كتب الروائي السوداني المعروف منصور الصويِّم في بداية الألفية الثالثة رواية «تخوم الرماد» تدور أحداثها في إقليم دارفور، تصور حياة جنرال غارق في تدبير المؤامرات وسط مجموعات قبلية ونخب سياسية فاسدة بأن يأمر جنرال جنوده بحرق قرية (أم عضام) وتحويلها إلى رماد. وبعد سنوات اندلعت حرب الإبادة الجماعية في دارفور، كما وصفتها الأمم المتحدة، وأوصلت مرتكبيها الى محكمة الجنايات الدولية.
وما بين رؤية الرواية وهي ترسم واقعاً تنبثق عنه صور الحرب والدمار، وما يجري اليوم من حرب فعلية ظلت متصلة على مدى عقدين ويزيد، مستخدمة الوسائل والممارسات العسكرية كافة، أدت إلى انتهاك لحقوق الإنسان بصورة أكثر بشاعة من قبل كل الأطراف. وتحولت بالتالي المدن وما جاورها من قرى بفعل المعارك وأساليبها المستخدمة إلى رماد، نتج عن حريق شامل قضى على قرى ومدن الإقليم كافة.
وشهدت مدينة نيالا عاصمة جنوب الإقليم خلال الأسابيع المنصرمة معارك طاحنة بين الجيش المتحصن بقاعدته العسكرية الفرقة السادسة عشرة، وقوات الدعم السريع، من دون أن يتمكن الدعم السريع من إحراز تقدم عسكري بارز، على الرغم من سيطرته على الجزء الشرقي وأجزاء واسعة من المدينة، إلا أن تراجيديا الأحداث توالت في اليوم التالي باغتياله قائد الفرقة على يد قواته! وتكشف هذه الوقائع عن مدى آخر اتخذته الحرب الجارية طوال الأشهر الخمس الماضية؛ وهي أن تمددها لم تحصره الجغرافيا، التي من الضرورة أن تنقل معها مكونات العناصر المتقاتلة التي تجر بأعمالها لتحويل الحرب إلى حرب إثنية ذات طبيعة جهوية، تعصف بما تبقى من وحدة متصدعة في أهم مؤسسات الدولة الأمنية، كالجيش بعد أن انهارت بقية المؤسسات الأخرى على المستوى الإقليمي والاتحادي. استدعى هذا الموقف المتأزم في مدن الإقليم أن تصدر وزارة الخارجية الأمريكية في الخامس والعشرين من شهر أغسطس/آب بيانا تستنكر فيه ما يجري، وتطالب بفتح ممرات آمنة لخروج المدنيين خاصة في مدينة نيالا، كما أشار البيان، وأن يخضع مرتكبو الجرائم للمساءلة القانونية عن الجرائم المرتبكة من قبل الطرفين بحق المدنيين، وغيرها من إدانات درجت عليها الإدارة الأمريكية منذ تفجر الأزمة، من دون أن يكون لهذه الإدانات وما شابهها من بيانات، أي فعالية على واقع الأحداث. وقد سبق بيان الإدانة الأمريكية قلق ومخاوف أبدتها الأمم المتحدة بشأن وضعية الأحداث في الإقليم، على مستوى أمينها العام أنطونيو غوتيريش، الذي حذر من تفاقم الانتهاكات على أساس جهوي قد يرقى الى مستوى الجرائم ضد الإنسانية. ويعد إقليم دارفور في غربي السودان المكون الأبرز في الصراع الدائر، بما تمثله عناصر طرفي الصراع المنتمية إليه من ثقل بشري. فقوات الدعم السريع التي ينتمي افرادها إلى قبائل محددة في ذلك الإقليم، وبالمثل قوات الجيش السوداني في تشكيلاته المقاتلة في قوات المشاة من الجنود بالإضافة إلى عديد الحركات المسلحة. وهذه الكثافة العسكرية في ظل شعارات قاتلت وتقاتل تحت راياتها الحركات المسلحة كافة، وقد قامت قوات الدعم السريع بتضمين هذه الشعارات في خطابها مؤخراً بتبني تلك الشعارات من تهميش وإقصاء مارسته نخب المجموعات الحاكمة منذ الاستقلال، أو ما درج على وصفه بدولة 56، يضع الأزمة السودانية أمام واقع يصعب الحوار معها لعدة أسباب. ولعل