطيم الطائرة (تدمير الاقتصاد). فالتضخم في منطقة اليورو يصعب القضاء عليه كما هي الحال أيضا مع نسخته الأمريكية.
في أوروبا ارتفاع الأسعار أطلقته الزيادات التي شهدتها تكاليف الوقود. أما في الولايات المتحدة فهو مدفوع أكثر بازدياد الطلب على السلع والخدمات. لكن في كل من أوروبا والولايات المتحدة اتبع التضخم المسار نفسه تقريبا مع تأخره زمنيا بقدر طفيف في أوروبا.
في الوقت الحالي السؤال هو: هل سيتراجع التضخم الأساسي الذي يستبعد أسعار الطاقة والوقود «المتقلِّبة»؟ لقد ظل حتى الآن متشبثا بارتفاعه.
هذا يعود في جزء منه إلى أن أوروبا مثلها في ذلك مثل أمريكا تمكنت حتى الآن من تجنب الانكماش. ففي نهاية العام الماضي عندما توقع العديدون تراجعا أوروبيا لم يكن تشديد السياسة النقدية قد أثَّر بعد على الاقتصاد. وقدمت الحكومات الوطنية مساعدات اقتصادية سخية لتحييد صدمة الطاقة. وكشف قطاع الخدمات عن مستوى معقول من النمو فيما ظلت سجلات الطلبات الصناعية مملوءة (بالطلبات) بفضل ازدهار ما بعد جائحة كوفيد-19.
مشاعر الكآبة الآن تنتشر حول القارة. فالاقتصاد العالمي يضعف، وسجلات الطلبات الصناعية بها عدد كبير من الصفحات الفارغة. والدعم الحكومي للعائلات أيضا يقل أو ينفد. ولا تزال أسعار شراء الوقود بالتجزئة أعلى من مستواها قبل أزمة العام الماضي. فالدخول الحقيقية لم تتعاف بعد. والنشاط في قطاع الخدمات شهد انكماشا في أغسطس، بحسب مؤشر مديري المشتريات. فالقطاع في أضعف أوضاعه خلال عامين ونصف العام.
كما بدأت أسعار الفائدة المرتفعة في التأثير على الاقتصاد الأوروبي وذلك على النحو الذي سعى إليه واستهدفه واضعو السياسات (النقدية) بالبنك المركزي الأوروبي. وقطاع الإنشاءات الحساس تقليديا لأسعار الفائدة يعاني من ارتفاعها. ويقود التضييق في الإقراض المصرفي إلى انخفاض بنسبة 0.4% في نمو الناتج المحلي الإجمالي في كل ربع سنة (ثلاثة أشهر)، بحسب بنك جولدمان ساكس.
كما ارتفع معدل الإفلاس بأكثر من 8% في الربع الثاني من العام مقارنة بالربع الأول وبلغ أعلى مستوى له منذ عام 2015. ويتوقع أوليفر راكاو المسؤول بشركة أوكسفورد إيكونوميكس الاستشارية وصول أثر سياسة التشديد النقدي (رفع أسعار الفائدة) إلى ذروته في النصف الثاني من هذا العام.
وهكذا أصبح الهبوط الخشن مؤكدا تقريبا. لكن عودة التضخم إلى معدل 2% الذي يستهدفه البنك المركزي الأوروبي تظل بعيدة بعض الشيء عن التحقق.
هنالك قوتان تدفعان الأسعار في اتجاهين مختلفين. إحداهما الوضع في سوق العمل. فالبطالة لا تزال في انخفاض قياسي. وعلى الرغم من أن الشركات توظف عددا أقل من العاملين ليس هنالك خطر وشيك باستغناء جماعي عن الأيدي العاملة. أحد أسباب ذلك أن رؤساء الشركات يرغبون في التمسك بالعاملين الذين تقل أعدادهم باطراد في أوروبا التي تعاني من شيخوخة سكانها. نتيجة لذلك تشهد الأجور ارتفاعا في أرجاء الكتلة الأوروبية حتى إذا لم تكن كافية للتعويض عن الارتفاع السابق في مستوى التضخم.
القوة الثانية والتي تدفع بالتضخم نحو الهبوط هي ضعف الطلب على السلع والخدمات. في أثناء جائحة كوفيد بدأ ارتفاع الأسعار قبل نمو الأجور. وهذا ما أدى إلى ارتفاع حاد لأرباح الشركات إلى جانب التضخم. وإذا وجدت الشركات الآن أن ذلك الطلب ينحسر من الممكن أن يهبط التضخم في نفس الوقت الذي يظل فيه نمو الأجور مرتفعا مما سيقود إلى انخفاض الأرباح.
