يقف كل من المدير التنفيذي السابق لشركة النفط السويدية Lundin Oil التي أصبحت تسمى الآن Orron Energy، إيان لوندين، ونائب رئيس الشركة المسؤول عن العمليات آنذاك أليكس شنايتر، أمام محكمة في ستوكهولم في أكبر محاكمة جنائية في تاريخ البلاد.

التغيير: وكالات

بدأت محاكمة مديرين تنفيذيين سابقين لشركة نفط سويدية أمام محكمة في ستوكهولم الثلاثاء بتهمة التواطؤ في جرائم حرب مع نظام الرئيس السوداني السابق عمر البشير بين عامَي 1999 و2003.

يقف كل من المدير التنفيذي السابق لشركة النفط السويدية Lundin Oil التي أصبحت تسمى الآن Orron Energy، إيان لوندين، ونائب رئيس الشركة المسؤول عن العمليات آنذاك أليكس شنايتر، أمام محكمة في ستوكهولم في أكبر محاكمة جنائية في تاريخ البلاد، تأتي بعد أكثر من 10 سنوات من التحقيقات، الأطول والأكبر في تاريخ السويد، حيث استمر التحقيق 13 عاما، وتضمنت مواد التحقيق على أكثر من 80 ألف صفحة، ومن المتوقع أن تستمر المحاكمة نفسها حتى فبراير 2026.

ويحاكم المليارديرين السويديين اللذان كانا يشغلان منصبهما في الفترة من 1998-2002 بتهمة “التواطؤ في جرائم حرب”، حيث اكتشفت شركة “لوندين” عام 1999 نفطا في “بلوك 5أ” في حوض مقلد، ليصبح الحقل فيما بعد نقطة مواجهات بين الجيش السوداني والميليشيات المتحالفة مع نظام الرئيس عمر البشير من جهة، وبين ميليشيات متمردة من جهة أخرى.

جرائم ضد الإنسانية

ويرى المدعي العام السويدي كريستر بيترسن أن المسؤولين متواطئين في جرائم ضد الإنسانية لطلبهما من الحكومة السودانية في ذلك الوقت ضمان أمن الشركة في الموقع، مع معرفتهما حينها أن ذلك سينطوي على استخدام “القوة العسكرية”، حيث يقول بيترسن في بيانه: “لقد قدما هذا الطلب وهما على علم، أو بلا اكتراث على أقل تقدير، بأن الحرب التي يخوضها الجيش والميليشيات تنتهك القانون الإنساني الدولي”.

وبحسب لائحة الاتهام فإن الجيش السوداني نفذ مع حلفائه “عمليات عسكرية من أجل السيطرة على المنطقة وتهيئة الظروف اللازمة لتنقيب شركة (لوندين أويل) عن النفط”، فيما نقلت الوثيقة عن المدعي العام السويدي بيترسن قوله إن التحقيقات “تظهر أن الجيش والميليشيات المتحالفة معه هاجموا المدنيين أو نفذوا هجمات عشوائية بشكل منهجي”.

وتراوحت هذه الهجمات بين قصف جوي وإطلاق نار على مدنيين من مروحيات وعمليات خطف ونهب وحرق قرى ومحاصيل”.

السجن مدى الحياة

وحال إدانتهما، سيواجه المتهمين عقوبة السجن مدى الحياة، كما أعلن المدعي العام أنه سيسعى إلى منعهما من إدارة أي شركات لمدة 10 سنوات، وطالب بحجز 2.4 مليار كرونة (218 مليون دولار) أي ما يعادل قيمة الأرباح التي حققتها الشركة من عملياتها في السودان حتى العام 2003.

وينفي المتهمان ارتكاب أي مخالفة، فيما يقول محامو الدفاع إن التحقيقات لا تؤكد ما توصلت إليه النيابة العامة، وقال محامي إيان لوندين، تورغني فيتربرغ، لوكالة “فرانس برس”، إن السنتين المخصصتين لهذه المحاكمة ستكونان “مضيعة للوقت وإهدارا للموارد”.

