بريدى.. لا يسد رمق الجوعى والمتعبين!
تاريخ النشر: 6th, September 2023 GMT
يومنا يبدأ بتفقد البريد بكل أنواعه. صباحاتنا التى كانت تبتهج بسماع همسة عتاب وكلمتين وبس وأبلة فضيلة.. وأوبريت عوف الأصيل، والجوز الخيل والعربية وغيرها، لم تعد كما كانت! شتان ما بين البدايتين. تضع منشفتك على كتفك بينما إذاعة البرنامج العام- أو الشرق الأوسط أو صوت العرب–تحلق بك فى أرجاء رحبة من الصفاء وراحة البال.
بينما يأخذك البريد (ماسينجر، وواتس آب ورسائل عادية) إلى مساحة من الشقاء والبؤس لا تعرف لها حلا! هل تتجاهل الشكاوى والأنين التى يمتلئ بها بريدك؟ هذه أم لثلاثة صغار، وزادت الطين بلة، فقد وضعت لتوها جنينا آخر، أبلغتنى أنه ولد بثقب فى القلب كما أنه مصاب بالانيميا، وتطلب مساعدتى العاجلة! فى رسائل سابقة أخبرتنى أن بيتها بلا طعام ولا شراب، وأن زوجها يعمل براتب لا يكفيه! حياتها تبدأ كل يوم باللجوء إلى البريد كى يسد رمق الجوعى!
يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم.. تبدأ غالبية الناس يومها بهذه الافتتاحية، حتى ولو كانوا من المتقاعدين أمثالى، أى الذين يستحيل أن يأتيهم مال إضافى من أى مصدر، ما دامت حياتهم المهنية والوظيفية انتهت، ومع هذا هناك الأمل والرجاء فى غوث الله. لكن هؤلاء لا يأملون أن يقدم لهم بريدهم مثل هذا الغوث. أما «جمال» فمثله مثل «فريدة» ومثلهما «جوهرة»–وغيرهم كثيرون- لا يرون مانعًا من حل مشكلاتهم المالية من خلال الماسينجر والواتس اب، يرمون حمولهم على قلبك المتخم بالمعاناة والمعذب بأوجاع الناس، يتوسمون فيك أن تحل بالنسبة لهم محل الشئون الاجتماعية والتضامن الاجتماعى وصناديق الزكوات وبنوك الطعام وجمعيات خيرية لا تعرف عن أهدافها أو موثوقيتها شيئًا!
«جمال» شاب معاق، لكنك لا تستطيع أن تقول له لا تمارس حياتك مثل باقى البشر العاديين، فلا تتزوج ولا تنجب، هو لم يسأل نفسه ولا أهله سألوا: كيف سيمضى حياته وهو معاق ويتزوج من امرأة مثله، وينجبان أولادًا أيضا، من أين سيطعمهم جمال؟ سؤال لم تهتم «فريدة» أيضًا بطرحه، هى مارست حياتها العادية، تزوجت، وتنجب ولاتزال تنجب وفكرتها أن الله –والبريد الالكتروني- سيحلها من عنده! (جهد البلاء كثرة العيال مع قلة الشيء)، حديث نبوى كان يتصدر واجهات المستشفيات فى الستينيات والسبعينيات، ولم يعد له الآن أى أثر. تماما كما لا يوجد أثر للدعوات الدينية التى تحض على التفكير فى مستقبل الأسر، وهى تتخم نفسها وتحمل جيوبها ما لا تطيق، بل ما ليس فيها من أموال، وهى تنجب كل عام من البنين والبنات ما تتصور أنه «عزوة»(!!) أو أنه سيأتى برزقه! لا يسأل ذكر من هؤلاء من أين سيأتى هذا الرزق؟
الست «جوهرة» الأرملة التى فقدت زوجها فجأة ولم يعد لديها معاش يكفى ليعولها وابنتها، تعيش حياة بائسة، كان زوجها يتكفل بفتح البيت، الآن هى لا تعرف كيف تسد رمقها وابنتها التى كانت تجهز نفسها استعدادا لابن حلال لم يأت بعد، تعيش على المساعدات، بينما تتأمل كراتين الأجهزة المنزلية التى تملأ بيتها الذى لم يدخله بعد العرسان وطالبو الزواج منها أو من ابنتها!
