"فاسلم أبا قابوس" للقاضي عيسى بن صالح الطائي.. جماليات البناء الفني وتشكّلات الصورة الشعرية
تاريخ النشر: 6th, September 2023 GMT
ناصر أبوعون
في مطلع شمس العقد الرابع من القرن العشرين، كانت بريطانيا الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس تُلملم كبرياءها، وتأذن بالرحيل وينضوي شعاعها خلف جدران المستعمرات التي انتفض أحرارها، ويتقلص قميص استبدادها الأبيض الذي أجلس أوصياءه ووكلاءه ومصاصي مقدرات الشعوب ولصوص كنوزها على صدر حضارات خبا ضوؤها وانطفأ سراجها تحت أقدار سُنَّة الاستبدال وفلسفة تداول الأيام بين الناس التي أقرّها خالق الكون في قرآنٍ يُتلى إلى يوم القيامة.
وفي تلك الأيام التي خلت، كان السلطان السيد سعيد بن تيمور يُجابه صراعات تتنازع مُلكَ أجدادِه، وتُسيم شعبه هوان الإفقار المُتعمّد لإخراجهم من وطنهم بحثًا عن أرزاقهم، وتتنازع عرشه "الممّلك بالحسام وبالندى" بين "الإمامة" في الداخل، ومستعمِرٍ بغيض يفرض وصايته ويلوح بـ"شركة الهند الشرقية"؛ تلك العصا الغليظة التي رفعها في وجه الأحرار في آسيا وحواضر الخليج العربيّ، واستخدمها في فرض سياسات بريطانيا الإمبريالية قسرًا على الشعوب المطلة على المحيط الهنديّ ومنافذه البحرية، وتحوّلت في أيدي تُجَّار لندن الجشعين إلى إعصار هادر يجرف في وجهه كل الحكّام والسلاطين الوطنيين الشرفاء الذي تصدوا لعجرفته، ولم تنكسر أنوف عزتهم تحت سطوة جبروته.
بشارة قابوس
في هذه الحقبة الاستثنائية من مسيرة عُمان داخل حركة التاريخ الإنسانيّ وتحديدا يوم الثامن عشر من نوفمبر عام ألف وتسعمائة وأربعين جاء إلى الدنيا وريثُ مُلك أُسْرة البوسعيديين ومُجدد أمجادها، وخليفة السلطان سعيد بن تيمور على عرشه؛ قَدَرًا مقدورًا وعلامة فارقة في تاريخ الخليج العربيّ، ليقود حركة التغيير وتبديد جاهلية القرن العشرين بسيف الحرية والعدل والمُساواة، ويدير دَفّة سفينة عُمان إلى المسار الصحيح، ويُبحر بها صوب عصر الحداثة. وفي هذا المعنى يقول الشاعر القاضي عيسى الطائي: [(فبيومِ مولدِه عُمانٌ أشْرَقَتْ // وحَنَادِسُ الظَّلْمَاءِ صِرْنَ شُمُوسَا)].
في هذا اليوم الفارق من تاريخ سلطنة عُمان، أشار الشيخ العلّامة إبراهيم بن سعيد العَبريّ المُفتي العام على السلطان سعيد بن تيمور بتسمية المولود الجديد (أحمد) إحياءً لذكرى المؤسس الأول للدولة البوسعيدية أحمد بن سعيد البوسعيدي (1744-1783) والمُلقّب بـ"المتوكّل على الله"، إلّا أنَّ الشيخ القاضي عيسى بن صالح الطائي قاضي قُضاة مسقط ومستشار السلطان المُقرّب والمُؤتمن، كان له رأيٌّ آخر، أوحت به إليه فراسة العابد النَّاسك التي لازمته منذ نعومة أظفاره حتى قضى نحبه؛ فقد ارتأى أنّ إطلاق اسم (أحمد) على نجل السلطان قد يكون فألًا غير حسنٍ، وإيذانًا بتقويض أركان دولته (إذا ما كان أحمد هو المفتتح والمبتدأ، فربما يكون أحمد هو الختام والمنتهى)؛ فأسدى إليه النُّصْح باختيار اسم لا نظير له في عصره وزمانه ليكون عَلَمًا يعلو به ذِكرُه، وبشارةً يسمو بها شأنه، وأصالةً تعظُم بها هِمّته. فانتهى الرأي بالسّيد سعيد إلى اختيار اسم "قابوس" المُشتق من الفعل "قبس" عَلَمًا على وريث عرشه، ورافعًا راية أجداده، وقادحًا شرارة الحضارة وباعثًا للأمة العُمانية، بعد أنِ استنامها المستعمرون وأخمد جذوة هِمتها الساسة المتصارعون. وقد أشار شاعرنا الطائيّ إلى هذا المعنى قائلًا: [(هو نجلُ أقيالٍ وشِبْلُ قَسَاورٍ // اللهُ يحفظُه وذاكَ الخِيَسَا)].
