سودانايل:
2024-11-07@18:39:17 GMT

على تُخُوم رماد دارفور

تاريخ النشر: 6th, September 2023 GMT

كتب الروائي السوداني المعروف منصور الصويِّم في بداية الألفية الثالثة رواية «تخوم الرماد» تدور أحداثها في إقليم دارفور، تصور حياة جنرال غارق في تدبير المؤامرات وسط مجموعات قبلية ونخب سياسية فاسدة بأن يأمر جنرال جنوده بحرق قرية (أم عضام) وتحويلها إلى رماد. وبعد سنوات اندلعت حرب الإبادة الجماعية في دارفور، كما وصفتها الأمم المتحدة، وأوصلت مرتكبيها الى محكمة الجنايات الدولية.

وقد استبقت الرواية مآلات الإقليم المنكوب، وترجمت الى الإنكليزية ووجدت أصداء نقدية لافتة، أمكن معها قراءة تطور الصراع في ذلك الإقليم النائي.
وما بين رؤية الرواية وهي ترسم واقعاً تنبثق عنه صور الحرب والدمار، وما يجري اليوم من حرب فعلية ظلت متصلة على مدى عقدين ويزيد، مستخدمة الوسائل والممارسات العسكرية كافة، أدت إلى انتهاك لحقوق الإنسان بصورة أكثر بشاعة من قبل كل الأطراف. وتحولت بالتالي المدن وما جاورها من قرى بفعل المعارك وأساليبها المستخدمة إلى رماد، نتج عن حريق شامل قضى على قرى ومدن الإقليم كافة.