أهمها ردة الفعل من قبل جماعات المركز التي تتصدرها خطابات الكراهية، بأن الإقليم بات مصدراُ لمتاعب جمة، وإن كانت هذه المتاعب من صنع الدولة المركزية نفسها. وتكمن خطورة مثل هذه التصورات في تداعياتها الاجتماعية زادت عليها الحرب الدائرة بنتائجها الكارثية على الصعيد الإنساني، ويلاحظ خلو هذه المكونات العسكرية من أي صبغة مدنية حزبية، مع وجودها تحت مظلة أحزاب سياسية تقليدية في دوائر انتخابية مغلقة أثناء فترات الديمقراطية القصيرة في حكم السودان، التي لم تر فيها الحركات الاحتجاجية أكثر من هيمنة أخرى توظفها الدولة المركزية في صراعها على السلطة. فالموقع الجيوبولتيكي للإقليم وجواره لعدد من الدول باتجاه الحدود الغربية للبلاد ومساحته وتنوع مكوناته القبلية المتداخلة والمتصارعة كلها جعلت منه بؤرة متوترة وعرضة للتأثر بما يجري في دول الجوار وغالبها دول في محيط ملتهب على الدوام. يدخل الإقليم بهذه المكونات الملتهبة في معادلة الأزمة السودانية وتكاد تكون أزمته هي دارفور.
ومن جانب آخر يذهب محللون إلى أن ما يجري ربما كان حصادا لسنوات من زراعة العنف واستغلاله من طرف الحكومة المركزية، وبالتالي نتجت أزمة مركبة تداخل فيها الإقليمي والجهوي والتاريخي، زاد منه الانحياز العنصري الذي مارسته الدولة المركزية بين المكونات القبلية. فالحرب الحالية أيا تكن نتائجها الختامية فسيكون لها أثر بليغ على الوضع في دارفور حرباً وسلما، وإن يكن الراجح أن علاقتها بالمركز لن تكون على ما كانت عليها قبل الحرب، خاصة على المستوى الاجتماعي، وهو الجانب الأكثر تأثيراً في مجريات الأحداث والأقوى في الواقع السياسي السوداني، حيث قوة المجتمع بطبيعة تكوينه أكبر من سطوة الدولة ومؤسساتها. فتأثير الحرب في دارفور بالنسبة لعدد ضحاياها، وما طال مدنها من دمار، وتجدد صراعاتها على التصنيف الجهوي، والنزوح الداخلي واللجوء إلى دول الجوار في أوضاع إنسانية رثة؛ تبقى الخشية أن يتحول الغضب الذي سبب تداعيات الحرب في الخرطوم إلى انتقام اجتماعي عنيف ضد مكونات دارفور الاجتماعية، في بلد تتباين فيه الانتماءات العرقية، وقد حدث إثر أحداث ومواجهات كثيرة في تاريخ البلاد السياسي أن دفع ثمنها مواطنو هذه المناطق المهمشة لا لشيء سوى انتمائهم لإقليم دارفور.
إن هوية دارفور كما تتجلى في الإنسان والمكان ستكون خاضعة لعدة تفسيرات في ظل الحرب المستعرة، ما سيزيد من تعقيدات مستقبل الإقليم ووضعيته في ظل سودان موحد، أيا تكن الصورة التي ستشكلها حرب البلاد الجارية وتضاؤل الأمل في سلام منظور. وعلى ما يبدو فإن الأزمة السودانية آخذة في التأرجح الحرج، بين خطاب قائد الجيش عبد الفتاح البرهان الذي خرج أخيراً للمرة الأولى منذ اندلاع الحرب بتصميمه على مواصلة الحرب حتى هزيمة التمرد، كما صرح، ورؤية قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو في تأسيس دولة سودانية جديدة على أسس جديدة على النظام الفيدرالي الديمقراطي، كما لو أن مستقبل البلاد أصبح رهيناً لإرادة الجنرالين. فالجديد في الواقع الدارفوري لم يختلف كثيراً عما عرف به الإقليم من مآسٍ لا تكاد تنتهي لتبدأ من جديد، مسرح من التراجيديا المستمرة يصورها الأدب كما في رواية (تخوم الرماد) منصور الصويم وتشكلها بعنف بندقية القتال.
