كانت البداية عند أطباء التغذية، فالجميع يعرف أن الكثير منهم يمنعون بعض الأطعمة أثناء الحمية الغذائية، وبطبعي كشخص مطيع، كنت أطبق الكلام كما يقول الكتاب، لكني لاحظت بعد كل حمية أنني، ودون أن أشعر، أصاب بنهم للأطعمة التي حُرمت منها.
تكرر الموضوع مراراً وتكراراً، وهنا كانت الوقفة التي دعتني للتفكير في هذا الموضوع، فوجدت أن الحرمان يؤدي بطبيعة الحال للنهم.
وسألت نفسي! ماذا عن الحرمان بمفهومه الواسع في الحياة؟ فوجدت أنني أدخل عالمًا غامضًا يختلف من شخص لآخر، فيمكن أن يكون الحرمان هو مجرد نقص في الحاجة المادية، أو يمكن أن يكون عميقًا جدًا حينما يتعلق بالاحتياجات العاطفية والروحية.
إن الحرمان هو الشعور القاتم الذي ينتابنا عندما نشعر بأن هناك شيئًا نحتاجه بشدة ولا نمتلكه.
إنها تلك الأشواق المستمرة والتي تبقى تسحر أفكارنا وترافقنا في كل لحظة من أوقات حياتنا.
يمكن أن يكون الحرمان نتيجة لأسباب مختلفة، منها الظروف المادية، والعلاقات الإنسانية، وحتى الفرص التي فاتتنا، ومع ذلك، يمكن أن يكون الحرمان أيضًا من الأشياء الأخرى التي قد لا تكون ضرورية للبقاء على قيد الحياة، ولكنها تضيف قيمة ومعنى لحياتنا.
في الحقيقة أننا عندما نتعرض للحرمان من أي شيء نحبه ونشتاق إليه، نبدأ في تجربة مشاعر مختلفة مثل الحزن، والغضب، والإحباط، لأننا لا شعورياً قد نجد أنفسنا نرغب بشدة في ملء هذا الفراغ.
ولكن هل يمكن أن يكون الحرمان أيضًا شيئًا إيجابيًا؟
قد يبدو غريبًا، ولكن في بعض الأحيان يمكن أن يكون الحرمان دافعًا لتحفيزنا على النمو والتطور، فيمكن أن يجبرنا الحرمان على البحث عن حل جديد، فنكتشف بالصدفة قدرتنا الهائلة التي لم نكن نتخيلها من قبل، فالحرمان ليس نهاية العالم، بل بداية لرحلة جديدة من التطور، فنجد قوتنا وإصرارنا الحقيقيين، "في اللحظات الصعبة من الحرمان، نجد إلهامنا".
وكما بدأت رحلتي الفلسفية لتأمل الحرمان والتي كانت مع الطعام، دعوني أعود مرة أخرى للحديث عن هذا الموضوع، فعندما يتعرض الشخص لفترات طويلة من الحرمان من الطعام أو يعاني من الجوع المستمر، يمكن للجسم أن يتفاعل بشكل طبيعي من خلال تنشيط آليات البقاء على قيد الحياة، وعندما يبدأ في تلبية احتياجاته الغذائية بشكل مفرط بعد فترة طويلة من الحرمان، قد يشعر بالنهم الشديد ويأكل بكميات كبيرة من الطعام بسرعة، وهذا النهم الشديد يعرف عادة باسم "اضطراب تناول الطعام النهمي" أو "النهم المضطرب".
وكذلك الحرمان من العطف والحب والحنان يمكن أن يؤدي إلى النهم العاطفي، فعندما يشعر الإنسان بأنه لا يتلقى الاهتمام والمشاعر الإيجابية من الآخرين بشكل كافٍ، يمكن أن ينتج عن ذلك نوع من النهم العاطفي، والذي يمكن أن يظهر بأشكال مختلفة، منها التشبث الزائد بالعلاقات السلبية، أو البحث المتكرر عن التأكيد والاعتراف من الآخرين، أو الانخراط في علاقات غير صحية بهدف الحصول على العطف والاهتمام.
لذا، يتوجب علينا إدراك أهمية بناء علاقات صحية ومتوازنة مع الآخرين، فذلك يمكن أن يساعد في تجنب الوقوع في فخ النهم العاطفي.
في النهاية، يظهر لنا الحرمان ككيفية معقدة ومتعددة الأوجه تؤثر على حياتنا بشكل عميق، فيمكن أن يكون الحرمان تحديًا يدعونا للتفكير والنمو، ولكنه أيضًا يمكن أن يكون ضغطا نفسيا يجب علينا التعامل معه بعناية، فلنكن حذرين من أن نسمح للحرمان بالسيطرة على حياتنا، وبدلاً من ذلك، دعونا نستفيد منه كفرصة للتطور والنمو، فنحن أقوى مما نتصور، والحياة دائمًا مليئة بالفرص للتغلب على التحديات.