وشهدت مدينة نيالا عاصمة جنوب الإقليم خلال الأسابيع المنصرمة معارك طاحنة بين الجيش المتحصن بقاعدته العسكرية الفرقة السادسة عشرة، وقوات الدعم السريع، من دون أن يتمكن الدعم السريع من إحراز تقدم عسكري بارز، على الرغم من سيطرته على الجزء الشرقي وأجزاء واسعة من المدينة، إلا أن تراجيديا الأحداث توالت في اليوم التالي باغتياله قائد الفرقة على يد قواته! وتكشف هذه الوقائع عن مدى آخر اتخذته الحرب الجارية طوال الأشهر الخمس الماضية؛ وهي أن تمددها لم تحصره الجغرافيا، التي من الضرورة أن تنقل معها مكونات العناصر المتقاتلة التي تجر بأعمالها لتحويل الحرب إلى حرب إثنية ذات طبيعة جهوية، تعصف بما تبقى من وحدة متصدعة في أهم مؤسسات الدولة الأمنية، كالجيش بعد أن انهارت بقية المؤسسات الأخرى على المستوى الإقليمي والاتحادي. استدعى هذا الموقف المتأزم في مدن الإقليم أن تصدر وزارة الخارجية الأمريكية في الخامس والعشرين من شهر أغسطس/آب بيانا تستنكر فيه ما يجري، وتطالب بفتح ممرات آمنة لخروج المدنيين خاصة في مدينة نيالا، كما أشار البيان، وأن يخضع مرتكبو الجرائم للمساءلة القانونية عن الجرائم المرتبكة من قبل الطرفين بحق المدنيين، وغيرها من إدانات درجت عليها الإدارة الأمريكية منذ تفجر الأزمة، من دون أن يكون لهذه الإدانات وما شابهها من بيانات، أي فعالية على واقع الأحداث. وقد سبق بيان الإدانة الأمريكية قلق ومخاوف أبدتها الأمم المتحدة بشأن وضعية الأحداث في الإقليم، على مستوى أمينها العام أنطونيو غوتيريش، الذي حذر من تفاقم الانتهاكات على أساس جهوي قد يرقى الى مستوى الجرائم ضد الإنسانية. ويعد إقليم دارفور في غربي السودان المكون الأبرز في الصراع الدائر، بما تمثله عناصر طرفي الصراع المنتمية إليه من ثقل بشري. فقوات الدعم السريع التي ينتمي افرادها إلى قبائل محددة في ذلك الإقليم، وبالمثل قوات الجيش السوداني في تشكيلاته المقاتلة في قوات المشاة من الجنود بالإضافة إلى عديد الحركات المسلحة. وهذه الكثافة العسكرية في ظل شعارات قاتلت وتقاتل تحت راياتها الحركات المسلحة كافة، وقد قامت قوات الدعم السريع بتضمين هذه الشعارات في خطابها مؤخراً بتبني تلك الشعارات من تهميش وإقصاء مارسته نخب المجموعات الحاكمة منذ الاستقلال، أو ما درج على وصفه بدولة 56، يضع الأزمة السودانية أمام واقع يصعب الحوار معها لعدة أسباب. ولعل أهمها ردة الفعل من قبل جماعات المركز التي تتصدرها خطابات الكراهية، بأن الإقليم بات مصدراُ لمتاعب جمة، وإن كانت هذه المتاعب من صنع الدولة المركزية نفسها. وتكمن خطورة مثل هذه التصورات في تداعياتها الاجتماعية زادت عليها الحرب الدائرة بنتائجها الكارثية على الصعيد الإنساني، ويلاحظ خلو هذه المكونات العسكرية من أي صبغة مدنية حزبية، مع وجودها تحت مظلة أحزاب سياسية تقليدية في دوائر انتخابية مغلقة أثناء فترات الديمقراطية القصيرة في حكم السودان، التي لم تر فيها الحركات الاحتجاجية أكثر من هيمنة أخرى توظفها الدولة المركزية في صراعها على السلطة. فالموقع الجيوبولتيكي للإقليم وجواره لعدد من الدول باتجاه الحدود الغربية للبلاد ومساحته وتنوع مكوناته القبلية المتداخلة والمتصارعة كلها جعلت منه بؤرة متوترة وعرضة للتأثر بما يجري في دول الجوار وغالبها دول في محيط ملتهب على الدوام. يدخل الإقليم بهذه المكونات الملتهبة في معادلة الأزمة السودانية وتكاد تكون أزمته هي دارفور.
ومن جانب آخر يذهب محللون إلى أن ما يجري ربما كان حصادا لسنوات من زراعة العنف واستغلاله من طرف الحكومة المركزية، وبالتالي نتجت أزمة مركبة تداخل فيها الإقليمي والجهوي والتاريخي، زاد منه الانحياز العنصري الذي مارسته الدولة المركزية بين المكونات القبلية. فالحرب الحالية أيا تكن نتائجها الختامية فسيكون لها أثر بليغ على الوضع في دارفور حرباً وسلما، وإن يكن الراجح أن علاقتها بالمركز لن تكون على ما كانت عليها قبل الحرب، خاصة على المستوى الاجتماعي، وهو الجانب الأكثر تأثيراً في مجريات الأحداث والأقوى في الواقع السياسي السوداني، حيث قوة المجتمع بطبيعة تكوينه أكبر من سطوة الدولة ومؤسساتها. فتأثير الحرب في دارفور بالنسبة لعدد ضحاياها، وما طال مدنها من دمار، وتجدد صراعاتها على التصنيف الجهوي، والنزوح الداخلي واللجوء إلى دول الجوار في أوضاع إنسانية رثة؛ تبقى الخشية أن يتحول الغضب الذي سبب تداعيات الحرب في الخرطوم إلى انتقام اجتماعي عنيف ضد مكونات دارفور الاجتماعية، في بلد تتباين فيه الانتماءات العرقية، وقد حدث إثر أحداث ومواجهات كثيرة في تاريخ البلاد السياسي أن دفع ثمنها مواطنو هذه المناطق المهمشة لا لشيء سوى انتمائهم لإقليم دارفور.
إن هوية دارفور كما تتجلى في الإنسان والمكان ستكون خاضعة لعدة تفسيرات في ظل الحرب المستعرة، ما سيزيد من تعقيدات مستقبل الإقليم ووضعيته في ظل سودان موحد، أيا تكن الصورة التي ستشكلها حرب البلاد الجارية وتضاؤل الأمل في سلام منظور. وعلى ما يبدو فإن الأزمة السودانية آخذة في التأرجح الحرج، بين خطاب قائد الجيش عبد الفتاح البرهان الذي خرج أخيراً للمرة الأولى منذ اندلاع الحرب بتصميمه على مواصلة الحرب حتى هزيمة التمرد، كما صرح، ورؤية قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو في تأسيس دولة سودانية جديدة على أسس جديدة على النظام الفيدرالي الديمقراطي، كما لو أن مستقبل البلاد أصبح رهيناً لإرادة الجنرالين. فالجديد في الواقع الدارفوري لم يختلف كثيراً عما عرف به الإقليم من مآسٍ لا تكاد تنتهي لتبدأ من جديد، مسرح من التراجيديا المستمرة يصورها الأدب كما في رواية (تخوم الرماد) منصور الصويم وتشكلها بعنف بندقية القتال.
كاتب سوداني
نشر بصحيفة القدس العربي اللندنية# عدد اليوم 06/09/2023م الأربعاء.  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الدعم السریع ما یجری