قابوس المعنى والدلالة
وفي تلك الأيام كانت أحوال عُمان أشبه بحال الكليم موسى- عليه السلام- في رحلة عودته إلى مصر ومعه زوجه ابنة النبيّ شعيب- عليهما السلام-، قافلًا إلى موطن ولادته وموطئ رسالته، ليقود حركة التغيير والتحرير ويهدم حائط الجمود والسكونية التي أصابت بني إسرائيل وغشيتهم أمدًا طويلًا تحت سطوة فرعون ونير استبداده، فلمّا ضلَّ الطريق ذات ليلة شاتية قاسية البرد "إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} [طه: 9-10]. ومن ثَمَّ كان اشتقاق الاسم (قابوس) من (القبس) بشارةً بانفراجة قريبة على شعب عُمان والانتقال بهم من الأعصر المظلمة إلى عصر التنوير، وإيذانًا ببزوغٍ جديد لشمس الحضارة العُمانية التي غابت طويلًا خلف جدران الصمت التي ضربها المستعمرون ووكلاؤهم على خارطة الشرق الآسيويّ والعربيّ لاستباحة ثرواته، واستغلال مقدراته. وفي هذا المعنى يقول الشيخ القاضي عيسى الطائي: [(ولقد شفى الأحشاءَ من بُرَحَائها // نبأٌ بمولودٍ دُعِيَ قابوسَا)].
ثُمّ إنَّ بشارة هذا الاسم الذي أطلقه السلطان سعيد بن تيمور على وريث عرشه حازت الشرف والسؤدد من طرفين، فضلًا عن عراقة أصله "اليعربيّ". أمّا الطرف الأول؛ فكان باشتقاقه من المعجم القرآنيّ؛ في قوله جلّ في علاه: "لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ" للتأكيد على عروبته لُغةً واصطلاحًا. وأما الطرف الآخر فكان باقتباس من اسم ملكٍ مسلم ذاع صيته وتمثُّلا بالملك "قابوس بن وشمكير أبي طاهر بن زيار بن وردان الديلمي الجبلي هو رابع ملوك أسرة (آل زيار)" الذي اعتلى سُدّة الحكم على "طبرستان وجرجان" عام 367 هـ" ولقّبه خليفة بغداد بـ"شمس المعالي". وقد أَصَّل شاعرنا القاضي عيسى الطائي هذه الدلالة النَّسْبيّة للسلطان قابوس- طيّب الله ثراه- في قوله: [(فرعٌ تحدر من ذؤابة يعربٍ // فيه نؤمّل كل جرحٍ يُوسى)].
فاسلم أبا قابوس
فلما دارت على الألسنة أخبار مولد وريث العرش قابوس بن سعيد في صلالة، عجّت المجالس بذكره، وطيّر الأعيان من كل الولايات بريدهم إلى مسقط للتهنئة بمقدمه، وارتقى الخطباء المنابر، ودعوا لله وحمدوه على عظيم فضله، وصدح الشعراء فأشادوا بعريق نسبه وأصله، وتباروا في عقد المساجلات وارتجال القصائد يتسابقون في مدح سلالته والاستبشار بوفادته. ودُعيَ شاعرنا الشيخ عيسى بن صالح الطائي قاضي قضاة مسقط إلى الإدلاء والمساجلة بين حشد من العلماء والرشداء سنة 1359هـ/1940م فأنشأ مرتجلًا على "بحر الكامل" قصيدته المعنونة بـ"فاسلمْ أبا قابوس"، وكان ذلك قُبيل وفاته بأربع سنوات. وقد نقلها لنا الشيخ الخصيبي في (شقائق النعمان: 3/201).