كاتب سوداني
نشر بصحيفة القدس العربي اللندنية# عدد اليوم 06/09/2023م الأربعاء.
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الدعم السریع ما یجری
إقرأ أيضاً:
ذَهاب دارفور سيقود إلى فُقدان الشرق
ذَهاب دارفور سيقود إلى فُقدان الشرق
كيف لا يرى أصحاب ذِهنيّة التفكيك ومن يُناصرهم ذلك؟
أمرنا جِدُّ عجيب نحن في السودان. فبينما نسمع ونشاهد في أجهزة التلفزيون رئيس الولايات المتحدة الأمريكية ثالث أكبر الدول في العالم مساحةً يدعو إلى ضمِّ كندا ثاني الدول مساحةً إلى بلاده ويضيف إلى ذلك جزيرة جرينلاند أكبر جزر العالم مساحةً، وبينما تخوض روسيا أكبر دول العالم مساحةً حرباً ضَرُوساً لإخضاع أوكرانيا وضمِّ أجزاء منها إليها، وبينما نجحت الصين رابع دول العالم مساحةً في استعادة هونج كونج وواصلت سياستها الرامية إلى استعادة تايوان، نسعى نحن بأيدينا، أو بالأحرى يسعى بعض الذين أحكموا قبضتهم على شُؤون بلدنا على تفكيك وتمزيق هذا الوطن العظيم.
جاء في الأنباء في حديث منسوب للأمين العام للحركة الإسلامية، وهو أحد أبرز رموز حزب المؤتمر الوطني الذي حكم البلاد لنحو ثلاثين عاماً تمّ خلالها انفصال جنوب السودان بأهله النُجباء وأراضيه الخصبة ومياهه الوفيرة وغاباته الخضراء وجماله الطبيعي، أنّه لا يمانع في ذَهاب دارفور التي" ظلّت منطقة مشتعلة بالصراعات وأقعدت بالسودان" في قوله.
هذا تفسير وقراءة مغلوطة لتطورات الأوضاع في السودان تاريخياً ومفاهيمياً.
أوّلاً، من حيث التاريخ، فإنّ الأوضاع في دارفور لم تنفجر إلا نحو عام 2003، أي بعد قُرابة الخمسين عاماً من الاستقلال. فقبل ذلك، ظلّت دارفور إلى حدٍّ كبير مثلها مثل باقي مناطق السودان، توجّه إليها الناس من خارجها واستوطنوا فيها وتعايشوا مع أهلها بمحبَّة، وشهادات بعضهم على ذلك مُتاحة، وحقّق عددٌ منهم نجاحاً مادياً ملحوظاً جعلهم من أثرياء السودان. تقتضي الأمانة والنزاهة الفكرية والأخلاقية إذاً، أن نبحث في الأسباب الحقيقية التي قادت من حالة السِلم والاستقرار في دارفور منذ الاستقلال، إلى انفجار الصراع في عام 2003.
هذا من ناحية الوقائع التاريخية، أمّا من الناحية المفاهيمية، فإن الحُجَّة الرئيسية لتفسير صراعات دارفور ومن ثمّ تبرير الدعوة إلى انفصالها، تدور حول اختلاف العادات والسحنات وأشياء من هذا القبيل المُحزن بينها وبين المناطق التي يُراد بتر دارفور منها، وهي حُجَّة واهية ولا تستقيم على أكثر من وجه. فلننظر على سبيل المِثال إلى أقوام أمريكا وكندا وأستراليا والبرازيل، لنجد أنّ بعضهم قد لا يلتقون إلا عند آدم. ومع ذلك، لم يطالب أحد بتقسيم هذه الدول على أُسُس إثنية، فقد كفلت الدساتير وأُطُر الحكم الرشيد فيها حقوق المُواطنة المُصانة بالقوانين التي يجري تنفيذها، لا تلك التي يُحتفظ بها كمحض نصوص خاوية.
ومن الناحية الأخرى، كَمْ عمر الوطن؟ إنّ التركيز على اللحظة الراهنة المُشبّعة بعوامل الاحتقان سيقود بطبيعته إلى إبراز عناصر الاختلاف وإخفاء ما يجمع بين الناس من مزاج وجداني مشترك وملامح وطباع مُتقاربة ينسج الزمن في سيرورته من خيوطها رداء الوطن الجميل الذي يُمكِن لنا جميعاً أن نرفل فيه.