إقرأ أيضاً:

عمرو صالح يس: دولتي متطرف أو … في الفرق بين الدولة و الدستور

محمود المعتصم
مدونة ظَلام

عمرو صالح يس: دولتي متطرف أو ... في الفرق بين الدولة و الدستور

مقدمة:

يأتي هذا المقال في سياق بالغ التعقيد من الناحية النظرية والعملية. فمن الناحية العملية بلغ تعداد السودانيين النازحين من جراء هذه الحرب الملايين. ومن حيث القتل والتدمير فقد بلغ الامر من السوء أن خصصت الأمم المتحدة مجموعة لتقصي الحقائق خرجت ببيانات يندى لها الجبين في جرائم الحرب فقط ناهيك عن آثار الحرب التي لا تعتبر من جرائم الحرب وهي الأغلبية بطبيعة الحال. (ولا نقول إلا الحمد لله رب العالمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله). وبالمناسبة فإدعاء خالد عمر المعروف بخالد سلك بأن تقرير الامم المتحدة أثبت نظرية (جرائم ارتكبها كلى الطرفين) هو قول جزافي إذ جاء التقرير بفرق مقدار ونوع كبيرين بين منهجية ممارسات الدعم الاجرامية حسب القانون الدولي، والممارسات غير القانونية التي قام بها الجيش. وهو الامر الذي يعايشه السودانيون ويوثقونه كل يوم بسعيهم للتواجد في مناطق الجيش. وتجدر إذن قراءة تقرير الامم المتحدة لأن السياسيين السودانيين سيكذبون حوله كما هو واضح. على العموم نحن أمام مشهد مضطرب عمليا بصورة كثيفة.

وكذلك المشهد مضطرب نظريا. فمفاهيم ك (الدولة)، (التمرد)، (العنف)، (الانفصال)، (العرق)، إلخ. هي الان مما يتحرك على الأرض بصورة مسعورة. فهي كمفاهيم مجردة. فلسفية. تعيش اليوم وتتحرك على الارض سعيا نحو مواضعها النهائية. أقصى الممكن العملي فيها. وبالتالي فإن التنظير في هذه الحالة هو أشبه بمحاولة الركوب على حصان وهو في أثناء عدوه. مع ذلك يمكن للمرأ أن يروح عن نفسه هنا بفكرتين: الأولى هي ملاحظة أنه في أثناء تحرك كل الأفكار النظرية أثناء الحرب، وبصورة محمومة كما هو واضح، فإن الاستثناء هو (الديمقراطية). هذه وضعتها النخبة وبهدوء على الرف. بينما ناقشت كل ما سواها حتى عباطات (النهر والبحر). الأمر الآخر هو أنه من ناحية التحليل النظري فإن الحصان العادي هو وفي نفس الوقت الحصان الأجمل والأكثر جذبا للجمال الذي هو امتزاج التعقيد مع الوضوح.

ولذلك فنقول بسم الله و نبدأ. لكن قبل البدء وجب توضيح بعض النقاط:

١. كنت قد خضت نقاشات طويلة مع بعض الكتاب والمثقفين السودانيين الشباب من بينهم عمرو صالح يس حول فكرة (الديمقراطية) وجدت فيها نفسي وبصورة في الحقيقة مفاجئة جدا في موقع أقلية. حيث كانت النخبة السودانية قد تبنت فيما يبدوا فكرة المباديء فوق الدستورية - أقرأ الكتيب المنشور من قبل الحركة الشعبية - شمال أدناه، و أقرأ ردي عليه في هذا المقال:

قراءة نقدية لورقة المبادئ فوق الدستورية
MAHMOUD ELMUTASIM
·
13 يناير 2023
Read full story

كتيب المبادىء فوق الدستورية
1.97MB ∙ PDF file
Download
على العموم في نهاية هذه النقاشات وإدراكا مني لحدوث تغبيش كثيف لفكرة الديمقراطية في العقل النخبوي السوداني قمت بكتابة هذا المقال الذي يهمني أن يقرأه القاريء حتى يفهم الإطار التأسيسي هنا.

