قراءة في “تعال ننزع وجهك” لـ “طلال الصلتي”
تاريخ النشر: 6th, September 2023 GMT
أثير – مكتب أثير في تونس
قراءة: محمد الهادي الجزيري
عن طريق كبار الحومة، وصلت إلى طلال الصلتي، فرحّب بي ومدّني بكتابيه مشكورا وإنّي سأختار مجموعته الأولى الصادرة سنة 2018 وسأعود إلى الثانية الصادرة سنة 2020 مرّة أخرى، واخترت أن أبدأ تعريفي به وقراءة شعره بأوّل قصيدة نشرها في كتابه “تعال ننزع وجهك” تحت عنوان “تمهيد”، إيمانا بأنّ الشاعر يستظهر ببطاقة تعريفه أمام القارئ في أوّل مصافحة، ففيها بصمته وهويّته وبعض من نفسه، لذا اقتطفت هذه المقاطع القصيرة من القصيدة لنفهم بعض الشيء، هذا الشاعر العُماني الشاب الطافح بالكلمة والصورة والمعنى:
“لا تهرب من وجهك.
أمعن في المرآة إليه النظرا
سترى فوق جبينك قمرا
وترى تحت جبينك قمرا
وترى غابة وجدكَ..
وترى ريحا
تُحني الغابة وترا
وترى ولدا أسمر يمشي
فوق شفاه الضفّة حذرا
يحمل في يده صحراءً
يعصرها في فمه مطرا
لا تهرب من وجهك..
مهما أبداك منكسرا”
بهذا المقطع الافتتاحي، وضعنا الشاعر في سكة العناد الجميل؛ وهل ينفع مع الشعراء العناد، أعتقد أنّنا ظفرنا بمبدع متحدّ واثق من نفسه ومن موهبته وقلمه، ثمّ إنّي أعرف الشاعر من جملة وحيدة يقولها، وقد قال جملا تنزّ بشعرية وإن كانت في بدايتها ككلّ مولود يحتاج الوقت والعناية والجهد لكي يصير فحلا.
في القصائد الأولى ثمّة نبرة هجائية وإن ما زلت في بدايتها كقصيدة (غرفتي) فهي أيّ الغرفة تصير مأوى غريب وستره تخفيه عن المغرضين، تحجب عنهم فجر ميلاده، وتعلو النبرة قليلا في قصيدة (تدحرج) إذ يقول الشاعر:
“عندما كنّا في السهل..
كانوا يدحرجون الحجارة علينا كي لا نصعدْ
أمّا وقد صعدنا..
هاهم يدحرجون أنفسهم واحدا واحدا”
في كلامه تحضير لصراع مع السابقين أو الفاعلين في مشهد ما، على كلّ أنا شخصيا أميل لمثل هذه النفوس التي يخلق حربا أو منافسة، إن فُقدت فلا حياة بدون تزاحم بالمناكب والعزائم والقصائد.
ثمّة قصيدة بعنوان “موت” نقرأ فيها علاقة الشاعر بهادم اللذات ومفرّق الجماعات بطريقة محبّبة للنفس، فالموت يصبح حركة من الحركات فيقول: (طار) ويصبح فعل من أفعال الحياة فيقول الشاعر المخفّف على نفسه (نام)، أعتقد أنّه نجح في استيعاب الموت والتقليل منه وتهميشه إن جاز القول، لقد ارتاح وأراح إذ تخلّص منه بهذه الطريقة الشعرية الرهيفة الجميلة:
“نزحف من تحت سياج الشوك وأعيننا للأسفلْ
كيف سنعرف أنّ نهاية هذا الدرب بياض مقفلْ؟
……
جدّي كان ضحوك السنّ
وكان الآخر صارمْ
حين صحوتُ علمتُ بأنّ الأوّل طارَ
وأنّ الآخر نامْ”
توقّفت عند هذا المقطع المأخوذ من قصيدة (أسماء) الموجودة وسط المجموعة، توقّفت لأتمعن في المعنى الطافح منه، فالشاعر الحقّ من يكون مثل طلال الصلتي وإن كان في بداية مسيرته، يكون خائفا من ظلم يسلّطه عليه الناقد أو قارئ نصّه، لذا بيّن منذ مستهل الكتابة الابداعية أنّه لا يخشى شيئا إلا قلم يتعهد بالوضوح والتفسير لكنه قد يخطأ غالبا في ما يسعى إليه، لذا وجب التذكير بصعوبة الجملة الشعرية على الناقد، إلا من رحم ربي، قال الشاعر:
“الضوء عدّوي
لست سوى الظلّ
عدّوي الضوء يفصلّنا
أنا متن النصّ ويظلمني..