نعم «ربنا مبينساش حد»، لكن الناس نسيته، فالله لم يخلقنا لحياة كهذه مليئة بالتعذيب، للأسف هو تعذيب جماعى.. للمرسل والمستقبل معا!
المصدر: بوابة الوفد
إقرأ أيضاً:
قالت شهرزاد: رواية مريم قدّورة من جباليا
ولما كان اليوم الرابع والأربعون لحرب الإبادة الجماعية على غزة الأبيّة، وفي صبيحة يوم الأحد، التاسع عشر من تشرين الثاني، من العام ألفين وثلاثة وعشرين ميلادي، والخامس من جمادى الأولى، من العام ألف وأربعمائة وخمسة وأربعين هجري، وبعد أن انطلقت القذائف الناريّة التي أطلقتها القوات الإسرائيلية باتجاه الأراضي الزراعيّة، وواصلت الطائرات الحربيّة القصف بمئات الصواريخ على المنشآت الخدميّة والمباني السكنيّة من محافظات غزة الشماليّة والشرقيّة، حدَّثتني مروة يوسف قائلة: حدّثتني مريم عبد المنعم قدّورة، ابنة جباليا، عن هول اليوم الذي عاشته، والمرّ الذي تجرعته، حين استشهد زوجها وأبناؤها الأربعة، وشقيقتها وأولادها، وأصيب جسمها بحروق بليغة؛ إثر قصف قذيفة صاروخيّة هدمت البيت فوق رأسها ورؤوس أفراد عائلتها، وقذفتها من الطابق الثاني بعيداً إلى الشارع، ثم أفقدتها الوعي لتجد نفسها داخل المستشفى الإندونيسيّ، الذي كان يتعرَّض لحزام ناريّ جعل أطباء المستشفى يُعجِّلون بنقلها إلى مستشفى غزة الأوروبيّ.
وكان أيها الجمهور «السعيد»، ذو الرأي الرشيد، أن حمل الأطباء مريم الجريحة، وركضوا بها إلى المستشفى لإسعافها بسرعة كبيرة؛ بسبب إصابتها الخطيرة. لم يعرف الأطباء اسمها أو أي معلومات عنها، حتى استفاقت وباعتزاز قالت: أنا مريم زوجة «رائد قدّورة». وحين بلغ الخبر أهلها، جاؤوا لمساندتها، ولم يقووا على إخبارها باستشهاد زوجها، أو أولادها أحمد وهدى وسما ولما، خاصة أن الأطباء أبلغوهم أن إصابتها مميتة، وأن نجاتها تكاد تكون مستحيلة.
ولما كان من الصعب إخفاء الحقيقة مدة طويلة، يا سادة يا كرام، عرفت مريم ما حدث لعائلتها من طبيبة ماليزية كانت صديقتها، تعرّفت عليها، حين كانت وأولادها ترافق زوجها، الذي كان يتابع دراسته العليا لنيل درجة الدكتوراه من جامعات ماليزيا.
لم تستطع مريم استيعاب ما حدث، أو وصف ما حدث، كان زوجها وأولادها حياتها التي أحبَّت، والحصن الذي استندت، والمستقبل الذي خطّطت.
فُجعت الصبية، الوردة النديّة، ولم تصدِّق اختفاء عائلتها، فكادت تفقد عقلها؛ ضحكت وبكت وانهارت، وفي غرفة العناية المركزة عشرة أيام بقيت، لتخرج بعدها وتسلَّم بقدرها، وتشكر ربها، الذي أكرم بالشهادة أحباءها.