الديمقراطية كنظام تأسيس..
الديمقراطية كنظام تأسيس..
MAHMOUD ELMUTASIM
·
28 أبريل 2023
Read full story
٢. في أثناء هذه الحرب فأنا مع معسكر دعم السيادة الوطنية، أو أكثر من ذلك فأنا ضد قوات الدعم السريع كتهديد أجتماعي سياسي مرتهن للخارج. بمعنى أنني أقف في صف التيار الذي بات عمرو صالح يس في مقدمة المدافعين عنه بالكلمة (وبجهد معتبر وثبات بالحجة والتفصيل في الرأي عز في هذا الوقت العصيب حيث السوشيال ميديا و البلاهات والتهريج). وجب تثبيت هذه النقطة في البداية حتى لا يشكل الأمر على القاريء.

٣. غرضي من هذا المقال هو أعادة تذكير الناس بأسبقية الاستراتيجية على التكتيك. والمستقبل على الحاضر. وبالتالي النظرية على الممارسة. وهو أمر ربما يكون الآن مما قل مريدوه. وكسد سوقه. وأبيع في هذا الاطار بضاعتي بلا جزع ولا تمني. فأرجوا أن يكف عنا في هذا المجال أنصار بلاهات (تعال كاتل معانا، إنت قاعد في أمريكا إلخ) فذلك مما لا يعنيني في هذا الإطار. فمهمتي هي قول الحقيقة. وأرى أن القتل بالحقيقة أكثر أهمية الآن من القتل بالسلاح. (مع حفظ المقامات، فلا يمكن في أطار أخر، عقد أي مقارنة بين مكافح بسلاحه وحياته من أجل الوطن وبين منظر من الخارج، كل ما أقوله أننا في نطاقين مختلفين جذريا، ويحق للمثقف أن يطالب بهذا الفصل في أي وقت، بشرط التزامه قول الحقيقة ما استطاع).

أ. مشانق عمرو صالح يس: يعقوبي خالي ديمقراطية

عمرو صالح يس هو كاتب ومثقف شاب تعرفت عليه في أطار تواجدي في وسائل التواصل الإجتماعي في نطاقات المثقفين السودانيين الشباب الجادين مثل خالد عثمان الفيل، هشام عثمان الشواني، قصي همرور إلخ. وهو في خلال ثورة ديسمبر ظهر كأحد منظري فكرة (البناء القاعدي) حيث تبلور داخل هذه الفكرة تصور عمرو للمجتمع والدولة. مجتمع مدني منظم وقوي، يؤدي لدولة (تنموية) هي أساس الحل في المسألة التاريخية الإجتماعية المسماه (ما بعد الإستعمار).

مع بداية الحرب، أتخذ عمرو صالح يس موقفا واضحا في مساندة الجيش السوداني ضد قوات الدعم السريع المتمردة. وذلك أمر تشاركه معه أغلب السودانيون ربما. لكن مع أختلاف بسيط: عمرو نظّر وبصورة كثيفة في المنشورات الفيسبوكية لأن الوقوف مع الجيش هو أبتداءا وقوف مع (الدولة) و ليس ضد الدعم السريع فقط. مع (الدولة) كجهاز بيروقراطي، قومي، له عند عمرو صالح يس شرعية أمر واقع قطعية. وبالتالي فأكثر مما وضح موقف عمرو صالح يس هو رفضه لفكرة تعبوية ما تزال في بداياتها ممثلة في (نداء الوسط) وهو تداعي أقوام من أهل الوسط للدفاع عن نفسهم ضد الدعم السريع، بالتوازي مع الجيش وليس ضده لكن بشكل ربما مستقل تنظيميا. وهنا يكمن الفرق بين عمرو صالح يس (كدولتي Statist) وبين هؤلاء الشباب. فكلاهما (ضد) الدعم السريع. لكن وضح أنه حتى الموقف ضد الدعم السريع هو "خشوم بيوت".

في أطار أخر. ولأسباب مفهومة وواضحة، فإن العدو الرئيس بالنسبة لعمرو صالح يس. ك (دولتي) لم يكن قوات الدعم السريع بل الحركة الليبرالية اليسارية السودانية التي تحالفت كيفما اتفق داخل تكوينين هما ("قحت" ثم "تقدم") ربما بقيادة (حزب المؤتمر السوداني) وهو حزب وسط ليبرالي صعد كقوة سياسية معتبرة أبان ثورة ديسمبر. وأسبقية العداء لهذا التيار عند عمرو صالح يس، وهو محق في ذلك في رأيي، أن هذا التيار وفر الأرضية النظرية و الجيو-أستراتيجية التي مكنت الدعم السريع من تحويل تمرد معزول اجتماعيا (وكان من الممكن دوليا) لنزاع مسلح متطاول مسنود بجسر جوي عسكري من دولة الأمارات.

