كل شيء بمدينة صفرو المغربية يدل على عراقتها وتاريخها، أبواب كبيرة ترمز للشموخ، وممرات ودروب ضيقة تعكس الروح التي تسري في المدينة العتيقة.

صفرو وافرة ظلالها، عذب ماؤها، عليل هواؤها، تلقب بالجنة الصغيرة وحديقة المغرب، التي تتربع على سفح الأطلس المتوسط على ارتفاع 850 مترا عن سطح البحر، وعلى بعد 28 كيلومترا جنوب شرق مدينة فاس (وسط المغرب).

ما زال أبناؤها يتفاخرون إلى اليوم بمقولة شهيرة للسلطان المولى إدريس الثاني "سأرحل من مدينة صفرو إلى قرية فاس"، ويعتبرونها شهادة على قدم تمدنهم وعلى عراقة مدينتهم.

مدينة صغيرة الحجم ذائعة الصيت، بتاريخ حافل وخصب ظاهر ومهرجان للكرز يفوق 100 عام، صار موروثا إنسانيا مصنفا دوليا.

متاجر ومحلات تتحدث كأنها من ماض مشرق، وواد عميق يشق المدينة شاهدا على الماضي والحاضر، وجنبات أكثر جمالا عبر حدائق وشلالات وعيون تتدفق ماء.

يعود تاريخ صفرو إلى النصف الثاني من القرن السابع الميلادي، حيث ظهرت النواة السكنية الأولى على سفح مرتفع قريب من الشلال، سميت لاحقا بالقلعة، وفق موقع "جماعة صفرو".

المدينة العتيقة

بمجرد الدخول إلى صفرو (وسط البلاد)، يلاحظ الزائر بروز المدينة العتيقة بسورها وبابها الأول "باب المقام" الذي يوجد مباشرة قبالة ساحة تحمل نفس الاسم.

وبعد الدخول من الباب توجد تفاصيل عن تاريخ عريق تظهر ملامحه في المتاجر والمنازل المتراصة واحدة تلوى الأخرى.

كمال المريني، الباحث في تاريخ صفرو، قال إن "المدينة تمتاز بمجموعة من المآثر التاريخية، بعضها لا يزال قائما، وآخر اندثر".

وفي حديث للأناضول، أوضح المريني أن "من أهم المواقع التاريخية بالمدينة، مغارة "كهف المومن"، وهو من أقدم الأماكن التعبدية في العالم"، لافتا إلى أن "هذا الموقع غير مصنف من طرف وزارة الثقافة كموقع أثري تاريخي".

ومن بين مآثر المدينة أيضا، وفق المريني، "الجامع الكبير، الذي أشار له الحسن الوزان (ليون الأفريقي)، في كتابه وصف أفريقيا، وكان يشتمل على مجموعة من التحف".

ويتخلل المدينة مساجد عريقة تشهد على حضارات مرت وتركت بصمتها، وتضم أيضا أبوابا وأسوارا، ومساجدا مثل الشباك والسمارين، وفق المتحدث.

تقع صفرو على سفح الأطلس المتوسط (الجزيرة) "منزلة" صفرو

يقول المؤرخ حسن الشافعي العلوي، وهو أحد أبناء صفرو (صاحب رسالة دكتوراه حول تاريخ صفرو نوقشت بالسوربون في يناير/كانون الثاني 1983)، إن مدينة صفرو وُجِدت قبل فاس (تأسست فاس في القرن الثامن الميلادي)، واستقر بها المولى إدريس 3 سنوات قبل أن ينتقل إلى مدينة فاس.

ويرجع تاريخ تأسيس مدينة فاس إلى نهاية القرن الثامن الميلادي إبان مجيء المولى إدريس الأول إلى المغرب سنة 789م، حيث بنيت النواة الأولى للمدينة على الضفة اليمنى لوادي فاس بحي الأندلسيين.

ويوضح الشافعي في حديثه السابق للجزيرة نت، أن صفرو بحكم موقعها الجغرافي كانت في العصر الوسيط محطة تمر منها القوافل التجارية القادمة من شمال المغرب والمتجهة نحو تافيلالت بوابة الصحراء.

يقول الشافعي إن صفرو شكلت "منزلة" تحط فيها الرحال وكانت يوجد بها قديما على فنادق ومقومات الحياة المدنية مما جعلها طريقا تجاريا حيويا.

وتعرف المدينة بغنى وتنوع موروثها الثقافي. يقول المؤرخ الشافعي إن صفرو كانت مدينة محصنة، يعيش سكانها داخل الأسوار، وكان لها تنظيم داخلي، موضحا أن نسبة مهمة من سكانها كانوا يهودا، جزء كبير منهم جاء من جنوب المغرب واستقروا في المدينة منذ نشأتها.

