هوامش ومتون :خفّفوا الوطء.. الشاعر نائم
تاريخ النشر: 6th, September 2023 GMT
هناك ظاهرة مؤسفة، بدأت تستفحل في حياتنا الثقافية، وتنتشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لا تمتّ للإنسانية بصلة، وليست من المروءة، ولا من أخلاقنا، ولا من قيمنا، فما أن يرحل شاعر، أو أديب، أو فنّان حتّى تصوّب سهام الكراهيّة نحو جثّته، فتُنتهك حرمة الميّت، التي استنبطها الإنسان من حكمة الغراب حين قضت بمواراة سوءة أخيه الإنسان، والسؤال الذي يقفز أمامي الآن هو: لماذا لم تُوجّه تلك السهام للذين ينتقدونهم في حياتهم، لإعطائهم فرصة الدفاع عن أنفسهم؟ فالطعن في الميّت ليس بطولة.
ذات يوم كلّمتني الشاعرة السوريّة لينا الطيبي هاتفيّا من لندن، أيّام رئاستها للقسم الثقافي في جريدة (الزمان)، وكانت تعدّ ملفا حول شاعر كبير توفّي ذلك اليوم، مستغربة ردود أفعال زملائه من الشعراء، والنقّاد، الذين تواصلت معهم لاستكتابهم والمشاركة في الملف التأبيني الذي تعمل عليه، فالكثيرون منهم تكلّموا بالسوء، وانتقصوا منه، في الوقت الذي كانوا يكيلون له المدائح ولا يتجرؤون على قول كلمة ينتقدونه بها في حياته، فكشفوا عن جانب مظلم من حياتنا الثقافيّة، هذا الجانب عزّزته مواقع التواصل الاجتماعي، وألقت عليه أضواء كاشفة.
وضمن هذا السياق يمكننا إدراج الكتابات الانفعالية التي نُشرتْ عقب وفاة الشاعر الكبير كريم العراقي، رحمه الله، قبل أن يبرد جسده، ويوارى في التراب، تلك الكتابات المسيئة، تنعته بالتكسّب من الشعر، وتمجيد الحكّام لهذا الغرض، وهو الذي عاش فقيرا، ومات فقيرا، وغنّى طوال حياته للإنسان، وأحلامه مسجّلا انحيازه للفقراء، والمستلبين، وبعض تلك المنشورات قلّلت من أهمّيّته كشاعر، وإنكار منجزه، حتى بلغ الأمر بأحدهم أن يطلق استفهاما استنكاريا: هل كريم العراقي شاعر؟ فإذا لم يكن كريم العراقي شاعرا، فمن الشاعر بنظر هؤلاء؟ وهو الذي شهد له القاصي والداني، وردّد كلمات أغانيه الملايين، خصوصا التي غنّاها رفيق دربه المطرب كاظم الساهر، ويكفيه فخرا أن الشاعر نزار قبّاني بعث له رسالة اختتمها بقوله «ابق مزروعا يا كريم على شفتي كاظم الساهر.. واكتب لنا دائما أحاسيسنا، وأحلامنا بأسلوبك الطفولي الجميل».
لقد رمى أصحاب هذه الكتابات عرض الحائط، عشرات الأغاني والقصائد التي ردّدها العشّاق في لياليهم الطويلة، والحالمون في نهاراتهم المشرقة، والبسطاء وهم يتوجّهون لأعمالهم، كلّ ذلك نسوه، وتوقّفوا عند أبيات بها كسورات عروضيّة، تلك الكسورات لم تقف حائلا بين النصوص، والجمهور الواسع، ولم تكسر العلاقة المتينة معه، والشاعر لا ينكر هذا، كونه يكتب على السليقة، وفي مقتبل حياته اشتهر باعتباره شاعرا يكتب بالعامية، حاله حال الشاعر مظفّر النواب، الذي كتب بالفصحى قصائد تفعيلة، بينما العراقي، حين انتقل من الكتابة بالمحكيّة العراقية، إلى العربية الفصحى، كتب القصيدة ذات الشطرين، وهذه تحتاج دربة طويلة، تبدأ منذ النشأة الأولى، وكان، رحمه الله، يسعى بكلّ ما يستطيع إلى تجاوز ذلك، وكثيرا ما يتّصل بي ليتأكّد من صحّة إيقاع، أو تفعيلة، أشكلت عليه، خلال الكتابة، ويحرص على سماع آراء الجميع، وتعديل الخلل، آخذا برأي الصغير والكبير، يروي الشاعر حاتم عباس بصيلة في منشور له، أنه عندما كان طالبا في كلية الفنون الجميلة أسند الدكتور حسين الأنصاري له تمثيل شخصيّة في مسرحيّة شعرية للعراقي، وحين راجع المتحدّث دوره في المسرحية لاحظ وجود خلل عروضي، فنقل ملاحظته لأستاذه الأنصاري الذي قال له: لابدّ من الرجوع للشاعر، فنقل الملاحظة للعراقي فقال له: «كلام الطالب صحيح» وقام بتعديل النص، ويعلّق الشاعر حاتم عباس على ذلك» تعجّبت من خلقه الكريم ومن تواضعه وأنا طالب في ريعان الروح الجامعية».