وتطور مع مرور الوقت، موقف هذه القوى (تقدم) ليصبح موقف تحالف ضمني مع الدعم السريع، حتى بعد ثبات ارتكاب الدعم السريع لعملية تطهير عرقي في غرب السودان في الجنينة. ومنهجية أنتهاكات القانون الدولي (ما يهمني هو انها انتهاكات لاعراف الحرب أما القانون الدولي ففي الحقيقة لا يهمني، وجب التنبيه). وبالتالي تطور موقف عداء عمرو صالح يس لهذه القوى. حتى وصل مؤخرا لدعوة ربما غريبة من حيث الشكل ب (اعدام) قيادات هذه القوى حال انتهاء الحرب بانتصار الجيش. وهي دعوة تجد صدى واسعا خاصة من قبل مناصري نظام المشير عمر البشير السابق العائدين حديثا للمشهد من بوابة مناصرتهم للجيش. وربما أيضا صدى واسعا عند عامة السودانيين ممن أذاقهم الدعم السريع مر العذاب وبالتالي أصبح موقفهم ضد (تقدم) راديكاليا بصورة مفهومة.

ذكرني موقف عمرو صالح يس لنمط من السياسة الجذرية كنت (ومازلت) أسعى لاستعادته. وهو منطق السياسة اليعقوبية في العنف الثوري. أقرأ مثلا هذه الورقة الأكاديمية الذي قمت بترجمتها قبل ثورة ديسمبر بوقت ما:

روبيسبيير أو (العنف المقدس) للإرهاب / ترجمة مقال لسلافوي جيجاك
MAHMOUD ELMUTASIM
·
13 يناير 2023
Read full story
فعمرو يطالب، من باب راديكالية الموقف العملي، وأثاره الجذرية العنيفة على عموم السودانيين، بإدخال العنف القانوني للدولة كجزء من عملية التأسيس. وهذا أمر أتفق معه فيه كما هو واضح من الترجمة في الاعلى و مقالي عن الديمقراطية كنظام تأسيس.

إلا أن ما نختلف فيه على ما يبدو، هو من يقرر شرعية هذا العنف التأسيسي. (أقترح على المهتم قراءة الورقة بالغة الأهمية لوولتر بينجامين حول نقد العنف)

فليس من الواضح، في دعوة عمرو للعنف السياسي - القانوني، كيف تتم هذه العملية. وليس من الواضح بالنسبة لي، مدى التزام عمرو بالدستورية (أو الديمقراطية) في هذه العملية. من ناحيتين:

أولا، إن صح أن عمرو من مؤيدي فكرة المباديء فوق الدستورية، فيفترض أن من أهم تلك المباديء فوق الديمقراطية هو الحق في التعبير والإعتقاد. بما في ذلك، كما أظن و إن اتسع صدر المشرع للمباديء فوق الدستورية أيا يكن، الحق في الاعتقاد ببلاهة فكرة الدولة. أو الحق في الاعتقاد في الدعم السريع. أو حتى الحق في الاعتقاد بعدم أهمية الروح الإنسانية ألخ من سيء المعتقدات التي يفترض أن الدستور يحميها حماية لحرية الضمير من ناحية جذرية. وبالتالي تكون مشانق عمرو صالح يس مفهومة فقط باعتبار أن "قحت" قد ارتكبت جريمة قانونية هي الخيانة الوطنية وهذه جريمة تحتاج لقانون مشرع بطريقة ما يفصل فيها. فليس كل علاقة مع دولة أجنبية هي خيانة وطنية حسب القوانين المختلفة للمجتمعات المختلفة. وبالتالي يجدر هنا التساؤل عن آلية عمرو لهذه المشانق. هل هي مما يسبق حتى المباديء فوق الدستورية؟ (ونعود لهذا السؤال لاحقا).

ثانيا، يتردد في صدى دعوة عمرو أسماء قادة عسكريين أقوياء يؤسسون "دولتهم" على مثل رغبة عمرو (وربما تحولها لرغبة شعبوية عامة). فيمن للواحد أن يتخيل صدام حسين مثلا معجبا بمثل مشانق عمرو. أو حتى المقاتلين الأسلاميين حاليا في كتائب البراء أبن مالك. فهذه الدعوة هي دعوة دولتية Statist قد تروق في عنفها لمؤيد الدولة، الديمقراطي، والمجرم (صدام حسين كان كذلك مؤيدا شرسا لفكرة الدولة، والنظام المصري المبالغ في العنف والإجرام كذلك، فالدعوة للعنف في هذا الاطار هي ليست نقية من هذه الشائبة بالتعريف وتحتاج لتوضيح كثيف).