واستمرت الحرب الأهلية الثانية في السودان أكثر من 21 عاما في الفترة من 1983-2005، وأسفرت عن استقلال جنوب السودان عام 2011 بعد إجرائه استفتاء.

الوسومإنتاج النفط في السودان السويد النظام البائد

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: السويد النظام البائد

إقرأ أيضاً:

منصور خالد: أهدى طُرق الرجل في البحث هي التي يتَجنّبُ

منصور خالد: أهدى طُرق الرجل في البحث هي التي يتَجنّبُ (1-3)
عبد الله علي إبراهيم
الفصل الحادي والاربعون من كتابي “. . . ومنصور خالد”
حاولت عبر عقود الإنقاذ الثلاثة مهاداة المعارضة أن تكف عن الخوض في خطاب الهامش والمركز بالغرض المعارض (أو الجهل لا فرق). فالإنقاذ ستسقط، ولكنهم سيرثون فتنة الأعراق التي استثاروها. وتجد هنا فصلاً من كتابي “. . . ومنصور خالد” أخذت فيه عليه مجازفته بربط عمل جماعات من شعب جبال النوبة “الألتة” (نقل “عيفونة” المراحيض) إلى مستقرها برق الشماليين التاريخي بينما نهضت الدلائل على فساد هذه الفكرة. والغريبة أنه وقف على مرجع درس الظاهرة بغير حاجة إلى ربطها بالرق الشمالي فأضرب عنه وأخذ منه العفو. وهذا عتو.
ولذا قلت إن كان لهذه الحرب من ثقافة من ورائها فهي من عوس معارضة وقع طلاق البينونة بينها وبين الفكر. ولما جاءت للحكم تفجر ذلك العوس في وجهها وقصم ظهرها.
إلى الفصل:
نسبني البعض للاشتطاط وذلك حين اشتبهت في تقلُّد منصور درجة الدكتوراه التي ظلت تسبق اسمه منذ ذاع صيته في السودان بمقالات بعد ثورة أكتوبر جمعها في كتابه “حوار مع الصفوة” (1979). بل تجرَّأ أحدهم وقال إن الرجل يزين هذه الدرجة العلمية ونقصها لا يشينه. وهذا تبذُّل ذهب بالإحسان في بلدنا جملة واحدة. ولم نكن لنشغل أنفسنا بمؤهَّل منصور لو أنه كتب ما يعنُّ له مثل سائر الكاتبين. ولكنه كاتب ذو عزة مهنية علمية سامقة كما رأينا. فقد نعى على فكرنا الاختباط نسدجُّ به في الباطل لمفارقته المنهج التوثيقي. وهو عنده المنهج الأشد “لزوماً عند تناولنا القضايا الاجتماعية المعقَّدة التي لا ينبغي أن يبتني الناسُ أحكامهم فيها على افتراضات وساوس، وشوائع ملهوجة، وثوابت مزعومة “جنوب السودان في المخيلة العربية، صفحة 7”. ومثل هذا كثير جداً عند الرجل. فلا يستغربن محاكمته بما قال إلّا أرعن.