سمات شعرية الارتجال
عند دراسة هذه القصيدة سيعثر الدارس على ملامح خاصة تنماز بها شعرية الارتجال والمساجلة اخْتصّ بها شعراء هذا العصر، وتبدّت ملامحها جلية في قصيدة القاضي عيسى الطائي، وأبانت عما انطوت عليه قريحته الشعرية من طاقة إبداعية عالية ومخزون تراثي ثرّ من الألفاظ البسيطة المتداولة. وفي تحقيق هذه الغاية التي يأنس إليها كل شاعر وناثر، يقول عبد القاهر الجرجاني في كتابه (أسرار البلاغة): "إن الألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجردة، ولا من حيث هي كلِمٌ مفردةٌ، وأن الفضيلة وخلافها في ملائمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها، وما أشبه ذلك، مما تَعَلّق له بصريح اللفظ". وخلافًا لهذا نجد الشاعر يستخدم (إيقاع الخبر والإنشاء)؛ إذ بمطالعة القصيدة نجد حركية الإيقاع تتأثر باختلاف وأنواعية الخبر والإنشاء على مدار النص؛ بل نرصد تصاعدًا أو نزولًا للانفعال الوجداني، وفق دوران العاطفة في فلك المعاني؛ بل إن التغاير بين أساليب النداء والاستفهام والإخبار، والمزاوجة بين الخبر والإنشاء، يثري الدلالات ويستقطب القارئ ويجعله يشاركه أفكاره.
ومن هذا المنطلق تمكّنّا من رصد 4 سمات انمازت بها قصيدة الطائي المرتجلة في التهنئة بمولد وريث عرش دولة البوسعيد من بعده أبيه السيد سعيد؛ وهي:
(أ) ألفاظه مشحونة بطاقة انفعالية وحمّالة أوجه للعديد من الإيحاءات والدلالات تنقل المستمع معها إلى جوّ نفسي صادق يتفصَّد بالمعاني، ويحيل إلى مضامين مفتوحة على عوالم شتى من التأويل والمجازية المفرطة. وهنا نسوق مثالا من بديع ما جادت به قريحة الطائي من تعبير شعريّ يشعّ بالطاقة الانفعالية الصادقة في متضمنا في قوله: [(أبشرْ بِشِبْلِكَ إنَّه سيكونُ إنُ // شَاءَ الإلهُ على النفيسِ نَفِيسَا)]
(ب) المباشرة في توظيف الألفاظ للتعبير عن المعاني المطروقة والمتداولة بين الناس، ولكنه نجح في تلبيسها أردية الشعر، فأخذت المستمعين إلى المعنى المراد إظهاره دون عناء البحث فيما وراء المعاني، أو التأويل لما هو معروف. وفي هذا الاتجاه نرصد قول الطائي الذي يبدو من ظاهره معنى شعبيا متداولا على ألسنة الناس ويردده الخطباء فوق المنابر؛ لكنه انتقل به من خانة الشائع المطروق إلى جملة مجازية مشحونة بطاقة شاعرية عالية: [(اللهَ نسألُ أنْ يقيهِ مِنَ الرَّدى // ويقيهِ أيضًا من دَهَا إِبْلِيسَا)].
(ج) البراعة في توظيف اللغة والانتقال من "التلميح" إلى "التصريح" والاتكاء على الفعل الماضي في التأكيد على مراده، وإيصال رسالته، عبر استراتيجية الحوار الظاهر والمضمر بين حنايا القصيدة على نحو ما نجده في قوله: [(إنّي تركتُ الشِّعرَ لكنْ فضلُه // قد هاجَ فيَّ منَ القريضِ رَسِيسا)].
