انشغل الفلاسفة والمفكرون بموضوعة العدالة حتى في حقب ما قبل الميلاد، إدراكا منهم لأهميتها في تحقيق المجتمع المنشود.
وبرغم تناول اشكالية العدالة لحقب طويلة، فإنها ما تزال تؤثر عميقا في المجتمعات المعاصرة؛ وكثيرا ما تضاف لموضوعة العدالة مفاهيم جديدة تقترن بعصرها، الا ان السمة الرئيسة تبقى لصيقة بها، ومفادها ان أي مجتمع لن تكتب له الرفعة والتقدم والرفاه، الا بأخذ العبر من مغزى العدالة وتطبيقها على الدساتير والقوانين وشتى مفاصل الحياة.
لقد التفت الفلاسفة الى قضية العدالة منذ عصور قديمة، لم تخلو بدورها من الاضطهاد بشتى صوره، وكذلك منذ تعزز القمع بوساطة محاكم التفتيش الأوروبية التي نشطت بخاصة في القرنين الخامس عشر والسادس عشر ولم تلغى الا في القرن التاسع عشر، التي قتل فيها كثير من البشر لأسباب واهية.
لقد طرح الفيلسوف اليوناني ارسطو الذي عاش للمدة من 384 - 322 قبل الميلاد ما يسمى العدل التوزيعي، وفصلّه في توزيع الموارد والممتلكات والثروات والمناصب والأعباء بين أفراد المجتمع بحسب طاقتهم وقوتهم، وهذا النوع ينطبق على المعاملات بين الأشخاص والمؤسسات، مشددا على ان هذا النوع من العدل يحمي المجتمع من اندلاع الثورات المستمرة، لأن الناس دائمًا يثورون طلبا للمساواة، ويرى ارسطو أن هناك علاقة تطابق بين الإنصاف والعدل، ولكن الأفضلية تكون للإنصاف بصفته يصحّح خطأ العدالة.
أما الفيلسوف والسياسي الفرنسي الاشتراكي برودون 1805-1865م فيتساءل "ماذا يعني أن نقيم العدالة؟ إنها تعني أن نعطي لكل فرد جزءا متساويا من الخيرات بشرط الكم المتماثل من العمل، وهذا يعني التصرف والعمل بما يتوافق مع مصالح المجتمع"؛ ويقول أيضا "ماذا تعني العدالة من دون تساوي الملكية؟ إنها ميزان بأوزان مزيفة".
اما الفيلسوف والاقتصادي الألماني كارل ماركس 1818-1883 فلا يختلف كثيرا عن هذا الطرح وادراك مسببات اللامساواة وانعدام العدالة، فقد كان منهمكا بدراسة سبل معالجة والتخلص من التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية الكبيرة في المجتمع، وهو يعد أن هناك عدم عدالة أساسي في نظام الرأسمالية الذي يسمح بتجميع الثروة والسلطة في يد القلة على حساب اكثرية الناس؛ وبالنسبة لماركس، العدالة الاجتماعية تشمل توزيع الموارد والثروة بشكل أكثر عدالة بحيث يتمتع الجميع بفرص متساوية ويشاركون في الثروة الاقتصادية بالتساوي، على وفق ما طرحه في افكاره ومؤلفاته.
اما في العصر الحالي الذي نعيشه فلقد توالدت العناصر الممثلة لموضوعة العدالة، وان كانت السمة الاساسية للمفهوم أي العدالة الاجتماعية هي الاساس الذي تتعلق به عدالة توزيع الموارد في المجتمع، التي يتسبب انعدامها بالتوترات في جميع مناحي الحياة، كما يقترن ذلك باستكشاف الفجوات الاقتصادية والتفاوت في الثروة والدخل، والسعي لفهم تأثير ذلك على العدالة الاجتماعية؛ كما تبرز قضايا المساواة بين الجنسين، في امور مثل الأجور، والحقوق، والفرص في مجمل المجتمع، ومشكلات التمييز العرقي والثقافي، والعنف المجتمعي، والتحديات التي تواجهها الشعوب والأقليات العرقية والثقافية، و التحقيق في تأثير السياسات القانونية والنظام القضائي على توزيع العدالة والمساواة.