أقف بالقارئ بهذا الفصل من كتابنا عن منصور ليرى بنفسه عوار منهج منصور العِلمي. وأفدح مظهر في سوأة الرجل ككاتب أنه يـُطفِّف في مراجع بحثه. فلا تَرُدُّه عن رأي اتفق له حُجَّة أو كشف فكري. فلم يُخْلَق بعد المرجع الذي يتواضع عنده منصور. فيعيد النظر عن ذائعة وافقت هواه أو معتقده. ومتى بطُل مفعول المرجع أصبح البحث لعبةً غرضها الأسمى طلب الكاتب الشوكة بها لنفسه، كما قال أحدهم. وهذا العتوُّ الفكري مستغرب من مثل منصور الذي سلق فكرنا بلسان حديد لأننا نتشاحَّ في الأمور “بلا كتاب منير يضئ طريق البحث والاستقصاء” “جنوب السودان في المخيلة العربية، صفحة 6″. وستجد منصور يَزورُ الكتاب المنير فيزوَّر عنه مستعصماً بـ”افتراضات وساوس، وشوائع ملهوجة، وثوابت مزعومة”.
وأضربُ على استعلاء منصور على مصدره مثلاً. فقد ظل يروج لفكرة أن عمل أبناء جبال النوبة في “الألته” (وهي نقل قاذورة مراحيض الجرادل) من آثار الرق في السودان. وهو رق مارسه عرب الشمال المسلمون على النوبة. ومن ذيوله إيكال هذه الخدمة المهينة لهم. وعرض منصور لهذه المسألة مرَّتين على الأقل في كتبه السائرة. مرة في “جنوب السودان في المخيلة العربية” (2000) وثانية في “السودان: أهوال الحرب” (2003). وكان بمتناول منصور كتاب منير (زكاه هو نفسه بعبارات قوية) لربما لو قرأه حقاً لتحفَّظ في نظرته للنوبة والألته، ولرتـًّبها بصورة أكثر نفاذاً ونفعاً لتاريخنا الاجتماعي. زعم منصور في كتابه عن المخيلة العربية (صفحة 427) أن خدمة الألته المسيئة وقعت للنوبة لأن الرق الشمالي قد أحلهم مرتبة اجتماعية دنيا. فمن رأيه أن الرق في السودان خلق تراتبية اجتماعية قطعت لكل قبيل من السودانيين ما يصلح له من شغل بحُكم الأصل والفصل. وجاء منصور في هذا السياق بما يذكِّر المرء بنظم الطوائف الهندية من براهما ومنبوذين وغيرهما. ففي السودان أيضاً، حسب قول منصور، طوائف محتـَقَرة تمارس مهناً وضيعة. ومن أولئك النوبة التي اختصَّها ذلك التراتب السوداني طائفياً بنقل حاويات البراز البشري من المراحيض العامة والخاصة على الرؤوس والأكتاف. وهي خدمة، في عقيدة منصور، لم يزاولها أبناء جبال النوبة مياومة في الخرطوم وضواحيها في فترة الاستعمار فحسب، بل وأيضاً طوال فترات الحكم الوطني حتى عام 1969 حين ألغي نظام انقلاب مايو 1969 هذه الممارسة بعد عقدين من الاستقلال. وقد أسعد ذلك المحامي معتصم التقلاوي فكتب كلمة تستدرّ الدموع فرحاً بالموقف. ومعتصم كان من بين صفوة النوبة الذين أنشأوا تنظيماً في 1967 باسم الزنوج الأحرار. ولم يسُر هذا أهل الشمال ف “استنفج” غضبهم، في قول منصور، أن تنشيء النوبة عصبة سياسية وهم قوم بور.