(د) جاءت اللغة الشعرية في قصيدة القاضي الطائي قريبة من الأذهان لا تتوسل بالمتقعِّر أو الوحشيّ من الألفاظ، وتنوعت أساليبها ما بين الخبر والإنشاء، واعتمدت البساطة والسهولة منهجا في مخاطبة السامعين لتقريب الأفهام من المعاني المقصودة. وتصدُق هذه السمة مع ما جاء في كتاب (الصناعتين، ص 73 لأبي هلال العسكريّ) مؤكد "أنّ أجود الكلام ما يكون جزلا سهلا لا ينغلق معناه، ولا يُسْتَبهم مغزاه، ولا يكون مكدودا مُستكرهًا، ومتوعرًا متقعرًا، ويكون بريئا من الغثاثة عاريا من الرثاثة"، ومن هذا المعنى أنشد شاعرنا: [(يا أيُّها المَلكُ المُعَظّم مَنْ لَه // تُحْدَى الرَّوَاسِمُ يَا أبَا قَابوسَا)، (يَا أيّها المُمَلَّكُ بِالحُسَامِ وبِالنَّدَى // وسَديدِ رَأْيٍ أنتَ لا بِلْقِيسا)].
أنماط تشكُّل الصورة الشعرية
وإنْ كانت هذه القصيدة من شعرية المناسبات والمرتجلة إل أنّ الشاعر قد راكم فيها تلالا من الصور الشعرية التي يتوقف أمامها النقد بالفحص وبالدرس، ويشتغل على تفكيكها واستكناه معانيها، فهي في النهاية "رسم قوامه الكلمات، وإن الوصف والمجاز والتشبيه يمكن أن تحلّق صوره، أو أن الصورة يمكن أن تُقَدَّمَ إلينا في عبارة أو جملة يغلب عليها الوصف المحض، ولكنها توصّل إلى خيالنا شيئا أكثر من انعكاس متقن للحقيقة الخارجية، إن كل صورة شعرية لذلك هي إلى حدٍّ ما مجازية" وِفق تعبير سي دي لويس في كتابه (الصورة الشعرية). وانطلاقا من هذه الرؤية حاولنا اكتشاف القوالب التي تشكّلت في إطارها الصورة الشعرية؛ فوقفنا على أربعة أنماط هي:
(أ) إخراج الأغمض إلى الأظهر (البليغ)
في هذا النوع من الصور الشعرية اتكأ شاعرنا الطائي على ركنين اثنين في بناء الصورة (المشبه) و(المشبه به)، وأسقط الأداة ووجه الشبه سعيا إلى توضيح بعض الصفات التي قد تغمض أو يعسر فهمها أو تقريب معناها في أذهان جمهور السامعين المتحلقين من حوله بالاستناد إلى مبناها؛ وذلك لإجراء مقارنة بين (كلمة) و(نظيرتها)، وفي سبيل ذلك اعتمد في ائر تشبيهاته على التشبيه البليغ (المفرد). ومنه نذكر [(نجل أقيال/ شبل قساورٍ/ أهل الهدى/ شفاءٌ رأيه/ العلا وقفًا أراها)].
(ب) ترميز المُضمر داخل (السياق)
جلال الشعر وجماله وبهاؤها يتخفّى خلف رمزيته؛ فالرمز هو ثمة بقعة ضوء تشّع نورا في المناطق الغامضة، لكن مصدرها دائما يتوارى خلف غلالات المعاني المضمرة، وينظم الصور والمجازات والأخيلة في سلك واحد فتبدو كعقد لؤلؤ في جيد القصيدة. ومن سحرية النظم في هذه القصيدة نقرأ قول شاعرنا عيسى الطائيّ: [(أنت المُمَّلك بالحُسام وبالنّدى)، (أحيا نداه نفوسا)، (خمر السرور)، (حنادس الظلماء)].
(ج) تغيير وظائف الحواس (التراسل)
من المختلف تولد الدهشة، ومن تحت ظلال الرمز بزغت شمس البلاغة، ومن قلب البلاغة طلع نجم (تراسل الحواس)، وهو فن يخالف المباشرة الفجّة التي تُنزلُ الشعر من عليائه إلى مائدة الكلام الذي يتحلّق حوله العوام، وهو فن يطغى على إبداع (الرمزيين) وضارب بجذوره في القِدَم، بل واكب ميلاد الشعر قبل عصر الكتابة، ولكل أمة وجيل نصيب منه وليس وقفًا على الشعر الأوربيّ. وفي أبسط معانيه يعتمد على تبادل وظائف الحواس الخمسة، وفي أرقى معانيه يتحقق بقدرة الشاعر أو الأديب في أي فن من إزالة الحواجز بين الحواس. ومن بديع ما قاله الشيخ عيسى الطائي وتحققت فيه بلاغة تراسل الحواس قوله: [(إن فاهَ خِلتَ الدرّ يُنثرُ حوله // فكأ في أحشائه القاموسا)] هنا الشاعر انتقل بالكلمات من (حاسة السمع) في قوله (فاهَ) إلى (حاسة الإبصار) والرؤية العينية للكلمات في صورة جواهر تتلألأ.