وشكلت صفرو لمدة طويلة ملجأ لجل اليهود المغاربة الذين سكنوا المدينة لأكثر من ألفي سنة. وأضاف الشافعي أن صفرو محاطة بالقبائل الأمازيغية، مما جعل منها نموذجا للتعايش بين 3 مكونات، العربي المسلم واليهود المستقرون داخل المدينة والعنصر الأمازيغي خارجها.

حديقة متنوعة

ويزخر مدخل صفرو، وجنباتها بالحدائق والأشجار، خاصة أن وادي "أكاي" يمر داخل المدينة، وتتفرع عنه قنوات مياه في كل الاتجاهات.

صبيب الماء في وادي "أكاي" تراجع بشكل كبير، وهو ما يثير تخوف السكان لأنه بمثابة الروح التي تحيي حدائق وحقول وأشجار المدينة.

شلال وادي أكاي واحد من مزارات صفرو السياحية (الجزيرة)

ولعل المناطق الخضراء بالمدينة وجنباتها جعلها تحمل لقب "حديقة المغرب".

ماض مشرق

ووصف المريني، ماضي المدينة بالمشرق، خاصة أن الناس كانوا يعيشون في رفاه، كما أشار إلى ذلك عدد من المؤلفين، مثل الفرنسية سيدوني كوليت، في كتابها "نوت ماروكان".

وجاء في مذكرات الباحث الاجتماعي الفرنسي شارل دو فوكو "التعرف على المغرب" وصف فريد للمدينة، فيقول "لا تكتشف المدينة إلا عند الوصول إلى أبوابها نظرا لكونها مخبأة وسط الأشجار.. إنها حدائق شاسعة وعجيبة ما رأيت مثلها إلا في المغرب. أشجار كبيرة متلبدة تنشر أوراقها الكثيفة فوق الأرض ظلا سميكا وطراوة عذبة.. في هذه الحدائق تحمل جميع الأغصان الفواكه والسطح دائم الاخضرار وتسيل فيها وتهمس بها ينابيع عديدة" إلى أن يقول "بصفرو كل شيء مزدهر ويشير إلى التقدم".

ومرد هذا الماضي المشرق، وفق المريني، إلى "التوازن ما بين المجالين الزراعي والحضري، لأن المدينة في السابق كانت مركزا لضمان مرور القوافل التجارية، فضلا عن توفرها على عدد من المباني الفنية والرياضية".

وأوضح المريني أن صفرو كانت بلدية منذ 1917، خاصة أنها تمتاز بالإنتاج الزراعي، حيث كان تنظم مسابقات بين المزارعين منذ ذلك الحين، توجت بمهرجان حَب الملوك (الكرز) الذي يعد أقدم مهرجان في البلاد.


وتابع "عام 1972 كانت المدينة تضم 6 فنادق و4 مسابح وملاعب التنس والسلة وكرة القدم، فضلا عن احتضانها لملتقيات رياضية مثل سباق السيارات والدراجات، خاصة أنها كانت تضم مدارا سياحيا ومخيما".

وأضاف أن صفرو كانت تضم قاعتي سينما وعددا من الفنادق، في حين حاليا تضم المدينة مسبحا واحدا، ولا تضم قاعة سينما أو مخيما.

ووضعت متاجر بالمدينة العتيقة لصفرو، لافتة "للبيع" على الواجهات، وهو ما يشكل ناقوس الخطر لمكان عريق يحمل بين ثناياه الكثير من الذكريات والحكايات.

وتأسف المريني، لعدم زيارة المواطنين أو الأجانب المدينة، رغم ما تزخر به من أسوار ومدينة عتيقة وشلال جميل، ورغم توفر المقومات لتتحول إلى مدينة سياحية، متسائلا "لماذا لا تستثمر المدينة هذه الإمكانات؟".

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: المدینة العتیقة خاصة أن

إقرأ أيضاً:

بشرى كركوبي.. الضابطة المغربية التي تقود نهضة التحكيم الإفريقي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

تعتبر المرأة المغربية نموذجاً للعطاء والتميز، استطاعت عبر العصور أن تواجه كل التحديات، تمتلك قدرات استثنائية تمكنها من التفوق في العديد من المجالات وتجعلها مصدر إلهام عربي وعالمي.