واستعان منصور بالنظرة المقارنة لبيان رأيه. فنظر إلى موريتانيا التي أصبحت صنواً للسودان في مادة الرّقّ وذيوله. فقارن منصور وضع البلدين من جهة التراتبية الاجتماعية. واستبعد أن يواجه السودان ثورة تحريرية دموية من “عبيده” السابقين كما وقع بين بيضان موريتانيا وسودانها. فالسودان ” كان أسعد حالاً لأسباب عددا. منها أن الاستعمار حارب الرق واستوعب المبرِّزين من أبناء الزنوج المنبتين (detribalized كما يقال)، أي مَنْ لم يربطهم بالريف والقبائل رباط؛ في مواقع مميزة كالجيش، فلعبوا دوراً مميزاً في المجتمع برغم جحود شمالي منكر. ومما لطّف من هذه الثورة أيضاً لجوء الجنوبيين للعنف منذ بواكير الاستقلال.
وفي كتابه (السودان: أهوال الحرب – 2003) عاد إلى موضوع الألته في سياق عرضه لنشأة جماعة الكتلة السوداء في 1942. وقد انحدر أسلاف مُنشئي هذا التنظيم من جبال النوبة والجنوب ودارفور بقيادة ضباط معاشيين منهم ومهنيين. وكانت خدمة النوبة في الألته من ضمن ما استفزهم لطلب المساواة بين الأعراق في البلد. وقال منصور أن أداء الألته كان محصوراً على أبناء جبال النوبة: “وكان قَدَرُ أبناء جبال النوبة أن يحملوا تلك القاذورات على رؤوسهم”. وزاد بأن شعب الدينكا شابه الشماليين في تكليف الجماعة المستضعفة بالمهن المستحقَرة. فقد قصَّروا الحدادة على الفرتيت البانتو ممَّن ظنَّوهم أدنى منزلة. ومع ذلك استقبح الألته وقال إنها الأفظع لتجريدها العامل فيها من آدميته. وقال إنها صنعة جاء بها الإنجليز من الهند وخصوا بها المنبوذين. ولم تُرفَع عنهم إلا باستقلال الهند. ولم يوقف هذه الممارسة المسيئة في السودان إلّا نظام نميري بعد 13 عاماً من الاستقلال.
الشاهد هنا أن منصور قصر عمل الألته على أبناء جبال النوبة كجماعة مستحقَرة لأنها كانت نهباً قديماً للنِّخاسة. ونريد هنا، قبل الخوض في نظرية منصور، عن هذه الخدمة المسيئة نقض عقيدة الرجل في أنّ النوبة وحدهم هم من ابتــُلوا بخدمة الألته من دون السودانيين الآخرين. ومتى ما أثبتنا أن الألته شملت النوبة وغير النوبة أصبح ميسوراً بالطبع الطعن في نظرية منصور عن الاستحقار والرق والمهن. فقد جاءت الدراسات المستجَدَّة بما وسّع نطاق من خدموا الألته فوضح شمولها غير النوبة.
ونواصل