الناقد حين يؤولنا”
وفي هذه الإطلالة السريعة على بذرته الشعرية الأولى، “تعال ننزع وجهك” نترككم مع هذا الانتقاء الأخير، ريثما نولي الاهتمام بمجموعته الثانية “وكنت أحفر في صدري”، يقول الشاعر في قصيدة بعنوان (حفرْ) وهي منحوتة لعشق ربّاني إنساني:
“منحوتة ما أبدع النّاحتا
شفاهها، والمشمشَ النابتا
تمتدّ عيناي إلى وجهها
نورا، فيغدو غيره باهتا
حيّية لولا تقاسيمها
تصرخ بي صراخها الصامتا
لولا تجنّيها على أضلعي
تنبش فيها الزمن الفائتا
لساعة غرقت في سُبحتي
أحفر في المنحوتة الناحتا”
المصدر: صحيفة أثير
إقرأ أيضاً:
آن لهذا السُودان أن “يستعدَّل” «2»
آن لهذا السُودان أن “يستعدَّل” «2»
نضال عبد الوهاب
في المقال السابق والجزء الأول منه تحدثت على أن بلادنا ومُنذ أن ولدنا ثم وعيّنا وشبيّنا فيها رأينا العديد من الاختلالات بها، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وتنموياً وفي نظام الحُكم وكيفيته، ورأينا عدم العدالة فيها والظُلم الاجتماعي، ورأينا كيف أنها ظلت تُدار وتُحكم بطريقة لا تتماشى مع كُل التنوع والثراء فيها، وأن السمة الأغلب للحُكم والطاغية عليه كانت هي نظام الحُكم العسكري الديكتاتوري الإقصائي، وكتبنا عن أنه كيف ساهمت الأحزاب السياسِية في الانقلابات العسكرية بدلاً على أن تكون حامية وداعمة للديمُقراطية، ورأينا الإقصاء السياسي والاستبداد بالرأي وغياب الحريات، والبطش والتنكيل بالشعب السُوداني، ورأينا كيف تفجرت الصراعات المُسلحة مُنذ بدايات استقلال البلاد في العصر الحديث، حتى عمّت مُعظم البلاد خاصة في إطرافها ونشوء حركات الكفاح المُسلح نتيجة لتلك الاختلالات والظُلم والتهميش وللقضايا العادلة التي طرحتها وكانت ولاتزال تحتاج إلى الحلول السياسِية الصحيحة وتعالج كُل أزماتها وما أدى إليها من أساسها، وبدأت بحرب جنوب السُودان، والعُنف والدموية التي مارسها الجيش السُوداني وقواته المُسلحة خلالها، وتواصلت هذه الحرب على فترات، حتى بلغت حربها الثانية أكثر من 20 عاماً ومات وقُتل وتشرّد بسببها الملايين من السُودانيين.