(د) تبادل المدركات (التشخيص والتجسيد)
تقنية التجسيد والتشخيص هي خاصية ملازمة للفن الشعريّ بوجه خاص والإبداعي بوجه بما تحمله من طاقة لامتناهية وقدرة فذّة على التخييل، بل تشع في القصائد دينامية تتولّد على مدار تحرك الصورة وانبعاثها في وجدان القاريء، وتتبدى هذه الثيمة في ابتكار الشاعر الطائيّ للكثير من الصور الاستعارية فنراه يُلبس الجمادات روح إنسانية خيّرة أوشريرة تتحرك بيننا، كما في قوله: (يقيه من الردى)، وإلباس المجرد ثوب صورة المتحرك كما في قوله: (أحيا البشير نفوسا)، (عُمان أشرقت)، (هاج في من القريض) (أسس ملكه في هام السها) (أحيا نداه نفوسا) (العلا أرها وقفا عندكم محبوسا)].
رابط مختصر
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
النهضة المُتجددة.. ركائز وطنية ترسم خريطة المستقبل وتُرسِّخ لدولة المؤسسات
◄ الخطاب السامي الثاني أعاد تعريف العلاقة بين المواطن والدولة
◄ الهوية العُمانية الجامعة المصدر الأساسي لمنظومة القيم الوطنية
◄ الثقافة العُمانية تتميز بخصوصية مُتفرِّدة داخل حدود محيطها الجغرافي
◄ إبراز دور المرأة والشباب والقطاع الخاص في إنجاز المشاريع الوطنية
◄ التراكيب اللغوية في الخطاب السامي تؤكد على علاقة المسؤولية المجتمعية المشتركة
الرؤية- ناصر أبو عون
جاء الخطاب السامي لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- يوم الأحد الثالث والعشرين من فبراير 2020- في لحظة وطنية فارقة من تاريخ الأمّة العُمانية، وفاصلًا بين عصرين؛ فلمَّا أن قضى السلطان قابوس- طيَّب الله ثراه- نحبه بعد حياة حافلة من البناء والتأسيس العصريّ لدولة المؤسسات في مرحلة نهضتها المباركة منذ سبعينيات القرن العشرين، والتي تواصلت على مدار 50 عامًا بنى خلالها صورة ذهنية ناصعة البياض عن سلطنة عُمان شَهِد لها القاصي والداني، جاء العهد الميمون لجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- أبقاه الله- ليُكمل المسيرة.
ومن ثَمَّ فإن هذا الخطاب حقق 4 غايات رئيسة؛ تمثّلت في وضع خطة عمل مستقبلية ووطنية خالصة لتحقيق أهداف رؤية "عُمان 2040"، والتأكيد على اقتفاء فلسفة السلطان قابوس داخليًا وخارجيًا وتمتين العلاقة بين السلطان والمواطنين في إطار من المسؤولية الجماعيّة، وحرية التعبير المسؤولة المستندة للنظام الأساسي للدولة، وشرعية انتقال السلطة.