منصور خالد: أهدى طُرق الرجل في البحث هي التي يتَجنّبُ (2-3)
عبد الله علي إبراهيم
قصل من كتابي “. . . ومنصور خالد”
رأينا كيف قصر منصور قصر عمل الألته على أبناء جبال النوبة كجماعة مستحقَرة لأنها كانت نهباً قديماً للنِّخاسة. ونريد هنا، قبل الخوض في نظرية منصور، عن هذه الخدمة المسيئة نقض عقيدة الرجل في أنّ النوبة وحدهم هم من ابتــُلوا بخدمة الألته من دون السودانيين الآخرين. ومتى ما أثبتنا أن الألته شملت النوبة وغير النوبة أصبح ميسوراً بالطبع الطعن في نظرية منصور عن الاستحقار والرق والمهن.
جاءت الدراسات المستجَدَّة بما وسّع نطاق من خدموا الألته فوضح شمولها غير النوبة. فلم يَقصِر كتاب أحمد العوض سكنجا “من دَرَك الرَّقيق إلى دَرَج العُمَّال” (1996) الشغلة على النوبة. وهو كتاب قرأه منصور منذ تأليفه “جنوب السودان في المخيلة العربية” (2000) وأشاد به على صفحة 415 منه. ثم اعتمده في ثبت مراجعه في كتابه “السودان: أهوال الحرب” (2003). وعلى إلحاف منصور على مسألة النوبة والألته في كتابين؛ مرَّت سنوات ثلاث على صدورهما، لم يتمهل فيستجلي بيِّنة الأمر كما يجدر بباحث طويَّته البحث عن الحقيقة. لم يَقْصِر سكنجا في كتابه المنير مهنة الألته على النوبة كما ذكرنا. ففي صفحاته (123-125) شمل الرقيق المحررين أو الآبقين أيضاً في شغل الألته في بدء عهد الاستعمار. وقال إن هذا المصدر جفَّ بالتدريج لأن الرقيق السابقين اشمأزوا منه وابتعدوا عنه. فلجأت السلطات للسجناء ليخدموا الألته. وتعذَّر هذا المصدر أيضاً لأن خدمة المساجين هي سحابة النهار لا طوايا الليل بينما الألته من خدمات الليل لأنها مُقرفة وروائحها طاردة. فأولى بها أن تؤدَّى ليلاً. ولجذب العاملين للخدمة فيها زادت سلطات الخرطوم الأجر اليومي الى تسعة قروش بغير نتيجة. وشحَّ الطلب للعمل فيها حتى كادت السلطات أن تـُلغي النظام بأسره. ولكنهم وجدوا أن بعض مهاجرة النوبة في الخرطوم راغبين في الخدمة للغرض. ولكن هذا المدد النوبي سرعان ما تهدَّده التوقُّف لبدء الحكومة في “سياسة جبال النوبة” المعروفة التي قضت بالنجاة بالنوبة وغيرهم من تأثير الإسلام والعربية. ومن باب أولى أن تعترض الحكومة على هجرات النوبة للشمال النيلي حتى لا يقعوا فريسة تأثيرات الشمال المــُنكَرة. وكان الرأي أن “يكشوا” (جمع وترحيل الجماعة عنوة) النوبة في الخرطوم ليعودوا بهم إلى بلدهم لينشأوا على لبن ثقافتهم الأصل الخالصة. وطلب السكرتير الإداري من مديري المديريات الشمالية ردَّ النوبة إلى بلودهم. ثم استفسرهم عن أعداد النوبة وغير النوبة. العاملين في الألته، وعن أجورهم. وتساءل إن كان بوسعهم الحصول على غير النوبة لاستخدامهم في المهمة. واتضح بالتحرِّي أن وجود النوبة في تلك المديريات غير ضروري لخدمة الألته. ففي مديرية الفونج، التي خلت من النوبة، خدمها المساجين. ورأى المسؤولون أن بوسع المديرية استخدام شعب القُمَّز للخدمة كاحتياطي. وورد في تقارير تحرى المفتشين فيها عن النوبة في خدمة الألته فوجدوهم اثني عشرة من جملة مائة وتسعة عاملاً في مديرية بربر، وسبعة من تسعة وعشرين عاملاً في مديرية أخرى، بينما كان هناك اثنان وتسعون من الحلنقة والبني عامر والبورنو والفور، وثلاثة من جملة ثمانية عمال بالنيل الأبيض فيهم الدينكا والفور والفرتيت والهمج والبرقو.
لا تتَّفق إذن الاحصائيات من حصيلة تحرِّيات الإنجليز مع منصور في قَصْرِ عمل الألته على النوبة. بل جاءت بما يفيد أنه كان من بين عمالها عربٌ ممَّن نسبهم منصور إلى الجماعة الشمالية المميَّزة. وقد عَرَض سكنجا قائمة بالأصول العِرقية والقبلية لعمال الألته بمصطلح مفتشي الإنجليز فكانت على هذا النحو:
سودانيون (عبيد) وجنوبيون (زنوج) = 35
سودانيون (عبيد) وجنوبيون (زنوج) = 35
الفور وغرباويُّون من غير العرب = 28
عرب (رحل) = 19
فلاتة = 8
دناقلة = 6
أثيوبيون = 1
ونواصل