واقع الحال أن الأسعار في أسواق الجملة للسلع تهبط بوتيرة متسارعة. وأسعار الواردات تتراجع أيضا. وفي لحظة ما، سيتم تمرير هذه الأسعار المنخفضة إلى المستهلكين.
أي هاتين القوتين ستكون لها الغلبة؟ في الوقت الحاضر يبدو كأنما الإجابة ستكون ضَعفَ الطلب بما أنه زحف أيضا إلى قطاع الخدمات.
هذا يشير إلى أن التضخم في منطقة اليورو ربما يهبط في وقت قريب نسبيا. لكن يظهر أن البنك المركزي الأوروبي غير مقتنع ويبدو على استعداد لرفع سعر الفائدة الرئيسي إلى 4.5% من 4.25%.
لكن سيكون واضعو السياسة بالبنك أفضل حالا إذا حافظوا على سياساتهم النقدية (معدلات الفائدة) الحالية حتى يتمكنوا من تقييم مخاطر احتمال حدوث انهيار مالي.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: البنک المرکزی الأوروبی أسعار الفائدة التضخم فی
إقرأ أيضاً:
هل يعتبر التضخم في الولايات المتحدة تحت السيطرة؟
توقع تقرير لبنك قطر الوطني تباطؤ التضخم في الولايات المتحدة بشكل أكبر خلال العام المقبل، مدفوعاً بتطبيع استخدام الطاقة الإنتاجية، وتعديلات تكلفة الإسكان، واحتمال ضبط الأوضاع المالية العامة خلال ولاية ترامب الثانية مع تولي بيسنت منصب وزير الخزانة.
وقال التقرير تحت عنوان " هل يعتبر التضخم في الولايات المتحدة تحت السيطرة؟ بعد أن بلغ ذروته عند 5.6% سنوياً قبل أكثر من 30 شهراً في يونيو 2022، عاد التضخم في الولايات المتحدة تدريجياً ليقترب من نسبة 2% المستهدفة في الأشهر الأخيرة. وكان هذا إنجازاً كبيراً لبنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، ومبرراً لبداية دورة التيسير النقدي في شهر سبتمبر من العام الجاري، عندما تم إقرار تخفيضات أسعار الفائدة لأول مرة منذ بداية الجائحة في عام 2020.
وعلى الرغم من النجاح والتقدم في السيطرة على التضخم، فإن المخاوف بشأن أسعار المستهلك في الولايات المتحدة لا تزال تلقي بظلالها على أجندة المستثمرين. في الأسابيع الأخيرة، أدت بيانات التضخم الأعلى من المتوقع و"الاكتساح الجمهوري"، مع فوز ترامب بالانتخابات الرئاسية وهيمنة حزبه على الأغلبية في مجلسي الشيوخ والنواب، إلى مخاوف بشأن توقعات التضخم. والأهم من ذلك، أن المقياس الرئيسي لبنك الاحتياطي الفيدرالي، وهو التضخم الأساسي في نفقات الاستهلاك الشخصي، والذي يستثني الأسعار المتقلبة للطاقة والمواد الغذائية من المؤشر، لا يزال أعلى من النسبة المستهدفة. وهناك مخاوف من أن "الجزء الأخير" من عملية السيطرة على التضخم قد لا يكون سهلاً كما كان متوقعاً في السابق، وأن "النسخة الثانية من سياسة أمريكا أولاً" قد تؤدي إلى زيادة التضخم، بسبب التوسع المالي وارتفاع الرسوم الجمركية على السلع المستوردة.
وأوضح تقرير QNB أن احتمالية ارتفاع التضخم أدت بالفعل إلى تغيير كبير في التوقعات المرتبطة بحجم ووتيرة التيسير النقدي الذي سينفذه بنك الاحتياطي الفيدرالي في عام 2025. ففي غضون أسابيع قليلة، خفض مستثمرو أدوات الدخل الثابت توقعاتهم بشأن تخفيضات أسعار الفائدة من 150 نقطة أساس إلى 50 نقطة أساس فقط، مما يشير إلى أن سعر الفائدة الأساسي على الأموال الفيدرالية سيستقر في نهاية العام المقبل عند 4% بدلاً من 3%
ويرى التقرير أنه بغض النظر عن جميع المخاوف والصدمات المحتملة التي قد تؤثر على الأسعار الأمريكية، فإننا نعتقد أن التوقعات المرتبطة بالتضخم في الولايات المتحدة إيجابية، بمعنى أن التضخم سيعود تدريجياً إلى النسبة المستهدفة (2%) ما لم تحدث أي تطورات جيوسياسية كبيرة أو تصدعات في السياسة الأمريكية.