نواصل اليوم في هذا الجزء، ونقول إن حرب الجنوب كانت دون ادنى شك تحتاج إلى حل سياسِي وليس عسكري، وأن عدالة قضية الجنوب لم تتعامل معها الأنظمة التي تعاقبت في الحُكم العسكرية والمدنية بالشكل الصحيح، فشلت جميعها في ذلك، حتى كانت النتيجة المؤسفة هي انفصال الجنوب نفسه في 2011، وفقدت بذلك البلاد جزءاً عزيزاً وهاماً نتيجة لقصر ضيق أُفق من تعاقبوا عليها في موضع القرار السياسِي، فمشكلة الجنوب عندما بدأت، رغم وجود بعض الأصوات الانفصالية من الجنوبيين، إلا أنها كانت أصوات معزولة ولا تُمثل رغبة غالبية أهل الجنوب نخبة وشعب، ولم يكن حق تقرير المصير الانفصالي هو الطاغي، هذا غض النظر عن إشكالياته القانونية المرتبطة بحق السيادة الذي يمنحه القانون الدولي للدول لمجابهة صراعاتها الداخلية والقوى الانفصالية للأقليات داخلها وحتى لا تتفتت الدول ويؤثر هذا على السلم العالمي، فبعيد عن هذا فقد كان أقصى ما طالب به الجنوبيون هو الحكم الذاتي ضمن حدود الدولة الأم “السُودان” وليس الانفصال، وذلك نسبةً لخصوصية الجنوب وشعب الجنوب غير المنتمي للعربية ولا للثقافة العربية الإسلامية، بعد الإصرار الغريب ممن آل إليهم حكم البلاد بعد الاستقلال من إعلاننا دولة وجمهورية “عربية”، ثم لاحقاً عربية وإسلامية في عهد الإسلاميين من الكيزان والإخوان المُسلمين وحركتهم الإسلامية، والتي كانت قد بدأت في أواخر عهد مايو بإيعاز ودعم منهم وتحولت لجمهورية عربية إسلامية، لدرجة تسمية رئيس البلاد نفسه بأمير أو إمام المُسلمين؟؟، وكل ذلك بعد تطبيق القوانين والشريعة الإسلامية وما عُرف بقوانين سبتمبر في 1983، وكانت تحول كبير في الصراع ما بين الجنوب والشمال، واندلاع الحرب أكثر امتداداً، وبداية التدخلات الأجنبية المُباشرة خاصة لليمين المسيحي المُتطرف في الغرب، والذي دعم انفصال وقيام دولة في جنوب السُودان، واستغل كُل هذا لاحقاً اليمين المتطرف كذلك الإسلامي في السُودان مُتمثل في الجبهة الإسلامية القومية “الحاكمة” بإعطاء الجنوبيين حق تقرير المصير الانفصالي والتمهيد لفصل الجنوب، مع دفع ومُساندة لدوائر عُنصرية داخل تنظيمهم الإسلامي دعمت هذا الإتجاه، حتى انتهى بصفقة مع البشير لإعفائه من المُحاكمات الجنائية الدولية وبعض رموز نظامه وعدم ملاحقتهم في مقابل التخلي عن جنوب السُودان وانفصاله، وللأسف قد بصمت غالبية القوى السياسِية وبقصر نظر منها و”قلة أفق” أراه على تمرير حق تقرير المصير الانفصالي هذا بدعاوى فطيرة وغير سليمة، بدلاً عن الذهاب للحلول السياسِية الواضحة والتي كانت سبباً في جذر المُشكلة وأساسها!!، فاختارت الحل الأسهل والذي خدم الفئة العُنصرية والمُتطرفة والأصوات الانفصالية الغالبة داخل الحركة الإسلامية لتعضيد حكمهم بعد التخلص من “صُداع” الجنوب في رأيهم والانفراد بحكم ما تبقى منه في الشمال والشرق والغرب باعتبار الأغلبية المُسلمة فيه بحسب تقديرهم، وكانت هذه قمة العبث والأنانية والتطرف وتغليب المصلحة الخاصة علي مصالح كُل السُودانيين، وكانت من أهمّ العوامل التي أفقدت ثقة السُودانيين في الحركة الإسلامية والإنتباه التام لأجندتها الخفية وغير الوطنية، إضافة لهز الثقة كذلك في بقية القوى الحزبية السياسِية التي انهزمت في امتحان الجنوب وفشلت في وضع الحلول التي تحافظ على وحدة السُودان وتقويته بدلاً عن فصله وإضعافه!….
ونواصل…
آن لهذا السُودان أن “يستعدَّل” (١)
الوسومالجبهة الإسلامية الحركة الإسلامية السودان القوى السياسية جنوب السودان حق تقرير المصير عمر البشير قوانين سبتمبر نضال عبد الوهاب نميري