منصور خالد: أهدى طُرق الرجل في البحث هي التي يتَجنّبُ 3-3
عبد الله علي إبراهيم
قبل أن تقع هذه الحرب استدعتها أقلام مثل منصور خالد بثقافة لم تتمثل لقواعد البحث في شعواء المعارضة أو تزكية النفس.
رأينا كيف قصر منصور قصر عمل الألته على أبناء جبال النوبة كجماعة مستحقَرة لأنها كانت نهباً قديماً للنِّخاسة. ولم يثبت هذا بالبحث. فجاءت الدراسات المستجَدَّة بما وسّع نطاق من خدموا الألته فوضح شمولها غير النوبة. فلم يَقصِر كتاب أحمد العوض سكنجا “من دَرَك الرَّقيق إلى دَرَج العُمَّال” (1996) الشغلة على النوبة. وهو كتاب قرأه منصور منذ تأليفه “جنوب السودان في المخيلة العربية” (2000) وأشاد به على صفحة 415 منه. ثم اعتمده في ثبت مراجعه في كتابه “السودان: أهوال الحرب” (2003). وعلى إلحاف منصور على مسألة النوبة والألته في كتابين؛ مرَّت سنوات ثلاث على صدورهما، لم يتمهل فيستجلي بيِّنة الأمر كما يجدر بباحث طويَّته البحث عن الحقيقة.
ويغري ما جاء عند سكنجا بدراسة الألته كي نبلغ تاريخاً اجتماعياً كاشفاً نافعاً يتجاوز منصور الذي كم ضَيَّق واسعاً! فواضح من مكاتبات الإداريين الإنجليز حول هذه المهنة العصيبة أنها ممّا تحكَمت فيه سياسات استعمارية للعمل والأجر والثقافة والإدارة. فـــالألته عملٌ مأجور لم يسبق في البلاد. فلم يفرضه الإنجليز سُخْرة حتى. مع أن السخرة كانت ضرباً معتمداً في الخدمة للمستعمرين تجلت في تعبيد الطرق وتنقية القنوات في جنوب البلاد وشمالها كما سنرى في فصلٍ قادم من هذا الكتاب (. . . ومنصور خالد).
وليس واضحاً في المكاتبات أن الإنجليز قصدوا النوبة بتلك الخدمة بإغراءٍ من منزلتهم الدنيا في التراتب الاجتماعي كما اعتقد منصور. فقد كانت الألته معروضة في سوق العمل لمن يأخذها. وقد رأينا أن النوبة لم يكونوا وحدهم فيها بل جمعت أشتاتاً من السودانيين. ولجذب العاملين للخدمة فيها جعلها الإنجليز المهنة الأعلى أجراً. فقد حصل العامل بين 120 إلى 170 قرشاً في الشهر. وهذا أعلى بكثير من أجر المياومين الآخرين. وبلغ أجر المياوم فيها ثلاثين قرشاً خلال الأزمة الاقتصادية في 1929.وتحاشاها كثير من العمال مع ذلك وقبلوا بأجر تراوح بين ثلاثة إلى أربعة قروش في اليوم للخدمة في غير الألته. وعليه فالنظر في الألته كعمل مأجور في سياق استعماري حداثي هو الخطة المثلى للعلم بهذا الجانب من تاريخنا الاجتماعي. وهذا التعريف الحسُن بالمسألة هو ما يسمِّيه منصور ب “تسوير المسألة” أي تحديدها. فتعريف مسألة البحث على وجهها الحق هو أول عتبة في طريق فهمها بشكل ناجز. فالتشخيص كما يعرف كل طبيب هو أسُّ العلاج.
من جهة أخري ستنبهم علينا خدمة الألته إذا لم نقرأها على خلفية سياسة المناطق المقفولة تلك التي زعم الإنجليز تبنيها للحفاظ على ثقافات “زنج” السودان من تأثيرات الثقافة العربية الإسلامية الشمالية. وكان رائد هذه السياسة، وعُرفت ب “سياسة النوبة” في مديرية كردفان ومديرها آي جى جيلان (1928-1932). وقامت هذه السياسة على “كرتنة” النوبة في جبالهم وحجبهم عن الهجرة للشمال. واستخدم الإنجليز “الكَشَّة” لحمل النوبة المهاجرة حملاً لإخلاء الخرطوم. ولكن سرعان ما تغلَّب منطق العمل