روت مريم قدورة، والألم يعتصرها، والوجع يفتِّتها، عن آلام حروقها التي تضاعفت، ليصبح جرحها جرحَين، وألمها ألمَين، ومصابها مصابَين، وعن انتظارها ثلاثة شهور في المستشفى الأوروبي، حتى جاءت الموافقة على علاجها في الخارج، رغم أن الأطباء كتبوا تقارير منذ إصابتها، تفيد بأهمية الإسراع في علاجها.
وكان، أيها الأفاضل، أن وصلت مريم الجريحة إلى مصر، يوم الثاني من شباط، من العام الحالي، بصحبة والدتها، وأحد إخوتها، لتبدأ رحلة علاجها في مستشفى السلام التخصصيّ للحروق بالقاهرة، وتركت والدها المريض، وبقية أشقائها ومن ضمنهم أطفال، في دير البلح، ليتنقلوا من خيمة إلى أخرى، ومن عذاب إلى عذاب، ومن تهجير إلى تهجير.
ولم تنفرج أسارير مريم، أو يضيء وجهها، إلا حين تحدّثت عن أطفالها: أحمد الذي كان قد بلغ عشر سنوات والتحق بالصفّ الخامس، وهدى التي كانت قد أنهت صفّ الروضة والتحقت مدة شهر في الصفّ الأوّل، و»سما» و»لما»، «التوأمان»؛ اللتان وُلدتا وقُتلتا خلال حرب الإبادة، بعد أن أنهتا شهراً واحداً من عمرهما.
تحدَّثت عن فخرها واعتزازها ببناتها وولدها. بدأت بأحمد قرّة عينها، الذي كان يتابع باهتمام كبير ما حدث ويحدث في فلسطين، وما يحدث بالتحديد من اعتداءات على الأقصى، ما جعله يستمع باستمرار إلى أنشودة: «إيدي بإيدك نحو الأقصى»، وينظر بإعجاب إلى صور الشهداء، ويعرف عن حياتهم وطريقة استشهادهم، ويعبَّر عن رغبته أن يكون مستقبلًا واحداً منهم.
أحبّ الكرة وأحبّ السباحة، حتى أنه سجَّل في نادٍ للكرة، ونادٍ للسباحة. وكان متمكناً في اللغة الإنجليزية، بسبب إقامته ثماني سنوات في ماليزيا، الأمر الذي جعل أستاذه في المدرسة يكلّفه شرح الدرس في حصة اللغة الإنجليزية.
أثنت على شجاعة أحمد، وشخصيته القيادية، والذي مشى على خطى والده/ صديقه ذي الشخصية الريادية.
وأسهبت حين تحدّثت عن ابنتها هدى والتوأمين سما ولما. كانت هدى مهجة روحها، وصديقتها، الفتاة الذكيّة، ذات الطلّة البهيّة، التي تميَّزت بجمال خطّها وروحها وصوتها، أما التوأمان سما ولما، فكانتا في البيت مصدراً للسعادة، رغم أنهما لم تشهدا سوى حرب الإبادة. لم تنسَ الرحلة المرعبة التي عاشت وهي في سيارة الإسعاف، والساعات الطويلة التي انتظرت للوصول إلى المستشفى للولادة تحت وابل قصف مجنون ومتواصل، أو الليلة المرعبة التي شهدت بعد الولادة القيصرية في المستشفى، الذي تعرَّض لقصف همجيّ ومتواصل، جعلت كل من فيه يختبئ تحت الأسرّة بمن فيهم الممرِّضات والمرضى.
تتساءلون عن حياة مريم بعد اقتلاعها من بيتها، وفقد زوجها وأبنائها الأربعة، يا سادة يا كرام؟!
جافى النوم مريم، وصاحبتها الأحزان والآلام والخوف من فقد المزيد من الأحباب، وبقيت طازجة في ذاكرتها صورة الزوج والبيت والأولاد.... وووووو.
ووووو أدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام الجراح!
(الأيام الفلسطينية)