ونأتي هنا ونحن بصدد مسألة بالغة الجدية كالعنف، للتفريق بين الدولة والدستور.

ب. إنه الدستور أيها الغبي

كان جيم كارفيل، وهو شخص مثير للتقزز بالمناسبة، قد وضع الشعار It is the economy, Stupid! كشعار لحملة بيل كلينتون الانتخابية الأولى في ١٩٩٢ والذي لاقى أستحانا عاما حتى بات أحد أهم الشعارات السياسية في تاريخ الانتخابات الأمريكية. وسر مقبولية الشعار هو أنه ذكر النخبة الأمريكية بأمر كانت قد نسيته في وقت وجب تذكره. وهذا هدف العنوان الجانبي (مع حفظي لحقي في ذكر حقيقة أن عمرو صالح يس غبي بدون أعتذار ههههه).

على العموم،

إذا أردنا أن نسائل موقف عمرو صالح يس الدولتي أكثر، وجب أن نزيحه عن وضعه المريح كموقف (ضد الدعم السريع) فهذه الحالة بالذات يسهل التبرير لها بأي تبرير. إن قلت أنني ضد الدعم السريع لأنني مرهف الحس صح هذا التبرير. أو لأنني أكره الفوضى. أو لأنهم مدعومون من دولة أجنبية ألخ. فمشاكل الدعم السريع كثيرة بالتالي يسهل الاختباء تحت ظلها.

لكن لفهم أشكالية موقف عمرو صالح يس. علينا أن نتخيل أن بدل الدعم السريع كان يخوض هذه الحرب عبد العزيز الحلو على رأس جيشه الشعبي لتحرير السودان. ويسعى عبرها لتحرير وطني يرسي من بعده وبصدق مبادئه الفوق دستورية. ما الموقف في تلكم اللحظة؟ هل ستقف فكرة الدولتية العمرو صالح ياسينية على نفس سيقانها في ذلك الوقت؟ وهذا الأمر قد حدث بالفعل في التاريخ السوداني. فقد كان العقيد جون قرنق قد خاض ضد الدولة السودانية حرب تحرير وطنية لقومه وحصل من الدولة السودانية، وبعد هزيمته لها، على حق الانفصال عنها. ويمكن للمرأ أن يتخيل حركة شعبية ماوية أكثر جذرية لا تقف إلا بعد أسقاط الدولة وبناء جمهورية شعبية على انقاضها. و مشروعية هذه الممارسات سيكون من المضحك مناقشتها بناءا على فكرة مجردة في محبة (الدولة). فمن الممكن كما هو واضح نظريا، السعي لتدمير الدولة لبناء دولة أفضل منها في مكانها. وهو الأمر الذي قامت به الشعوب بصورة مستمرة. ومشروعيته تناقش في إطار (أي الدولتين أفضل، القديمة أم الجديدة) أكثر منه عبر الدفاع بفكرة ال (الوضع القائم De facto or Default ) عن الدولة القديمة.

ثم يجدر السؤال كذلك عن مدى مشروعية الدولة السودانية الآن. وهي أمتداد في شكل جيشها وقائدها لدولة عمر البشير الانقاذية الشمولية (وغير الدستورية كذلك، باعتبار خرقها الدائم للدستور غير الديمقراطي نفسه). وبالتأكيد فليس لهذه الدولة أي مشروعية. وهو الأمر الذي قرره الشعب عمليا في ثورة ديسمبر. فهي بالفعل (دولة) من حيث جهازها البيروقراطي، ألياتها الأجتماعية التأسيسية Infrastructure (التعليم، الصحة، الطرق إلخ) لكن لا يعني ذلك أنها شرعية. فهنالك دولة شرعية. ودولة غير شرعية. (وجب التفصيل هنا، قد يقول عمرو أن ما تم الغاء شرعيته في ديسمبر هو السلطة "حزب المؤتمر الوطني" وليس الدولة، وقد يكون ذلك صحيحا باعتبار أن الجماهير طالبت بتدخل جيش الدولة، إلا أنه يمكن تخيل حراك ثوري أخر ضد جيش الدولة نفسه، وبالنسبة لي كان يكون ذلك مشروعا كذلك، مثلما حدث في سوريا او ليبيا).