المأجور على الثقافة. فعلى اتّفاق مدير مديرية الخرطوم مع سياسة النوبة إلا أنه كان الأعلى صوتاً في الاحتجاج على “كشة” النوبة. فقد صارت خدمتهم في الألته، في مقتضى سوق العمل، ماسَّة لا يسُدُّ مَسَدَّهم أحدٌ. وحذّر مفتش الصحة، من جهة أخرى، أنه لو توقّف وفود الجنوبيين والنوبة إلى الخرطوم فسينهار النظام الصحي. وسادت البراجماتية على الثقافة. وتوقَّفت الحكومة عن “كَشَّة” النوبة. وقَبِل بذلك حتى جيلان، واضع السياسة، وفوَّض الأمر لمدير الخرطوم مع التذكير ألا يشجع النوبة على البقاء في الخرطوم ما وسعه بالبحث عن بدائل للعمل بغير النوبة. ولكنه قَبِل مع ذلك أن يبقى بالخرطوم النوبة المنبتُّون (the detirblized) ممن لا رباط قبلي حي لهم بالجبال ما لم يكونوا نواة استيطان لنوبة طازجين من الجبال. واستمر الإنجليز مع ذلك على سياسة عدم تشجيع لا الجنوبيين ولا النوبة للوفود الى الخرطوم.
ومتى “سوَّرنا” مسالة الألته والنوبة على هذا النحو فسدَت حُجّة منصور في الربط بين عمل النوبة هذا والرق الشمالي ومترتباته. فلم يأتِ النوبة للألتة كطائفة مستحقَرة ترسَّبت عن الرق. فقد جاءها سودانيون آخرون بعضهم لم يضرسهم الرق بنابه. كما جاء النوبة للمهنة المسيئة في ملابسات سوق العمل الذي فتحه الإنجليز على مصراعيه. وسيكون من المفيد أن ننظر إلى اختيار بعض النوبة العمل في الألته في مقتضى هذا السوق. فهل دفعهم لولوج هذا السوق حاجتهم للنقد لسداد ما عليهم للحكومة من جزية ودقنية فُرضت نقداً؟ وهل اضطرهم إلى هذه الشغلة حاجز من لغة، أو مؤهل، أو صلة نافذة حالت بينهم دون أشغال أخرى؟ فقد أوقفت بعض الجماعات السودانية بعض الخدمات على نفسها. مثل شغل الدَّريسة للرباطاب والمرمطونات للنوبيين. وكان هناك من بين هذه الجماعات من يـُجَنِّد لها من أهله. فواضح أن جبر الهجرة للعمل بالشمال (وفي مثل شغلة الألته) كان قوياً لم تصمد له حواجز سياسة جبال النوبة التي لم تُرد للنوبة أن يكونوا في الشمال أبداً.
ما جئنا به أعلاه هي طرائق البحث في التاريخ الاجتماعي على هدي كتاب منير. وكان حَرَيـَّاً بكتاب سكنجا المنير أن يُسعف منصور دون الترويج الأيديولوجي لعقائده التي قوامها “افتراضات وساوس، وشوائع ملهوجة، وثوابت مزعومة” مما اشتكى هو نفسه في شغل غيره.

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • تأجيل محاكمة 11 متهما بقضية خلية داعش الهرم لـ1 ديسمبر المقبل
  • قرقاش: الإمارات أكبر مانح مساعدات إنسانية للفلسطينيين في غزة
  • قرقاش: الإمارات أكبر مانح مساعدات إنسانية للفلسطينين في غزة
  • قائد أنصار الله يتعهد بتصعيد أكبر بعد العملية النوعية التي استهدفت “تل أبيب”
  • اليوم.. نظر محاكمة 11 متهما بقضية خلية داعش الهرم
  • ما العوامل التي تجعل المريض يخسر وزنا أكبر عند استخدام أوزمبيك أو ساكسيندا؟
  • منصور خالد: أهدى طُرق الرجل في البحث هي التي يتَجنّبُ
  • الجيش يتوقع إنهاء الحرب في السودان قبل نهاية العام الجاري و يكثف غاراته الجوية على “الدعم السريع” في مدن عدة
  • أكبر مصفاة نفط في أفريقيا تبدأ بيع البنزين بعد اتفاق نهائي
  • روسيا تعثر على خريطة أكبر قواعد الجيش الأمريكي