كما استجدت لدينا ما تسمى العدالة البيئية ومناقشة التأثيرات البيئوية للأنشطة الصناعية والتنمية، والجهود للمحافظة على البيئة وضمان حقوق الأجيال المقبلة.
وتبرز ايضا قضية التباين في فرص التعليم والوصول إلى التحصيل الدراسي على اختلاف مستوياته وأوجهه، والعدالة في الوصول إلى الرعاية الصحية والتباين في جودة الخدمات الصحية، وكذلك حقوق الإنسان في السياق الدولي، والصراعات ودور العدالة في تحقيق السلام والاستقرار العالمي؛ وجميع تلك القضايا المستجدة التي شخصت ينبغي حسمها بنتائج ايجابية لغرض تحقيق استقرار ورفاه المجتمعات البشرية، بحسب ما يطرح من علاجات لإشكالية تحقيق العدالة.
وفي العراق، البلد الغني، فان قضية العدالة في توزيع الثروات كانت الشغل الشاغل لسكانه طوال الحقب الماضية وكانت نتائج تجاهل ذلك وبالا على البلد والسكان، تسببت في كوارث كبرى لم تزل تفعل فعلها؛ اما مشكلات التمييز العرقي "وكذلك الطائفي" التي ابتدعها بعض سياسيي العراق المعاصرين، فلقد اصبحت سببا رئيسا في عدم الاستقرار المجتمعي الذي لا غنى عنه للتركيز على البناء والاعمار وتحقيق رفاه الناس.
وفي مجال السياسات القانونية والاجراءات القضائية، يلاحظ لدينا ان التصرف ازاءها كثيرا ما يجري بصورة انتقائية او مزاجية، وان القضاء غالبا ما يلجأ الى النظر في القرارات بتأثير الفعل ورد الفعل، وليس برسم سياسات وقوانين تخدم السكان لاسيما اننا غادرنا مدة النظام الدكتاتوري الشمولي؛ ما يتسبب في شرخ كبير في موضوع العدل بسبب ارتباط القضاء المفترض بذلك الاساس المهم لبناء المجتمع.
اما قضايا مثل الأجور، والحقوق، والفرص في مجمل المجتمع، فتنبثق بقسوة في صور البطالة الحقيقية التي يفقد الناس فيها اهم متطلبات معيشتهم؛ ما يفاقم التوتر، وتلك الاشكالية جرى حلها في معظم الديمقراطيات الحقيقية في اوروبا واميركا بصيغة صناديق البطالة، وزيادة المدفوعات إلى الشركات والعاطلين عن العمل والمشاريع الصغيرة والمتوسطة، فضلا عن الضمان الصحي وغيرها من المعونات، جميع ذلك بغرض الحفاظ على السلم الاهلي وتقليل الحرمان لدى الناس، وتجنب الكوارث المحتملة فيما لو تواصل العوز.
ان بلدا مثل العراق احوج ما يكون الى العدالة الحقيقية بشتى صنوف تمظهرها واولها العدالة الاجتماعية، اذ ان امر الدولة والمجتمع لن يستقيم بتوافر الاموال لفئة قليلة من السكان فيما تعيش الاغلبية وهي بالكاد تحصل ارزاقها، وتعاني الامرين من انعدام المساواة في الرعاية الصحية وفرص التعليم والاجور وغيرها من المستلزمات الضرورية لإدامة نسغ الحياة الاعتيادية.
إذا أردنا الخروج من البوتقة التي نحن فيها ومن الازمات الدورية المتلاحقة وانعدام الامن والصراعات واعمال القتل والسجن والاغتيال والتعذيب، فان علينا ان نحقق العدالة بأنواعها وفي طليعة ذلك العدالة الاجتماعية التي تؤمن لكل فرد مستوى معيشي لائق على وفق الاعمال التي يقوم بها السكان، التي توفر الدولة اجواءها؛ ومن اشتراطات تحقيق العدالة سن القوانين العصرية المطلوبة للارتقاء بأوضاع الناس وكرامتهم، والرقي بالخدمات الصحية والتعليمية والمساواة في الاجور وتفعيل اعمال النظافة والحفاظ على البيئة واقامة الحدائق والمتنزهات، وتخليص الناس من بؤسهم و يأسهم، وحسم قضايا الموقوفين والمسجونين وغيرها من متطلبات العدالة.