أولًا: المبادئ البراجماتية في الخطاب:
عند تحليل استراتيجيات الخطاب الثاني لصاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق- أعزه الله- يوم 23 فبراير 2020، يمكن القول إنّ هذا الخطاب أعاد تعريف العلاقة بين المواطن والدولة؛ لتتحول من الطابع التقليدي، إلى العلاقة التشاركية القائمة على مبدأ المواطنة؛ مما أدى إلى تغيير في المفهوم من "الرعية" إلى "المواطنة الفاعلة"؛ وهي علاقة منضبطة مبنية على تحقيق التُوازن بين التطوير والاستمرار في إنتاج نهضة تواكب مفردات العصر، عبر 5 مبادئ محددة؛ هي: (1) مبدأ نفسي يسعى إلى طيّ ثيمة الحُزن الوطني، الذي خيّم على الشعب العُماني برحيل السلطان قابوس باعث حركة النهضة المباركة. (2) مبدأ اجتماعي يؤمن بوجود لُحْمة وطنية وعروة وثقى لا تنفصم بين السلطان والمواطنين ولكنه يؤكد عليها. (3) مبدأ سياسي قانوني يؤكد على شرعية الانتقال السلس للسلطة وِفْق عقد اجتماعيّ أقرّته الأعراف والتقاليد العُمانية. (4) مبدأ اقتصادي وضع الخطوط العريضة لمسيرة التنمية المستقبلية في إطار الموجة الثانية من النهضة. (5) مبدأ رمزي يؤكد على أنّ منظومة قيم السلطان الراحل هي ذاتها منظومة السلطان هيثم بن طارق- أبقاه الله- ومصدرها الهويّة العُمانية الجامعة. وقد لوحظ أنّ الخطاب تميز مُنْتَج بلغة أدبية عالية ومفردات ارتكزت إلى عقيدة دينية ووطنية راسخة.
ثانيًا: بناء توازنات بين المعرفة والسُّلطة
نجح هذا الخطاب في إعادة تعريف مبدأ المواطنة في إطار الثقافة العُمانية التي تميَّزت بخصوصية مُتفرِّدة داخل حدود محيطها الجغرافي؛ فأكد على مسؤولية المواطن وتضامنه مع الدولة في إطار الشرعية والقانون، ومن ثَمَّ أنتج صياغة تصوّر جديد في ذهنية المواطن عن معنى مصطلح الدولة، والدور الفاعل للمواطن فيها القائم على ضرورة تضافر الجهود والمسؤولية المشتركة بين السلطة والشعب مقرونًا بإقرار مبدأ "حرية التعبير المسؤولة" ضمن إطار النظام الأساسي للدولة. وقبل هذا أعاد ترتيب الأولويات في ملفات عديدة على رأسها: الاقتصاد والتشغيل، والتعليم.. إلخ.
ثالثًا: إقرار خُطة وطنية ذات أهداف عامة
لقد أقرّ السلطان هيثم- أبقاه الله- عبر هذا الخطاب خمسة أهداف عامة، وهي بمثابة خطة عمل وطنية ارتكز عليها في الانطلاق نحو المرحلة القادمة من مسيرة النهضة المتجددة؛ وهي على النحو الآتي: (1) هدف أبوي (تطمينيّ) يبدد سحابات القلق التي ألقت بظلالها على المرحلة الانتقالية بتوظيف ثلاث وسائل ناجعة هي: احتضان المشاعر الشعبية العارمة الناتجة عن رحيل السلطان قابوس وتوظيفها في الحفاظ على المنجزات وتطوير منظومة العمل. (2) التأكيد على أنّ العقيدة الدينيّة عروة وثقى لا انفصام لها، فضلًا عن التأكيد على بقاء واتساع مظلة الأمن والأمان وهي السمة التي تتمتع بها سلطنة عُمان بين شعوب العالم قاطبةً. (3) اقتفاء أثر نهج السلطان قابوس، والتغيير وفق المنهج الإصلاحي الممنهج؛ بإعادة هيكلة البِنية الإدارية، وتحديث منظومة القوانين لتواكب متغيرات العصر وفلسفة الإصلاح الاقتصادي، والتركيز على التكنولوجيا في إطار رؤية عامة ترتكز على مبدأ تنوّع مصادر الدخل. (4) إقرار مبدأ الوحدة الوطنية الجامعة واتضح ذلك من مخاطبة سائر الفئات: المرأة والشباب، والقوات المسلحة والأجهزة الأمنية والقطاع الخاص.. إلخ، موظِّفًا ومكرِّرًا أسلوب النداء: (أبناء عُمان الأوفياء، الأعزاء). (5) التأكيد على التمسك بعناصر شرعية الحُكم العُمانيّ الرشيد، وهي: "شرعية تاريخية" الممتدة من عصر المؤسِّس الأول للدولة وصولًا إلى السلطان قابوس وانتهاء باستلام السلطان هيثم للراية التي لن تُنكّس أبدًا، و"شرعية أخلاقية" ترتكز على مبادئ الدين الإسلاميّ الحنيف، ومنظومة القيم العُمانية المتوارثة، و"شرعية تنفيذية" تسعى إلى إعادة هيكلة الدولة ومنظومة الاقتصاد العُماني وتحديد ملامحه، و"شرعية إجرائية" ترتكز على التخطيط وِفقَ مبادئ رؤية "عُمان 2040".