المصدر: صدى البلد
إقرأ أيضاً:
بهذه الطريقة وحدها يكون لبنان قويًا
سؤال وفرضية كان مؤسس حزب "الكتائب اللبنانية" الشيخ بيار الجميل يردّدهما في استمرار من دون أن يلقى جوابًا شافيًا عن سؤاله "أي لبنان نريد"، وبقيت فرضية أن "قوة لبنان بضعفه" تتفاعل حتى أدخل "حزب الله" لبنان واللبنانيين في حرب لا هوادة فيها، وهي مستمرّة لليوم الخامس والخمسين كأنها بدأت بالأمس القريب. ومع كل يوم يمرّ تكثر الخسائر البشرية والمادية، حتى أن بعض الذين يتوقعون أن تطول الحرب إلى ما بعد 20 كانون الثاني المقبل يقولون بأن إسرائيل مصمّمة على ألا يبقى في لبنان حجر على حجر على رغم الضربات الموجعة التي توجّهها "المقاومة الإسلامية" في العمق الإسرائيلي. وفي ضوء هذه السردية في عمليات الردّ والردّ المضاد يخسر لبنان كل يوم كامل مقومات صموده في وجه الأزمات، التي أصبحت أكبر من قدرته على التحمّل، خصوصًا أنه بات على شفا انهيار تام نتيجة ما يعانيه من تدمير ممنهج لقرى بأكملها ستكون عملية إعادة بنائها مكلفة جدًّا، فضلًا عمّا تراكمه هذه الحرب من خسائر اقتصادية تنذر بالوصول إلى ما هو أسوأ مما يعانيه جميع اللبنانيين في حياتهم اليومية.
فأضرار هذه الحرب الطويلة كثيرة، زمنًا ونتائجَ ومضاعفاتٍ واستنزافًا، وهي ترهق كاهل الدولة بكل مؤسساتها، التي تحصر همّها في كيفية البقاء واقفة على رجليها وتأخير انهيارها بالكامل. فالتطورات الميدانية لا توحي بأن التسوية الشاملة قد نضجت، خصوصًا أن من يراقب عنف الضربات الإسرائيلية لمواقع تدّعي تل أبيب بأنها مستودعات ذخيرة أو معامل تصنيع المسيّرات يستنتج تلقائيًا أن الحرب لا تزال في بداياتها، وذلك قياسًا إلى السقف العالي للأهداف الإسرائيلية، وهي أهداف يتبيّن للقاصي والداني أنها تتخطّى حدود ضرب ترسانة "حزب الله". والدليل على أن هذه الأهداف لا تقتصر على ضرب عصب "المقاومة الإسلامية"، هو أنها تطال كل لبنان، الذي أصبح كما يصف وضعه مراقبون دوليون بلدًا منكوبًا بكل ما يتضمّنه هذا التوصيف من واقع يصعب تجاوزه حتى ولو توقفّت الحرب اليوم قبل الغد.
وعلى رغم الضربات الموجعة التي توجهها "المقاومة الإسلامية" للعمق الإسرائيلي فإن انعكاسات الحرب هي أضعافٌ مضاعفة على لبنان، الذي كان يعاني في الأساس من أزمات سياسية واقتصادية وأمنية لا عدّ لها ولا حصر، خصوصًا أنه متروك من دون رئيس للجمهورية منذ ما قبل عملية "طوفان الأقصى"، وما قبل "حرب الاسناد والمشاغلة"، وما قبل الحرب التدميرية الشاملة.
من هنا، يستنتج هؤلاء المراقبون من فرضية بيار الجميل الجدّ بأن "قوة لبنان بضعفه" ما يمكن تسميته اليوم "الحياد الإيجابي". فلو أن لبنان كان بلدًا محايدًا، بتوافق جميع أبنائه وبغطاء دولي، لما انجّر إلى حرب غير متكافئة الإمكانات والنتائج السلبية بغياب أي أفق للعودة إلى ما قبل 7 تشرين الأول 2023. أمّا وقد وجد اللبنانيون أنفسهم في قلب جحيم المعركة غصبًا عنهم فليس أمامهم سوى حلّ من أثنين: إمّا التأقلم مع وضعيتهم الاستنزافية حتى آخر الرمق الاقتصادي الأخير، وإمّا التسليم بالأمر الواقع ووقف الحرب، التي يسقط فيها كل يوم مئات الشهداء والجرحى، وتُزال قرى عن "بكرة أبيها" بلحظات جنونية.
وفي رأي هؤلاء المراقبين أن مقولة أن الحديد لا يفّله سوى الحديد، وأن الإسرائيليين لا يفهمون سوى لغة النار والبارود، لم تعد صالحة بالقدر الذي يمكن تصوّره في ضوء ما تتعرّض له معظم المناطق الجنوبية والبقاعية وأحياء وشوارع الضاحية الجنوبية لبيروت من دمار وتهجير يزداد يومًا بعد يوم. ويعترف هؤلاء بأن ليس لدى "حزب الله" ما يخسره، وهو الذي لا يخاف من الموت، كما يعلن ويصرّح المسؤولون فيه، ولكن مجرد إعطاء الإسرائيليين المزيد من الحجج والذرائع لتنفيذ ما يحلو لهم من مخطّطات باتت مكشوفة هو كمن يصارع الدب بيديه العاريتين.
ويخلص هؤلاء إلى التأكيد على أن قوة لبنان بعلاقاته الديبلوماسية مع مختلف دول العالم، ولكن هذه العلاقات تحتاج إلى محفزّات تحاكي مصالح هذه الدول، وذلك انطلاقًا من كون لبنان قيمة مضافة لكل هذه الدول مجتمعة، سواء أكانت تُعتبر شقيقة أو تلك التي تُعتبر صديقة، خصوصًا أن مؤتمر باريس 1 والقمة العربية الإسلامية أظهرا مدى تعّلق دول العالم بأسره بهذه الظاهرة الفريدة التي أسمها لبنان، ولكن شرط أن يثبت اللبنانيون أنفسهم أنهم أهل لهذه الثقة الدولية.
المصدر: خاص "لبنان 24"