المصدر: شفق نيوز
كلمات دلالية: العراق هاكان فيدان تركيا محمد شياع السوداني انتخابات مجالس المحافظات بغداد ديالى نينوى ذي قار ميسان اقليم كوردستان السليمانية اربيل نيجيرفان بارزاني إقليم كوردستان العراق بغداد اربيل تركيا اسعار الدولار روسيا ايران يفغيني بريغوجين اوكرانيا امريكا كرة اليد كرة القدم المنتخب الاولمبي العراقي المنتخب العراقي بطولة الجمهورية خانقين البطاقة الوطنية مطالبات العراق بغداد ذي قار ديالى حادث سير عاشوراء شهر تموز مندلي العدالة الاجتماعیة
إقرأ أيضاً:
اختلال موازين القوى في ليبيا
أثارت الزيارة المفاجئة التي قام بها المشير خليفة حفتر إلى مصر في 18 يناير 2025 اهتمامًا كبيرًا في الأوساط الدولية والإقليمية، وفي لقائه مع الرئيس عبد الفتاح السيسي، تمت مناقشة القضايا المتعلقة بالأمن الليبي والمصري، وكانت المرة الأخيرة التي التقى فيها حفتر والرئيس المصري في سبتمبر 2021، وتركت الزيارة الحالية أسئلة أكثر من الإجابات.
لماذا ذهب خليفة حفتر للقاء الرئيس المصري دون أبنائه؟
يتمتع خليفة حفتر بسلطة ونفوذ هائلين في شرق ليبيا، وفي الآونة الأخيرة، يعمل حفتر بنشاط على تعزيز مكانة أبنائه لتعزيز سلطتهم المتزايدة في إدارة القوات المسلحة الليبية، ويشغل نجله، الفريق ركن صدام حفتر، منصب رئيس أركان القوات البرية للجيش الليبي وأكبر قوة عسكرية في البلاد،وله نفوذ واسع النطاق داخل البلاد وخارجها، حيث يسيطر على قطاع النفط والغاز.
وهناك ابن آخر هو الفريق ركن خالد حفتر، وهو رئيس أركان الوحدات الأمنية، ويلعب دورًا لا يستهان به في القوات المسلحة الليبية، ويشرف على علاقات والده الدولية، أما الابن الثالث، بلقاسم حفتر، فهو يدير أكبر صندوق في ليبيا، والذي تتدفق من خلاله الأموال المخصصة لإعادة تأهيل وإعمار شرق ليبيا.
ويحضر أبناء حفتر اجتماعات والدهم بشكل دائم، لكن حفتر سافر إلى مصر بدون أبنائه، ويرجع هذا الانعزال إلى ديناميكية معقدة داخل الأسرة، حيث يلعب ممثلو الولايات المتحدة دور المحرض، فتعمل الولايات المتحدة بنشاط مع أبناء حفتر صدام وخالد وبلقاسم – في محاولة لاستخدام طموحاتهم للتأثير على السياسة الداخلية للقوات المسلحة الليبية، على سبيل المثال لا الحصر من المفاوضات المنفصلة التي أجراها ممثلو الولايات المتحدة مع أبناء حفتر، ففي 24 نوفمبر 2024، التقى السفير الأمريكي ريتشارد نورلاند بصدام حفتر في سبها، وناقشت المحادثات دور جنوب ليبيا في الاستقرار الإقليمي والحاجة إلى حماية سيادة البلاد.
وفي 18 ديسمبر 2024، أجرى القائم بالأعمال الأمريكي جيريمي بيرندت محادثات مع بلقاسم حفتر حيث ناقشا دعم البنك المركزي الليبي والمؤسسات التكنوقراطية الأخرى.