ويوضح أن هناك ثلاثة عوامل رئيسية تدعم وجهة نظرهم وهي:
أولاً، شهد الاقتصاد الأميركي بالفعل تعديلات كبيرة في الأرباع الأخيرة، الأمر الذي ساهم في تخفيف حالة نقص العرض وارتفاع الطلب التي كانت تضغط على الأسعار. ويشير معدل استغلال الطاقة الإنتاجية في الولايات المتحدة، قياساً بحالة سوق العمل والركود الصناعي، إلى أن الاقتصاد الأميركي لم يعد محموماً. بعبارة أخرى، هناك عدد مناسب من العمالة لفرص العمل المتاحة، في حين أن النشاط الصناعي يسير دون اتجاهه الطويل الأجل. وتأقلمت سوق العمل بالكامل وهي الآن عند مستوى طبيعي، حيث بلغ معدل البطالة 4.1% في أكتوبر 2024، بعد أن كان قد بلغ أقصى درجات الضيق في أوائل عام 2023 عندما تراجع بكثير من مستوى التوازن إلى 3.4%. وتدعم هذه الظروف التخفيف التدريجي لضغوط الأسعار.
ثانياً، سيصبح انخفاض التضخم في أسعار الإسكان مساهماً رئيسياً في انخفاض التضخم الإجمالي في الأرباع القادمة. يمثل الإسكان ما يقرب من 15% من مؤشر نفقات الاستهلاك الشخصي، ويشمل الإيجار أو، إذا كانت الوحدة السكنية مملوكة للمالك، ما قد يكلفه استئجار وحدة مماثلة في سوق الإسكان الحالية. بلغ التضخم في الإسكان ذروته عند 8.2% في أبريل 2023، حيث تأخر كثيراً عن ذروة التضخم الإجمالي، مما يعكس "ثبات" الأسعار، نظراً لأن العقود تستند إلى الإيجار السنوي. لذلك، تتفاعل الأسعار بشكل أبطأ حيث عادة ما يظهر تأثير تغير الأوضاع الاقتصادية الكلية عليها بشكل متأخر. انخفض تضخم الإسكان بوتيرة ثابتة منذ منتصف عام 2023 وهو حالياً أقل من 5%. تُظهر مؤشرات السوق للإيجارات المتعاقد عليها حديثاً، والتي تتوقع الاتجاهات في الإحصائيات التقليدية، أن تضخم الإيجار أقل من مستويات ما قبل الجائحة. وهذا يشير إلى أن مكون الإسكان في الأسعار سيستمر في التباطؤ في عام 2025، مما يساعد في خفض التضخم الإجمالي.
ثالثاً، غالباً ما يتم المبالغة في المخاوف بشأن الطبيعة التضخمية للنسخة الثانية من سياسة الرئيس ترامب الاقتصادية "أميركا أولاً". ستبدأ إدارة ترامب الجديدة في ظل بيئة وطنية ودولية مختلفة تماماً عن ظروف الولاية السابقة في عام 2016، حيث سيكون نطاق التحفيز المالي الكبير مقيداً أكثر. لقد اتسع العجز المالي الأميركي بالفعل بشكل كبير من 3% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2016 إلى 6% في عام 2024، مع زيادة نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في نفس الفترة من أقل من 100% إلى ما يقرب من 125%. وأعرب وزير الخزانة القادم، سكوت بيسنت، الذي يعتبر "أحد الصقور" في القطاع المالي، بالفعل عن نيته "تطبيع" العجز إلى 3% بحلول نهاية الولاية. بعبارة أخرى، سيتم تشديد الأوضاع المالية أكثر بدلاً من تخفيفها، وهو ما من شأنه أن يساهم في إبطاء ضغوط الأسعار، على الرغم من أي تأثيرات ناجمة عن سياسات التعريفات الجمركية والهجرة التي لم يتم إضفاء الطابع الرسمي عليها بالكامل بعد.