توجهت الأنظار جميعها إلى القمة التي جمعت بين الرئيسين فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان في مدينة سوتشي الروسية الاثنين الماضي. كان الكثيرون يترقبون نتائج متعلقة بقضايا ذات أهمية كبيرة، في مقدمتها اتفاق تصدير الحبوب عبر البحر الأسود، الذي انسحبت روسيا منه في تموز/يوليو الماضي.

سقف التوقعات

لم يكن سقف التوقعات بشأن القمة مرتفعة من البداية؛ إذ كان الموقف الروسي تجاه اتفاق تصدير الحبوب واضحا وثابتا إلى حد بعيد، ولم تكن العلاقات بين تركيا وروسيا في أفضل أحوالها مؤخرا؛ بل يمكن وصفها خلال الأسابيع القليلة الماضية بأنها تأرجحت بين الفتور والتوتر، بدون أن تصل إلى مستوى الأزمة.

نقلت تركيا ملف انضمام السويد إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) إلى البرلمان للنقاش، وذلك بعد موافقتها في مارس/آذار الماضي على انضمام فنلندا للحلف. ومع تصريحات أردوغان حول إمكانية مناقشة عضوية أوكرانيا في الحلف، وتسليمه لضباط كتيبة آزوف للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، أثارت هذه الخطوات استياءً في موسكو، التي بادرت بتوجيه رسالة تعبيرا عن استيائها و/أو استنكارها لأنقرة.

لم يكن متوقعا أن يستطيع الرئيس التركي إقناع نظيره الروسي بعودة بلاده للاتفاق السابق بنصوصه السابقة وتطبيقاته المعروفة، وإنما كان الأرجح التوصل أو التمهيد لاتفاق معدّل أو مطوَّر أو مكمّل للسابق أو حتى اتفاق جديد مختلف كليا.

تأجيل الزيارة التي كان يفترض أن يقوم بها بوتين لتركيا في أغسطس/آب الفائت ثم تحويلها لزيارة للرئيس التركي إلى سوتشي في الشهر الجاري؛ كان أحد التعبيرات الروسية عن العتب/الغضب إزاء أنقرة. يضاف لذلك الانسحاب من اتفاق تصدير الحبوب والذي وإن كان موجها في الأصل ضد أوكرانيا والدول الأوروبية، إلا أن من زاوية ما كان رسالة لأنقرة كذلك التي لعبت دور الوسيط فيه وأقنعت موسكو سابقا بالعودة له أكثر من مرة.

كما سبق لروسيا أن اتهمت تركيا بانتهاك اتفاق تبادل الأسرى بعد تسليم ضباط آزوف إلى زيلينسكي خلال زيارته لأنقرة. وقد اعتبر البعض أن قصف المصانع الأوكرانية التي تُصدر إلى تركيا قطعا تستخدم في الصناعات العسكرية هو بمثابة رسالة مبطنة إلى أنقرة. وبنفس السياق، فُسِّرَ تفتيش السفينة التي كانت متجهة إلى الموانئ الأوكرانية في الشهر الماضي -رغم أنها كانت تحمل علما غير تركي، وتعود ملكيتها لشركة تركية- كرسالة أخرى من روسيا.

ولذلك، لم تكن التوقعات مرتفعة بشأن نتائج اللقاء الذي توقع الكثيرون أن يتطرق فيه إلى العديد من القضايا، وعلى رأسها مسألة عودة روسيا إلى اتفاق تصدير الحبوب. ورغم أن أردوغان ذهب إلى سوتشي وهو متمسك بأمل استعادة الاتفاق -الذي يعد "جسرا للسلام" في البحر الأسود ولا تقتصر أهميته على العائدات الاقتصادية ولكنه يُعد أيضا وسيلة لتخفيف التوتر في المنطقة- فإن بوتين ظل متمسكا بموقف بلاده الذي يطلب ضمانات حقيقية وليس مجرد وعود للعودة إلى الاتفاق.

عودة الدفء

ولذلك، وبالنظر لكل ما سبق، لم يكن متوقعا أن يستطيع الرئيس التركي إقناع نظيره الروسي بعودة بلاده للاتفاق السابق بنصوصه السابقة وتطبيقاته المعروفة، وإنما كان الأرجح التوصل أو التمهيد لاتفاق معدّل أو مطوَّر أو مكمّل للسابق أو حتى اتفاق جديد مختلف كليا.