بشرى كركوبي، الحكم الدولي في كرة القدم، واحدة من ألمع النماذج المغربية، جمعت بين التميز المهني والتميز الرياضي، استطاعت أن تحقق إنجازات رائدة محلياً وقارياً ودولياً، إيمانها بأحلامها وقدراتها كان حافزاً قوياً لتحدي الصعوبات والقيود الاجتماعية بغرض الوصول إلى القمة، تزاوج بين مهامها المهنية في الشرطة برتبة "مفتش شرطة ممتاز"، حيث تعمل بالمصلحة الولائية للشرطة القضائية بمدينة مكناس المغربية،  وبين حملها للشارة الاحترافية كحكم دولي.

ولدت بشرى عام 1987، بمدينة تازة المغربية الواقعة بين جبال الأطلس المتوسط وجبال الريف، أحبت كرة القدم منذ صغرها لكن عائلتها المحافظة وقفت ضد رغبتها، مما جعلها تتمرد على الصورة النمطية للمرأة وتقرر مزاحمة الرجال في مجالات كانت حكراً عليهم خلال سنوات عديدة، ليلمع اسمها كأول امرأة أفريقية تتأهل كحكم الفيديو المساعد الفار(VAR)، هذه التقنية الذي تفرد بها المغرب أفريقياً في السنوات الماضية.

انضمت بشرى إلى المؤسسة الأمنية كضابطة شرطة، هذا الجهاز القوي الذي يرأسه السيد عبداللطيف الحموشي والذي يعد أبرز الشخصيات المغربية لتمتعه بشعبية كبيرة لدى المغاربة، حيث يتبنى رؤية حديثة انعكست على مسيرة بشرى كركوبي، إذ لا تقتصر مهامه على حفظ الأمن بل الإسهام في دعم وبناء قدرات المنتسبين لهذه المؤسسة الأمنية ومساعدتهم على تحقيق طموحاتهم من خلال توفير بيئة محفزة، الأمر الذي دفع بهذه الضابطة إلى التشبث بطموحها الرياضي وتحقيق التميز في مجال تحكيم كرة القدم، وبشخصيتها القوية وإدارتها الجيدة في الملعب كحكم، استطاعت لفت انتباه عشاق المستطيل الأخضر ودخول التاريخ بتتويجات مهمة.

  انطلقت بشرى في مجال التحكيم عام 2001 من خلال مباريات محلية، وانضمت بعد ذلك إلى قائمة الحكام الدوليين المعتمدين لدى الاتحاد الدولي لكرة القدم (FIFA)، لتكون أول خطوة نحو مشاركات عالمية وقارية مهمة، وبفضل كفاءتها العالية، أصبحت بشرى كركوبي أول امرأة في تاريخ المغرب تدير نهائي كأس العرش سنة 2022، أما الحدث الأكبر عندما وقع عليها الاختيار وأصبحت أول امرأة تدير بطولة كأس الأمم الأفريقية للرجال في 2024، كما أنها اختتمت نفس السنة بتتويجها بجائزة أفضل حكم في أفريقيا خلال حفل الكونفدرالية الأفريقية لكرة القدم الذي أقيم مؤخرا في مدينة مراكش.

لبنة أخرى في مسار التفوق المغربي في المجال الرياضي يتجسد في شخص بشرى كركوبي التي أكدت أن المرأة المغربية تستطيع أن تثبت حضورها في مواقع القرار سواء داخل جهاز الشرطة أو على المستطيل الأخضر، نجاحها لم يكن وليد الصدفة بل هو ثمرة كفاح ومثابرة لسنوات طويلة، هي اليوم نموذج ملهم ليس فقط في المغرب، بل على مستوى القارة الأفريقية والعالم.

*كاتبة وإعلامية مغربية

مقالات مشابهة

  • بشرى كركوبي.. الضابطة المغربية التي تقود نهضة التحكيم الإفريقي
  • السفير عبدالله الرحبي: اللغة العربية كانت دائمًا حاضرة بقوة في تاريخ عمان (صور)
  • الخطاط لـRue20 : النموذج التنموي أعطى زخماً جديداً لأقاليم الصحراء المغربية
  • بعد الصور المتداولة.. محافظة الإسكندرية توضح أعمال تغيير أسوار الكورنيش
  • المؤرخة المغربية لطيفة كندوز في ذمة الله
  • «معلومات الوزراء»: إفريقيا استقبلت 7% زيادة في عدد السياح في أول 7 أشهر من 2024
  • القوات المسلحة الملكية تسقط طائرة “درون” على الحدود المغربية الجزائرية
  • الغرف السياحية: مصر تخطط لزيادة أعداد السياح عبر استراتيجيات مبتكرة
  • تربية التماسيح بغرب سهيل النوبية بأسوان تقليد يجذب السياح على مر العصور
  • حزب جديد ينضاف لقائمة الأحزاب المغربية…في انتظار تأشيرة الداخلية