وهناك من انتقد الشاعر الراحل لأنه لم يحضر حفل افتتاح (خليجي 25)، وكيف يحضر وقد تلقى الدعوة وهو على سرير المرض، الذي نهش جسده، وتركه طريح الفراش؟ فاعتذر مثلما اعتذر عن تلبية العديد من الدعوات، والبعض تحدّث عن أغان كتبها خدمت الماكنة الإعلامية في مرحلة كان الشاعر جنديّا في معركة، وهنا لا أبرّر، ولكن أتكلّم بواقعية عن مرحلة عشت تفاصيلها، وهذا الأمر، وسواه، نتركه لحاكم عادل يفصل فيه، ويردّ على كلّ من يبخس الناس أشياءهم، وأعني بالحاكم العادل، الزمن، فهو كفيل بغربلة كلّ شيء في حياتنا «فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض»، فخفّفوا الوطء، دعوا روح الشاعر تنام بسلام ترحّموا على روحه، فالشاعر كريم أصبح بين يدي ربّ كريم.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
خطط لإنهاء حياته وفي الطريق مات في حادث هل سيعاقبه الله؟.. علي جمعة يجيب
وجهت إحدى الفتيات سؤالا، إلى الدكتور علي جمعة، مفتي الجمهورية السابق، وعضو هيئة كبار العلماء في الأزهر الشريف، تقول فيه (شخص نوى وخطط للانتحار لكن سبقه قدره ومات بحادث.. كيف سيحاسب؟
وقال الدكتور علي جمعة، في إجابته على السؤال، خلال برنامجه الرمضاني اليومي "نور الدين والدنيا"، إن هذا الأمر ينطبق عليه المثل الذي يقول (لو صبر القاتل على المقتول) فالله لا يحاسبنا فيما حدثت به أنفسنا.
وأضاف أن الفقهاء يقولون (مراتب القصد خمسة: هاجس ذكر فخاطر فحديث النفس فاستمع، يليه هم فعزم كلها رفعت سوء الأخير ففيه الأخذ قد وقع).
وأشار إلى أن المعنى أن القصد للإنسان مرتب على خمس درجات، الدرجة الأولى أن يغمض عينيه ويرى زجاجة خمر أمامه فهذا هو الهاجس، فإذا ثبتت صورة الخمر أمام عينيه فهذا هو الخاطر، ولو حدثت نفسه أن يجرب الخمر فهذا حديث النفس، فإذا عزم على التجربة في الواقع وعزم على الشرب، فهنا سيحاسب على هذه النية للعزم على شرب الخمر، أما ما قبل العزم فلن يحاسبه الله عليه.
وأوضح أنه بالنسبة لواقعة السؤال فإنه سيحاسب أمام الله لأن الأمر وصل معه إلى مرحلة النية وعزم على الفعل.
حكم الانتحارأكد مركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية، أن طلب الرّاحة في الانتحار وهم، وترسيخ الإيمان، والحوار أهم أساليب العلاج، مشيرًا إلى أنجعل الإسلام حفظ النفس مقصدًا من أَولىٰ وأعلىٰ مقاصده حتىٰ أباح للإنسان مواقعة المحرم في حال الاضطرار؛ ليُبقي علىٰ حياته ويحفظها من الهلاك.
وقال المركز عبر صفحته بـ«فيسبوك»، أن الإسلام جاء بذلك موافقًا للفطرة البشرية السّوية، ومؤيدًا لها،لذا كان من العجيب أن يُخالِف الإنسان فطرته، وينهي حياته بيده؛ ظنًا منه أنه يُنهي بذلك آلامه ومُشكلاته.
وتابع: ولكن الحق علىٰ خلاف ذلك، لا سيما عند من آمن بالله واليوم الآخر، فالمؤمن يعلم أنّ الدنيا دار ممر لا مقر، وأن الآخرة هي دار الخُلود والمُستقَر، وأن الموت هو بداية الحياة الأبدية لا نهايتها.
وأشار إلى أن الآخرة دار حساب وجزاء، وأن الدنيا لا تعدو أن تكون دار اختبار وافتتان ومكابدة؛ قال سبحانه: «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ» [البلد: 4]، وقال عز من قائل: «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ» [الأنعام: 165]، موضحًا:وهذا بلا شك يوضح دور الاعتقاد والإيمان في الصبر علىٰ الحياة الدنيا وبلاءاتها، وتجاوز تحدياتها.
ولفت إلى أن المؤمن يرىٰ وجود الشَّدائد والابتلاءات سُنّة حياتيّة حتميّة، لم يخلُ منها زمانٌ، ولم يسلم منها عبد من عباد الله؛ بَيْدَ أنها تكون بالخير تارة، وبالشَّر أخرىٰ، بالعطاء أوقاتًا، وبالحرمان أخرىٰ، قال سُبحانه: «وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ» [الأنبياء: 35]،ويعلم حقيقة الابتلاء الذي يحمل الشَّر من وجه، ويحمل الخير من وجوه؛ إذ لا وجود لشرٍّ محض.
وواصل: ويستطيع ذَووا الألباب أن يُعددوا أوجه الخير في كل محنة، والله سبحانه وتعالىٰ قال عن حادثة الأفك في القرآن الكريم: «إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ ۚ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ...» [النور: 11]، رغم ما كان فيها من الشِّدة والبلاء علىٰ سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وزوجه أم المؤمنين السّيدة عائشة رضي الله عنها، والمجتمع الإسلامي كله.