رابعًا: تحليل بنية الخطاب السامي:
بمتابعة لحظة إلقاء السلطان هيثم بن طارق- أبقاه الله- لخطاب يوم الـ23 من فبراير 2020، نجد عملية انتقال تدريجي بدأت بالحديث عن مشاعر الفقد التي تفجّرت برحيل السلطان قابوس- طيّب الله ثراه- ثم التمهيد بالرضا بأقدار الله، ثم الانتقال إلى رؤية مستقبلية والتفكير في الغد بإيجابية، وتسمى بمرحلة إدارة الانتقال الساسي للسلطة عبر ثلاثة وسائل، تستهدف تحقيق الشرعية في وراثة الحُكم، وهي: الثناء على السلطان قابوس ودوره في بناء دولة المؤسسات، واقتفاء النهج القابوسي، وذلك لتبديد القلق الشعبي، والإعلان عن خطة إصلاحية ورؤية جديدة في إدارة الدولة. ولتعزيز الإحساس بالشراكة الفاعلة بين المواطنين والدولة أشار إلى دور المرأة العُمانية والشباب والقطاع الخاص في إنجاز مشاريع المرحلة الجديدة.
خامسًا: الأيديولوجيا والسُلطة في الخطاب:
يُمكننا عبر هذا الخطاب رصد المكونات الرئيسة التي ترتكز عليها أيديولوجية الدولة الحديثة في عصر السلطان هيثم بن طارق، وهي: "التسامح وقبول الآخر" في العلاقات الدولية والفاعلية في المشهد الدولي استنادًا إلى مبدأ السلام، و"القوة العاقلة" بتطبيق الدولة لمبدأ سيادة القانون، ومنظومة الأمن والأمان، وتحقيق الاستقرار، الذي ينتج عن تفاعل المنظومتين القانونية والأمنية معًا، و"الدولة التنموية" القائمة على تطوير البنية الأساسية وإعادة هيكلة الاقتصاد وتحفيز الابتكار، والسُلطة بوصفها تكليف ومسؤولية.
سادسًا: البناء اللغوي والتراكيب في الخطاب:
اعتمد الخطاب السامي في بنائه اللغويّ والتركيبي على 3 وسائل تُحيل المستمع ذهنيًا إلى مخزونه التاريخيّ، ولغته المتوارثة الحاملة لتراثه الديني، والمعبِّرة عن وجدانه؛ ووظّفها للتأكيد على التواصل بين عهد المغفور له- بإذن الله تعالى- السلطان قابوس، والعهد الجديد للسلطان هيثم-أبقاه الله- وهذه الوسائل تمثّلت في: "التَّناصّ" بالإحالة إلى خطاب السلطان الراحل وافتتاح الخطاب بالآيات القرآنية والدعاء. أمَّا على مستوى نصّ الخطاب؛ فقد وظّف الخطاب مفردات ذات طابع ديني لإضفاء شرعية روحية وأخلاقية على العهد الجديد. مثل: (نعاهد الله، ونحمد الله، والمُتقين، والرحمة، والقدرة)، ولتعزيز روح الانتماء والتماسك الاجتماعي وظّف الخطاب مفردات تعبّر عن الوحدة الوطنية الجامعة؛ مثل: (نُقدِّر، ونثمِّن، والأعزاء، والأوفياء، وأبناء عُمان). أمّا على صعيد التحديث والبناء فقد وظّف مصطلحات ومفردات تنموية من مثل: (هيكلة، والتشريعات، والتنويع الاقتصادي، والتوازن المالي، والتمكين، والبناء). وجاءت التراكيب اللغوية للتأكيد على علاقة المسؤولية المجتمعية المشتركة وتضافر الجهود بين السلطان والشعب العُماني في بناء المرحلة الجديدة من نهضة عُمان، مثل: (سيكون في سُلّم أولوياتنا، ونحن ماضون).