ووفقًا لضباط كبار في القوات المسلحة الليبية مقربين من حفتر، فقد أثيرت مسألة خليفة حفتر في كل اجتماع بين ممثلي الولايات المتحدة وأبنائه، حيث كان الأمن الداخلي ينقل هذه المعلومات مباشرة إلى المشير حفتر، وكانت آخر نقطة نفد فيها صبر خليفة حفتر هي المفاوضات التي جرت في 17 ديسمبر 2024 بين خالد حفتر ورئيس جمهورية أفريقيا الوسطى بشأن تعزيز دور الولايات المتحدة في أفريقيا الوسطى، وقد أبلغ خالد حفتر شخصيًا نتائج الزيارة إلى جيريمي بيرندت، ووعد المندوب الأمريكي بتعيين خالد حفتر قائدًا عامًا للقوات الليبية المشتركة، وقد قرر حفتر، خوفًا من تعزيز موقف أبنائه على حساب الدعم الأمريكي، التقليل من مشاركة أبنائه في العمليات الدبلوماسية الرئيسية.
مصر لا تثق في تركيا وتضع خططًا لسحب القوات التركية من ليبيا
بالتوزاي مع ذلك، تواصل تركيا توسيع نفوذها في ليبيا من خلال وجودها العسكري ودعمها للمسلحين، وهو ما يشكل مصدر قلق كبير لكل من القاهرة وبنغازي، وقد ترغب تركيا في تكرار نجاحها في سوريا من خلال محاولة توحيد غرب ليبيا وشرقها في ضربة عسكرية واحدة تحت قيادة حكومة الوحدة الوطنية بقيادة عبدالحميد الدبيبة.
ومنذ منتصف يناير 2025، يجري الدبيبة، بصفته وزير دفاع حكومة الوحدة الوطنية بالوكالة، وغيره من كبار الضباط العسكريين في حكومة الوحدة الوطنية محادثات نشطة مع القيادة التركية في كل من أنقرة وطرابلس، وفي 15 يناير التقى الدبيبة شخصيا مع أردوغان، وفي 23 يناير، زار القائد العام للقوات المسلحة التابعة لحكومة الوحدة الوطنية محمد الحداد والوفد المرافق له جمهورية تركيا بدعوة رسمية.
والتقى الحداد بالفريق أول متين غوراك من قوات الأمن القومي ووزير الدفاع التركي ياشير غولر، وتعبيرًا عن إخلاصه لأفكار الدولة العثمانية، قام حداد والوفد المرافق له خلال الزيارة بوضع إكليل من الزهور على ضريح ”مصطفى كمال أتاتورك“.
لا يمكن لمصر أن تثق بتركيا بشكل كامل رغم أن الخبراء لاحظوا قبل ستة أشهر فقط تقاربًا كبيرًا في المواقف بين مصر وتركيا، بما في ذلك في الملف الليبي، في اللقاء الذي جمع حفتر والسيسي ناقش الطرفان قضايا الأمن القومي وضرورة طرد القوات الأجنبية من الأراضي الليبية، وفي المقام الأول كان الحديث عن تهديد القوات التركية في غرب ليبيا والتي يمكن أن يصل عددها إلى 10 آلاف عسكري، كممثل للقوات المسلحة التركية والشركة العسكرية التركية ”سادات“، وكذلك المرتزقة السوريين، وبالتالي، فإن زيارة حفتر إلى مصر هي محاولة لخلق توازن في مواجهة التعزيز الخارجي للوجود العسكري التركي في الغرب الليبي، والذي يشكل تهديدًا لكل من مصر وشرق ليبيا.
نتائج زيارة حفتر إلى مصر
حقق خليفة حفتر هدفين من زيارته لمصر: فمن ناحية، أظهر أنه وحده قائد شرق ليبيا، ومن ناحية أخرى، أشار إلى أن حلفاءه الجيوسياسيين سيكونون مستعدين، إذا لزم الأمر، للدفاع عن شرق ليبيا من أي عدوان خارجي.
بالمحصلة، من المرتقب أن تحمل الفترة المقبلة تطورات كثيرة في المشهد الليبي لها أن تغير الوضع نحو الأفضل أو أن تزيده تأزيما.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.