مادة سردية تحكي قصصا مثيرة لحياة النبات
تاريخ النشر: 6th, September 2023 GMT
طالما كنت أكتب عن الطبيعة، وأصورها كبني البشر، وأحب كثيرا أن أصنع العلاقات بين عنصر وآخر، في تصوير لحظات الانسجام والتآلف على أنها علاقات حب، كلحظة عناق قطرة المطر لحبيبات الرمل، بعد حيز طويل من الانتظار.
ولكن أن تكون حياة النبات بكل تفاصيلها المثيرة مصوغة على هيئة مادة سردية بصيغة أدبية، تأخذ القارئ في رحلة للولوج لتفاصيل حياة النباتات، هو ما يعبر عنه كتاب «ذكاء الأزهار» لـ «موريس ميترلينك»، والحاصل على نوبل للأدب، ترجمة: أحمد الزناتي، بأسلوب مميز للغاية.
عالم واسع من الجمال.. كفاح ونضال النبات للخروج من دفنه في التراب، ليغدو شيئا ينضح بالجمال وينبض بالحياة، عالم النبات الذي يمكن أن نراه عاديا، ولكنه إعجاز يتضح من خلال الولوج في تفاصيله وتأمل مراحل حياته.
يصور الكاتب المشهد البديع لمراحل نمو النبات، بصيغة أدبية وصورة سينمائية بارعة، ويسوق أمثلة كثيرة منها الأعشاب البحرية والنباتات المائية. كما يستعرض تشبيهات للعمليات الحيوية للنبات على أنها اختراعات أو ابتكارات وجدها الإنسان مؤخرا، بينما ولد النبات وترعرع عليها، وكأنه يعطي مثالا حيا لتطبيقات تذهل الإنسان فور اكتشافه لها.
من الأمثلة التي تطرق لها الكتاب «عشبة الحزامية البحرية» التي وصفها بأشد الأنواع رومانسية، «تمثل ساعة التلقيح عندها الحلقة الأكثر مأساوية في الحياة العاطفية للزهور»، ويصور مشهد خمولها وسباتها حتى لحظة التكاثر التي وصفها بالعرس، حيث تتزين بعد أن تشعلها الرغبة فتطفو على سطح الماء بكامل بهائها منتظرة الزهرة الذكر.
تصوير شاعري لتلك اللحظة التي تكون فيها رغبة الزهرة الذكر والزهرة الأنثى بالالتقاء ولكن ذلك صعب المنال، إذ لا يمكن لجذع كليهما الوصول لسطح الماء، وهو مكان الالتقاء الوحيد والموائم لعملية التلقيح.
يقول الكاتب: «يتخيل المعشوق المستحيل الذي يكاد يلمس لكنه لا يلمس»، وفي مأساوية موجعة يكون التقاء الزهر الذكر بعد أن يقطع ذاته من مصدر الحياة متحررا منطلقا لعروسه، ليلامسها مرة واحد فقط قبل الموت.
صورة بديعة لمشهد قد لا تكون تفاصيله ذات جمالية أشد من وصف الكاتب له بتلك الحرفية، ولعلّ تلك الجمالية تتضح من خلال قدرته على التشبيه بالحياة البشرية، والمقارنة بينهما، حتى يأخذ القارئ سارحا بخياله فينسى أن حديث السطور ما هو إلا حديث عن النبات، وليست قصة غرامية يعيشها بطلان بشريان.
مثال آخر وهو عشبة الحامول الكتاني، وصفها بالغرابة والخبث، حيث لا يمكن خداع هذه النباتات في اختيار طعامها الملائم لذائقتها، إذ تلفظ أي وجبة ليست على ذوقها، وتغرس ممصاتها على الفريسة المرتقبة، هذه الصورة هي الأخرى نوع آخر لما يعد قصة تجد منها الكثير من المعاني والعبر.
يتطرق الكتاب أيضا لوسائل الدفاع التي تمتلكها بعض النباتات، مثال ذلك زهرة سيلينة الإيطالية التي تكره اقتراب الحشرات الطفيلية، فيقوم النبات بتغطية الساق بشعر متشابك يفرز غراء لزجا مهمته اصطياد الطفيليات وإبعادها. ومن وسائل الدفاع أيضا الأشواك التي تظهر لدى النبات المتعرض للحرارة، يقول الكاتب: «كما لو كان النبات يعي جيدا أن هذه الأشواك الحادة هي طوق النجاة الوحيد لحمايته من الصخور الحادة أو الرمال الحارقة».. ولكن بعض هذه النباتات تألف للإنسان وتتخلص من أشواكها مع «الراعي الصالح».