ويحق بحق الدولة غير الشرعية الخروج عليها بالسلاح. فدولة الحكم التركي الغردونية كانت دولة غير شرعية يحق الخروج عليها بالسلاح. ودولة معمر القذافي في ليبيا كذلك. وسيكون من المضحك أن تجادل انسانا ليبيا ابان حكم معمر القذافي بأنه من ناحية مبدئية لا يجدر الخروج على طاغية مبالغ في العنف مثله بالسلاح. بينما يقوم هذا الطاغية باستعمال أجهزة (الدولة) في قتل سكان مدن باكملها. فذلك يكون من باب أن تطعم الانسان ولا تدعه ياكل من خشاش الارض.

أذن فالنقاش فيما يخص الوضع الراهن (الجيش ضد الدعم السريع) هو ليس نقاش مبدئي. (لو كان الدعم السريع تنظيما ديمقراطيا جذريا لكنت أنا أول مؤيديه، وبصورة عامة ليس عندي أي مأخذ على الثورات المسلحة من حيث المبدأ بداية بالثورة الفرنسية وصولا للحرب الأهلية الصينية بقيادة ماو). بل هو نقاش تكتيكي واقعي (يجب أن نقف مع الجيش، الذي يمثل الدولة غير الشرعية، لأن المهدد الآن هو شيء أسوأ، يهدد الأمن الاجتماعي ويهدد برهن مصيرنا للاجانب). وفي هذا النقاش التكتيكي هنالك أذن مسارات عدة ممكنة (كنت في معرض مقالي عن الديمقراطية كنظام تأسيس قد قلت أن مثل مقالي ينفع لحالات الحرب كذلك، يمكن قراءته)، واحدة منها مثل تنظيم (نداء الوسط) ونقد هذه المسارات يكون بنقد تفاصيلها: هل أجادت العمل وأحسنت النية (النظرية) أم لا. وليس بفكرة الدولة التي لا ترى غير طريق واحد لخوض هذه الحرب.

ثم ماذا لو هزم الجيش. يبدو أن عمرو صالح يس يريد أن يسلمنا كسودانيين مسدسا بطلقة واحدة. فيبدو لي أنه إذا حدث و إنهزم الجيش فليس لدى عمرو صالح يس لنا كسودانيين أي خيارات أخرى. فالرب الذي هو الدولة قد مات. وتلك حالة متطرفة في التوسل بالوضع الراهن غير تاريخية. ولو كان الأمر كذلك لكانت نهاية المجتمع السوداني قد حدثت حوالي العام ١٥٠٤م على يد عبد الله جماع وعمارة دنقس.

ج. الفرق بين الدولة و الدستور:

لأن عمرو صالح يس غير مؤمن بالديمقراطية. (ولأن كل الحالات الدستورية الأخرى باتت غير ممكنة: الملكية، دولة الحزب الاشتراكي الواحد، الدولة الاسلامية) فيجد عمرو صالح يس نفسه خاليا من الدستور كملجأ من حر هذه الحرب. وبالتالي يستجير بمفهوم (الدولة) عبر تحويلة بصورة تكاد تكون كوميدية لمفهوم شبه-أخلاقي. فلكي يضع الواحد منا الدستور كعنصر مؤسس يمكن خوض الحروب تحت ظله، سيجد الانسان نفسه متورطا ربما في الفكرة الدستورية الوحيدة الممكنة اليوم وهي الديمقراطية.

و الكوميدية في تصور عمرو ليست في مفهوم (الدولة) نفسه. فهيغل مثلا نظر للدولة كتكوين روحي جامع (يقوم تحديدا عبر الحرب، وهذه النقطة قد تعجب عمرو)، ولكن لفصله (أي عمرو) مفهوم الدولة (البيروقراطية، الآلية أو المادية يمكن القول صاحبة ال Infra-Structures) عن أصلها الروحي (الشرعية) في الدستور. فدولة عمرو صالح يس هي دولة مثل هذه التي يقودها البرهان، دولة كيفما اتفق، ثم يريد عمرو أن يحولها لشيء روحي. وذلك ممكن أثناء حرب شعواء عبر مشاعر شخص قلق. لكنه حال التفكير فيه بروية سيبدوا مضحكا.

ما يمكن الإجماع حوله. والإلتزام به روحيا. هو الدستور. وتحديدا في هذا الإطار، الدستور الديمقراطي. وليس الدولة.