وعند قراءة سريعة لمخرجات القمة الروسية-التركية على المستوى الرئاسي، نجد أن الملفات التي تم مناقشتها كانت عديدة، ولكن الملفين الأبرز بينها هما: ملف عودة روسيا لاتفاق تصدير الحبوب، وهو الملف المعلن، والملف الضمني وهو العلاقات بين تركيا وروسيا.

وعلى مستوى العلاقات الثنائية، واستنادا إلى تصريحات الرئيسين خلال المؤتمر الصحافي المشترك والمؤتمر المشترك لوزيري الخارجية من البلدين قبل أيام، نلاحظ أن الدفء قد عاد إلى العلاقات بين البلدين إلى حد ما، رغم أن الأمور لم تعد بالضرورة إلى ما كانت عليه قبل أشهر.

وكانت اللغة التي سادت في المؤتمر المشترك بين فيدان ولافروف إيجابية جدا فيما يتعلق بالعلاقات بين البلدين، رغم أنها لم تعطِ إشارات قوية بشأن التوصل لاتفاق محدد. ونفس الأمر تكرر في المؤتمر المشترك بين بوتين وأردوغان. أما بالنسبة للحديث عن تطوير العلاقات الاقتصادية، التجارية، السياحية والملفات الأخرى المتعلقة بالعلاقات الثنائية، فكان متميزا وبنبرة متفائلة، مما يشير إلى وجود إرادة سياسية قوية من الجانبين للتطوير وتعزيز العلاقات.

أكثر من ذلك، فقد حملت كلمة أردوغان المقتضبة في المؤتمر الصحافي وردوده على الأسئلة تأكيدا وتأييدا للسردية الروسية، فيما يتعلق بتحفظاتها على تطبيق اتفاق تصدير الحبوب بخصوص التوزيع والعقوبات الروسية، وكذلك بدعوته أوكرانيا "لتليين موقفها" واتخاذ خطوات بالتوازي مع الخطوات الروسية فيما يرتبط بتصدير الحبوب.

أما ما يتعلق باتفاق تصدير الحبوب، فلم يقتنع بوتين بالعودة له على حاله السابقة، وهو أمر كان متوقعا كما أسلفنا، ولكن ذلك لا يعني استحالة التوصل لاتفاق ما بهذا الخصوص.

فقد تحدث الرئيس التركي عن مقترحات صاغتها بلاده بالتعاون مع الأمم المتحدة وسلمتها لروسيا، وهذه المقترحات تتضمن حلولا للتحفظات الروسية حول تطبيق الاتفاق. أما الرئيس الروسي، فتحدث عن نموذج للتعاون مع تركيا وقطر لتصدير الحبوب كهبة لبعض الدول الأفريقية الفقيرة التي تحتاج إليها.

ومن الواضح أن بوتين أراد من خلال النموذج المذكور إرسال رسالة إلى الغرب، الذي حصل على الحصة الأكبر من صادرات الحبوب بينما كان من المفترض أن تحصل عليها الدول الأفقر. وهو يؤكد على استعداد بلاده وقدرتها على اتخاذ بدائل عن الاتفاق القديم بدون الحاجة للعودة إليه. لكن الأهم من ذلك كله هو أن هذا النموذج قابل للتكرار مع تفاصيل تقنية مختلفة. ومع أن أردوغان لم يكشف عن طبيعة المقترحات التي قدمها للجانب الروسي أو تفاصيلها، فإنه من المؤكد أن هذه المقترحات تهدف إلى إعادة روسيا للتعاون في ملف تصدير الحبوب، وإن كان تحت عنوان أو اسم مختلف، ولكن بنفس الفلسفة، أي المساهمة في التصدير وتقديم ضمانات أمنية لأوكرانيا.

ولذلك، نقول إنه ما زال بالإمكان التوصل لتفاهم أو اتفاق ما مع روسيا؛ ليس بالضرورة قريبا جدا، لكن ما زالت أنقرة قادرة على لعب دور الوسيط في هذا الملف، ونقل الآراء بين كييف وموسكو اللتين زارهما وزير خارجيتها على التوالي في الأيام القليلة الماضية وسمع لمطالبهما وموقف كل منهما.

من جهة ثانية فقد تراجع حضور الملف السوري نسبيا في القمة، أو بشكل أدق في المؤتمر الصحافي للرئيسين. ساهم في ذلك انشغال روسيا في الحرب الأوكرانية، والتطورات الميدانية الأخيرة في سوريا، ومرور الانتخابات التركية، والفتور الذي ساد مؤخرا العلاقات بين أنقرة وموسكو وغيرها من العوامل. حتى نبرة فيدان وهو يتكلم عن النظام السوري تغيرت إلى حد كبير وكانت حازمة ومباشرة لدى الحديث عن "توقعاتنا من الحكومة السورية" التي لا تراجع عنها. ورغم ما سبق، فإن خطوات سياسية إضافية تجاه النظام السوري قد ترى النور في المدى المتوسط، لا سيما إذا استمر المسار الإيجابي للعلاقات بين روسيا وتركيا.