يحكي الكتاب قصة تلقيح زهور الذفراء، التي تتناسق فيما بينها بأسلوب مميز، فمن نداء الأنثى للذكر، إلى لحظة الملامسة المترتبة بتسلسل رقمي معين، يبدأ بالفردي ثم الزوجي، دون أن تحدث في هذه العملية أية أخطاء.
تصوير موريس ميترلينك للنبات بصور متعددة، يجعل خيال القارئ يجمح بعيدا فيخرج من إطار كون بطل هذا الكتاب هو نبات، بل يتعداه ليتصور أنه جنس بشري، فمن كون الزهرة عروسا تارة، لكونها أميرة تقف على خشبة المسرح بجمالها اللامتناهي، تؤدي أدوارها بمختلف أجناسها النباتية، وفي كل دور لها مشاهد تؤديها بحرفية عالية، تثير اهتمام واستغراب المشاهد.
يستعرض الكاتب عددا كبيرا من الأمثلة، ويصور تلك الأنواع كـ«معرض فني حافل بشتى أنواع المعدات الميكانيكية المتطورة التي يستخدمها الإنسان هذه الأيام»، منوّها أن التطور والاختراعات البشرية التي ظهرت في عالمنا الآن، قد تمرس فيها النبات منذ مئات الألوف من السنين.
يقول ميترلينك: «ذوق الزهور في إظهار الجمال، والابتهاج وفنون الإغواء والذوق الجمالي شديد القرب من ذوقنا. أو لو توخيت الدقة لقلت إن ذوقنا حذا حذو الزهور، لا العكس»، في مقاربة واضحة بين حياة النبات والإنسان، بل هو توضيح على أن النبات متفوق على الجنس البشري.
يتطرق الفصل الثاني من الكتاب للحديث عن «عبير الأزهار» الذي وصفه الكاتب بـ«روح الأزهار» الذي يعد شيئا من المجهول، «فعبير الزهور منطقة يدوخ فيها العقل البشري»، يوضح الكتاب أن الرائحة من الأشياء التي نجهل فائدتها، كما نجهل سر انجذابنا لشمها، إلا أنها سر من أسرار الجمال التي لا يشعر بها ولا تستهوي الجميع، بل هي معتمدة على ذوق واهتمام كل بني البشر، وتبقى رائحة الزهر مجالا واسعا للمهتمين بالجانب العطري.
الكتاب بأسلوبه السردي المميز والجاذب، يتيح للقارئ تصور أنه هو جزء من حياة النبات، ويعيش تلك التفاصيل بين مثال وآخر، ليخرج منه في نهاية وهو معتق برائحة الأزهار، ونابض بذكاء الأزهار.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
الكتاب أصل الأشياء
وأنا أشاهد فـيلم (هاري بوتر وحجر الفـيلسوف) الذي جرى عرضه فـي دار الأوبرا السلطانية مسقط، مصحوبًا بعزف موسيقيّ حيّ أدّته أوركسترا الدولة السيمفوني فـي أرمينيا، استحضرت الجزء الأول من رواية (هاري بوتر) للكاتبة البريطانية جوان رولينج، التي بنى عليها الفـيلم أحداثه، وهي من الروايات التي نالت شهرة عالمية كبيرة، إذ بيعت منها ملايين النسخ منذ صدور جزئها الأول فـي منتصف 1997 وترجمت إلى العديد من اللغات،
ويكفـي أن الجزء السادس من الرواية الذي حمل عنوان (هاري بوتر والأمير الهجين) بيعت منه 10 ملايين نسخة يوم صدوره، وكان لا بدّ للسينما العالمية أن تستثمر هذا النجاح، فأنتجت 8 أفلام من أجزائها، كلّها حققّت أرقاما قياسيّة فـي الإيرادات.