وأخيراً، من الناحية المفاهيمية أيضاً وربما هي الأهمّ: ألا توجد مسؤولية للحاكمين في المركز عن تدهور الأوضاع وبروز النزاعات في الأقاليم؟ أليست هي المسؤولية الأكبر بحكم الموارد المادية والبشرية والمعرفية المُتاحة لهم لحلّ النزاعات، والالتزامات الأخلاقية المُناطة بهم بحكم مناصبهم الجليلة هذه؟ هل حقّاً لا يوجد بديل عقلاني لإرسال الجيوش لقمع النزاعات؟ إذا اعتبر أهل الأقاليم البعيدة أنّ نموذج الحكم القائم يتجاهل مصالحهم وأنّهم لا يجدون لأنفسهم تمثيلاً حقيقياً فيه، ألا يدعوا ذلك الحاكمين إلى إجراء حوار موضوعي جادّ معهم حول شكواهم؟
لقد انفصل الجنوب، وذهب إلى حال سبيله، ولم تتحقّق توقعات من قبلوا بانفصاله. فبدلاً عن الازدهار والنمو المتسارع الذي بشروا به لما تبقّى من السودان، شهدنا تدهوراً مُتسارعاً في الأوضاع الاقتصادية، وتزايداً في وتيرة الصراع والعنف انتهى بالحرب المُدمِّرة الحالية التي اندلعت في العاصمة نفسها هذه المرّة ولم تبق ولم تذر. ومِمّا يُحمد لأهلنا في جنوب السودان في هذا الخصوص، أنّهم لم يظهروا الشماتة فيما حدث لنا نحن الذين بيننا من قال إنّهم "لا يشبهوننا".
من يتصوّر بأنّه سيحتفظ بأقاليم السودان المُتبقية بعد ذهاب دارفور استناداً إلى وجود التوافق والانسجام بين مكوناتها واهم، فالانسجام التلقائي بين مكونات أيّ مجتمع خرافة. وهو خرافة أكبر في المجتمعات التي تتمطّى فيها القبليّة خاصة عندما تجد من يحتفل بمآثرها، لأنّ القبيلة بالتعريف هي كيان مُتميّز عن الكيانات القبليّة الأخرى القائمة معه. وحتى داخل القبيلة الواحدة، قد لا يوجد انسجام تامّ، ولنا في الصومال الشقيق مثالاً، إذا تحرّجنا من الإشارة إلى تاريخ بعض القبائل السودانية، إن لم يكن كلّها. ويكفي النظر إلى تجربة السلطنة الزرقاء وقبائلها، والتي لخّص كاتب غاب عني اسمه تاريخها بأنّه عبارة عن " شكلة" مُستمرّة وقعقعة بالسيوف تواصلت حتى أفول نجمها. لذلك لم تترك تلك السلطنة في عمرها الطويل آثاراً مادية وعمرانية تستحقّ الذكر، وأهمّ ما وصلنا منها من الناحية الفكرية والأدبية كتاب طبقات ود ضيف الله الذي تمتزج فيه الوقائع بالأساطير.
نموذج الدولة الحديثة المحكومة بالنظم القانونية العقلانية، والذي أصبحت معرفته في متناول الجميع هو ما يحفظ الوحدة والسلام بين مكونات البلد في أرجائه المختلفة، وليس نظام الحكم القائم على الانسجام القبائلي. ولذلك إذا ذهبت دارفور الى ما ذهب إليه الجنوب، فسيتبعها عاجلاً أو آجلاً الشرق وهلُمّ جرّا.
نحن الآن في حالة حرب اشتدّت فيها محاولات الاستقطاب وإثاره المخاوف والكراهية وسط المدنيين على أُسُس جهوية بهدف حشد الدعم من جانب كلّ طرف من طرفيها لنفسه. وللأسف فقد انساقت أعداد ليست قليلة من الناس وراء ذلك. ولكِنّ الشواهد تشير أيضا إلى أنّ الأغلبية العظمى من السودانيين، رغم الضرر الماحِق الذي حلّ بهم بسبب الحرب، رأت في المدنيين، بغضّ النظر عن خلفياتهم الإثنية ومناطقهم الجهوية، ضحايا حرب مثلهم.