وستجد في الدستور الديمقراطي الأمريكي، مثلا، تبيانا لتناقض الدولة و الدستور: فالدستور بصفته المؤسس (الذي بحقه البيعة، وهي في عرف المسلمين ميثاق الانسان تجاه السلطة) يقسم الدولة لثلاثة أقسام يضع كل منها ضد الأخر تراقبه. و الدستور، يجهز الشعب بالسلاح كحق أعلى وجب رفعه ضد الدولة حال خروجها عن حقها في تطبيق الدستور فقط. على طريقة لقومناك بسيوفنا. فالدستور أبتداءا ينزع الشرعية المطلقة من الدولة ومن تهديدها للناس بالعنف جزافا. ويجعل الشرعية بالمطلق داخل التقرير الديمقراطي الذي هو تقرير الشعب في صورة الدستور المجاز في فيلاديلفيا في القرن الثامن عشر بالأغلبية.

وقد يرد قائل بفكرة (أمريكا البتعبدوها دي) أي أن امريكا ليست نموذجا يحتذى. (وهي عندي نموذج في الديمقراطية يحتذى ولست رهينا للغرب جزافا مع ذلك و الحمد لله). لكن لمثل هؤلاء فسأقول بانكم عبدتم امريكا دي في كل حاجة، ما بقت على الديمقراطية يعني: حتى الحركة الاسلامية السودانية تشدقت لنا بثورة التعليم العالي الحديثة. فادعاء الجذرية في رفض النموذج الامريكي-الغربي عندنا هو كذب عموما. وربما لخير فالنموذج الأخر (الصين) اليوم، رغم محاسنه العديدة، فهو من ناحية أخرى تهديد لحريتنا كمجتمع حقيقي جدا.

خاتمة:

نحن قوم أعزنا الله بفكرة الديمقراطية. و الدستور الديمقراطي. و متى أبتغينا العزة في غيره أذلنا الله.

في هذه الحرب، فكل عمل يهدف لاستعادة حق الناس الديمقراطي في حكم انفسهم. الحق الذي انطلقت به ثورة ديسمبر، أستعادته أولا من عصابات الدعم السريع العشوائية الجهوية المرتهنة للخارج، ثم من العناصر ضد الديمقراطية داخل الجيش ايا كانت، كل عمل يهدف لذلك هو حق. و أستراتيجيا هو عمل بناء. إن كان مسلحا أو غير مسلح. عبر أجهزة الدولة أو خارجها. أما أمثال عمرو صالح يس فهم في نهاية التحليل أدوات سلطوية، ستجد في نهاية الأمر مستبدا عادلا كاغامي (نسبة لبول كاغامي أكبر جهابذة الدولتية Statists الافارقة) ما لتؤيده وتجرعنا غصص السعادة من أعلى. من أعلى هنا تعني من أعلى أبراج الدولة السلطوية الجميلة.

نأتي ربما في وقت أخر لنقترح بعض الأمور للتشكيلات النيرة مثل نداء الوسط لتجويد عملهم ليس بالديمقراطية الدستورية فقط بل بالديمقراطية الواقعية (التشاركية - التعاونية - التنظيمية) فالحروب هي ظروف جذرية في الشدة يظهر في داخلها أحيانا الخلق.

و قل اللهم مالك الملك، تؤتي الملك من تشاء، وتنزع الملك ممن تشاء.

كاتب سوداني - شيوعي - أفريقي

mahmoud.elmutasim@gmail.com  

مقالات مشابهة

  • وطن الإنسان هنأ ترامب وأمل أن ينعكس انتخابه سلاما على لبنان
  • تقرير: المتفجرات التي أسقطت على قطاع غزة أكثر مما ألقي خلال الحرب العالمية الثانية
  • المتضررون في حرب لبنان: من سيعوضنا؟
  • "المجاهدين": إقالة غالانت لن تمحو العار والهزيمة التي تلاحقه
  • أبرز شركات الطيران التي علقت رحلاتها للمنطقة بسبب الحرب الإسرائيلية
  • القوات دان الحملة على الجيش: محاولة للانقضاض على آخر المؤسسات التي تعطي أملا للبنانيين
  • مصر تعيش أجواء الهزيمة.. فما الحرب التي خاضتها؟
  • عمرو صالح يس: دولتي متطرف أو … في الفرق بين الدولة و الدستور
  • إبراهيم عيسى: مصر الدولة الوحيدة التي أنقذت فلسطين ووقفت ضد تصفية القضية
  • الانتخابات الأمريكية.. البورصة الدولية التي تنتظر حبرها الأعظم