روايات أخرى شقّت طريقها إلى السينما، لعلّ من أبرزها رواية (العرّاب) للكاتب الأمريكي ماريو بوزو الصادرة عام 1968م التي أخرجها للسينما المخرج الأمريكي فرانسيس فورد كوبولا، بدءا من جزئها الأول عام 1972م وكان من بطولة مارلون براندو وآل باتشينو، أعقبه بجزأين آخرين، وقد اعتبر نقّاد السينما الجزء الثاني من الفـيلم ثالث أفضل فـيلم فـي تاريخ السينما،
وكانت هوليوود قد اشترت حقوق تحويل الرواية إلى فـيلم قبل انتهاء الكاتب من كتابتها، وحقّق الفـيلم شهرة مدوّيّة حتى عاد فريق العمل، وأنتج الجزء الثالث عام 1990م، وكلّنا نعرف أن الرواية تتحدث عن نفوذ إحدى عائلات المافـيا الإيطالية، وتحكّمها فـي مجريات الأمور، لتشكّل دولة داخل الدولة.
وبعيدا عن (هاري بوتر)، و(العرّاب)، باعتبارهما ظاهرتين فـي تاريخ الأدب العالمي والسينما، لو ألقينا نظرة على أهم الأفلام التي أنتجتها السينما العربية والعالمية لرأينا أنّها استندت إلى روايات عالمية أخرى، كـ(البؤساء)، و(أحدب نوتردام) لفـيكتور هوجو، و(زوربا اليوناني) لكازنتزاكي، و(بائعة الخبز) للفرنسي كزافـييه دومونتبان، وروايات دوستويفسكي وأجاثا كريستي، وتشارلز ديكنز، وماركيز، ومن أسماء الكتّاب العرب الذين تحوّلت أعمالهم إلى أفلام: نجيب محفوظ وإحسان عبدالقدوس ويوسف إدريس ويوسف السباعي، والطيّب صالح، رغم أن المخرجين يأخذون من الروايات ما يحتاجون إليه فـي أفلامهم، ويستغنون عن صفحات كثيرة، فلغة السينما التي تقوم على الصورة،
تختلف عن لغة الرواية التي تستند إلى الكلمة المكتوبة، فهناك قواعد فـي الفن السينمائي ينبغي مراعاتها عندما تدخل السينما حرم الرواية، وهذه تعتمد على عوامل عديدة أبرزها رؤى المخرجين، والإنتاجيات المرصودة، لتنفـيذ تلك الأفلام، وكم من مشهد بصري قصير اختصر صفحات عديدة دبّجها الكاتب فـي وصف ذلك المشهد! وهذا موضوع متشعب، «لكن، لولا النجاح الباهر لتلك الروايات،
وقوة حبكتها السردية، والتوقعات العالية لإيرادات شباك التذاكر، هل كانت لتحظى باهتمام المنتجين وتلفت أنظارهم؟»؟ أرقام تلك الإيرادات تجيب عن هذا السؤال، فالسينما صناعة، وأنجح الأفلام وحتى المسلسلات التلفزيونية، والمسرحيات، هي تلك التي قامت على روايات ناجحة، فمنها يستلهم المخرجون رؤاهم،
وبين حين وآخر، يعود المنتجون إلى كتب الروايات، التي تحقّق أرقاما عالية فـي الكتب الأكثر مبيعا، يتصفّحونها، ويفكّرون فـي تحويلها إلى أفلام وكم من رواية عاد القرّاء إليها بعد مشاهدتها فـي السينما! فاستثمر الناشرون نجاحها وأعادوا طباعتها، فاستفادوا من الشهرة التي حقّقتها السينما لتلك الروايات التي تبقى نتاج عبقريات فذّة، وتجارب حياتية كبيرة، ومخيّلة خصبة، ولهذا شقّت طريقها إلى السينما ولولا الجهد الذي بذله كتّابها لتكدّست فـي المكتبات ولم يلتفت إليها أحد.
وإذا كان الفـيلسوف اليوناني أرسطو طاليس يرى بأن الماء هو أصل الأشياء،
فالورق الجيد يقف وراء نجاح أي فـيلم جيد، فهو الأصل، والورق بلغة المشتغلين بالسينما هو النص، والنص نجده فـي بطون الكتب ومن هنا فالكتب أصل الأشياء.