حجب الدعم من قِبل المدنيين السودانيين عمن يدعون إلى استمرار الحرب، قد يكون هو الوسيلة الناجعة الوحيدة بأيديهم لإيقافها. هذه الحرب لن توقفها دول المحاور الاقليمية المعروفة بمناصرة جانب أو آخر من الجانبين المتقاتلين، أو حتى تلك التي تزعم الحياد. مصالح هذه الدول قد بُلورت للأسف، ليس على أرضية الفوائد المتبادلة بينها وبين السودان، وإنّما على منطق انتهازي ذي نظرة قصيرة المدى تتطلّب إبقاء السودانيين مُقسّمين ومُتشاكسين للاستئثار بمواردهم الطبيعية. هذا المنطق فيه بالطبع استصغار للسودان وأهله، كان حريّاً بأن يُحِسسنا بالغبن ويستنهض فينا الغيرة الوطنية على بلدنا العظيم. لقد ردّد البعض كثيراً أنّ هذه الدول لا ترغب في قيام حكم مدني ديمقراطي في السودان خوفاً من انتقال العدوى إليهم. ولكِن من المرجح أنّ السبب الأهمّ من ذلك، في نفورهم من قيام مثل هذا الحكم في السودان، هو أنّه سيجعل من الصعب على أيّ جهة الاستمرار في الاستغلال غير المُنصف لموارد السودان، نتيجة لوجود تشريعات واضحة وأداء حكومي مُراقب من قِبل الصحافة الحرّة والتنظيمات السياسية والمدنية، وهذه هي أهمّ سمات النظام الديمقراطي كما هو معلوم.
لماذا لا نقلب الطاولة إذاً على دُعاة الحرب ببناء الجسور بين المجموعات المختلفة من الأهالي وخلق تضامن ملموس بين المدنيين يسمو على اعتبارات الجهوية، ويكرّس انتماءنا لهذا الوطن العزيز وحده.
أعلم دون شكّ، أنّه من الصعب على من فقد عزيزاً لديه بسبب الحرب، أو فقد منزله ومصدر رزقه وثروته وأضطرّ للنزوح أو البقاء مُجبراً تحت نيران البنادق، أن يغفر لمن يظنّ أنّ له يداً في حدوث الضرر الذي حاق به. ومع ذلك، فإنّ التسامي فوق النكبات الشخصية والبحث عن شعلة للتسامح في أغوار النفس هو أمرٌ مُمكِنٌ، والشواهد على ذلك في تاريخ البشرية كثيرة. أكتفي منها بمثلين، وكلاهما لأمّ، وليس مثل فقد الأمّ لولدها فقد.
ففي إيران، أقدمت السيدة "سميرة علين جاد" في آخر اللحظات تقريباً قبل صعود قاتل ابنها إلى المشنقة، بالعفو عنه. وكانت هذه السيدة قد أخبرت وكالة " الأسوشيتد برس" قبل اتخاذها لهذه الخطوة أنّ الفكرة التي ظلّت مسيطرة على ذهنها طَوال الوقت هي الثأر لمقتل ابنها المراهق.
وفي جنوب افريقيا، وفي إحدى جلسات "لجنة الحقيقة والمصالحة" بعد نهاية نظام حكم الفصل العنصري، استمعت امرأة مُتقدِّمة في السنّ إلى اعتراف الجندي الذي قتل زوجها وابنها بطريقة وحشيّة. وعندما سألها القاضي عن ما تطلبه من القاتل، تقدّمت بثلاثة طلبات هي: أن يأخذها إلى موقع الجريمة لتجمع بعض الرُفات منه وتقوم بدفنها، وأن يُصبح الجندي بمثابة "ابن بديل" لها يستوعب بعض الحبّ الذي تكنّه لابنها وذلك بزيارتها مرّة كلّ أسبوعين، وأخيراً بأن يقبل هو عفوها الكامل عنه والذي يبدأ بقيامها باحتضانه بقوة في التّوِّ واللحظة.
ختاماً، لربما تكمن أهمية التسامح، بجانب إعلائه لقيم الإنسانية السمحة، في كونه تِرياقاً للنفس المجروحة يُحرِّرها من نير وظلام الكراهية الدامس القابع في الدواخل.
محمد حامد الحاج
melhaj@gmail.com