وبشكل مشابه، فقد تناول المؤتمر الصحفي لبوتين وأردوغان ملفات أخرى ذات اهتمام مشترك للبلدين ويمكن لهما التعاون فيها، وفي مقدمتها ليبيا وجنوب القوقاز وكذلك مكافحة المنظمات الإرهابية والانفصالية في الشمال السوري المتحالفة ميدانيا مع الولايات المتحدة.

في الخلاصة، وإن بدا بأن القمة التي جمعت الرئيسين بوتين وأردوغان في سوتشي لم تقدم مخرجات ملموسة في الملفات المدرجة على جدول أعمالها وفي مقدمتها تصدير الحبوب، إلا أنها ساهمت بشكل ملحوظ في إذابة الجليد بين الجانبين، وفتحت الباب على مسار إيجابي ممكن في العلاقات الثنائية مستقبلا، فضلا عن أنها مهدت الأرضية لإمكانية التوصل لاتفاق ما بخصوص تصدير الحبوب في المدى المنظور.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معناوظائف شاغرةترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssجميع الحقوق محفوظة © 2023 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: اتفاق تصدیر الحبوب بوتین وأردوغان العلاقات بین فی المؤتمر ما کان

إقرأ أيضاً:

كايا كالاس: نتوقع اتفاق دول الاتحاد الأوروبي حول تمديد العقوبات على روسيا

بروكسل – رجحت رئيسة الدبلوماسية في الاتحاد الأوروبي كايا كالاس التوصل إلى اتفاق بين دول الاتحاد الأوروبي بشأن تمديد العقوبات ضد روسيا خلال اجتماع وزراء الخارجية اليوم الاثنين.

وأعربت عن ثقتها في أن قرار تمديد العقوبات سيتم اعتماده، كما أشارت إلى أنها سعيدة بأن الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب، وفقا لكلامها، “يمارس ضغطا على روسيا”.

وكانت هنغاريا قد هددت سابقا بحظر تمديد العقوبات بسبب توقف نقل الغاز الروسي عبر أراضي أوكرانيا، إلا إذا استأنفت أوكرانيا نقل الغاز وتوقفت عن مهاجمة خط أنابيب “التيار التركي” والتزمت بمواصلة نقل النفط، مما خلق توترا في المناقشات بين الدول الأوروبية. ومع ذلك، وبحسب تصريحات كالاس، يتوقع أن يتم التوصل إلى إجماع وأن يتم تمديد العقوبات ضد روسيا.

تبقى هذه القضية عنصرا مهما في سياسة الاتحاد الأوروبي تجاه روسيا، خاصة في ظل استمرار الخلافات والتوترات في العلاقات بين الغرب وموسكو.

يذكر أن زعيم حزب “الوطنيون” الفرنسي فلوريان فيليبو، اتهم رئيسة الدبلوماسية الأوروبية كايا كالاس بمحاولة ترويع المواطنين الأوروبيين وتأجيج الكراهية ضد روسيا لتبرير إرسال قوات إلى أوكرانيا.

المصدر: نوفوستي

مقالات مشابهة

  • كايا كالاس: نتوقع اتفاق دول الاتحاد الأوروبي حول تمديد العقوبات على روسيا
  • روسيا والصين يبحثان سبل التعاون الغنية في 2025
  • جناح عُمان بمعرض الكتاب يشهد توهجاً للعلاقات العمانية المصرية والفنون التقليدية العُمانية
  • “يتحول” فيها ترامب إلى بوتين.. طرح “دولارات” فريدة للبيع في روسيا
  • ترامب يأمل في لقاء قريب مع بوتين: خطوة نحو حوار مشترك؟
  • «صورة ترامب تتحول إلى بوتين».. دولارات فريدة معروضة للبيع في روسيا
  • الكرملين: موقف اليابان تجاه روسيا غير ودِّي
  • الكرملين: موقف اليابان تجاه روسيا غير ودي
  • الأمم المتحدة تؤيد أي مفاوضات محتملة بين بوتين وترامب
  • أي إطار للشراكة الاستراتيجية سيجمع بين روسيا وإيران؟