تناولت في مقالي السابق مفهوم «الجمال الطبيعي»، وبينت كيف تكون صور الجمال في الكون دليلًا فلسفيًّا على وجود الخالق أو المصوِّر الأعظم. غير أن هذا الجمال على تنوعه وكثرته التي لا تُحصى، يختلف تمامًا عن الجمال أو الجميل في الفن الذي يُسمى أو يوصَف بأنه «موضوع إستطيقي»، أي موضوع يتم إبداعه وتأمله من خلال الإحساس الجمالي: فهو يتم إبداعه من خلال إحساس الفنان ورؤيته الفنية وأسلوبه الخاص في التعبير، وهو يتم تأمله من خلال المتذوق الذي يسترشد بعين الفنان ورؤية الناقد.
إن الاختلاف الواضح بين الجمال الفني والجمال الطبيعي هو اختلاف يعني ببساطة أن الفنان حتى حينما يتخذ موضوعًا طبيعيًّا جميلًا مستهدفًا تصويره في عمله الفني، فإنه لا ينقل الموضوع الطبيعي إلى نسيج لوحته أو تصويره الأدبي على النحو الذي يأتي عادة أو يكون عليه في الطبيعة: فما نجده على نسيج اللوحة إنما هو رؤية الفنان لمشهد الطبيعة وتصويره لهذا المشهد بالنظر إليه من خلال أسلوبه الخاص في الرؤية وفي التشكيل الفني وفي التعامل مع اللون ومع سطح اللوحة في النهاية؛ وهذه حقيقة لا جدال فيها. ولكن ما ينبغي أن نسلم به في الوقت نفسه باعتباره حقيقة لا تقبل الجدال أيضًا هو تلك الحكمة القديمة التي تقول لنا: «لا شيء ينتج من لا شيء»، أي «لا شيء ينتج أو يأتي من العدم»! وهذا يعني أنه ليس هناك فنان لم يتأثر بهذا الجمال الطبيعي ويتعلم منه: فمن هذا الجمال الطبيعي قد تعلم الفنان على الدوام التشكيلات اللونية البديعة وعلاقات الأشكال بعضها ببعض، وعلاقات الظل بالضوء، وغير ذلك كثير. وكل فنان قد تعلم ذلك من الطبيعة قبل أن يسعى إلى التعبير عنها بأسلوبه الخاص، وحتى قبل أن يسعى إلى تبديلها والثورة عليها من أجل التعبير عن فكرة أو رؤية ما ! هذه حقيقة لا جدال فيها، ليس فقط من خلال التأمل والنظر أو البرهنة، وإنما أيضًا من خلال ما يتبدى من خلال الوقائع والوثائق التي تطلعنا على مسار إبداعات الفنانين المجددين في أساليب الإبداع الفني؛ ذلك أن معظم الفنانين العظام قد بدأوا ممارسة الفن -مثل غيرهم- من خلال التعلم في مدرسة الفنانين السابقين عليهم؛ بل إن الفنانين الذين عمدوا في فنهم إلى تشويه الأشكال البشرية وغير البشرية في لوحاتهم، كما في التكعيبية وغيرها، كانوا على معرفة واسعة ودقيقة بالنحو الذي تكون عليه منظورات الأشياء وتشريح الأجسام في الطبيعة، ولكنهم أرادوا لنا أن ننظر إلى الأشياء والأجسام من منظور جديد يعبر عن دلالاتها، حتى إن كان ذلك من خلال تغيير وتبديل المنظور الذي تبدو عليه في الواقع. وعلى هذا يمكن القول إن أساتذة فن التصوير المعاصر الذين عمدوا إلى التشويه المتعمد للأشكال الطبيعية الجميلة، وللوجوه والأجسام البشرية، كانوا أيضًا أساتذة في فن التشريح وكانوا قادرين تمامًا على تصوير الجمال الطبيعي من خلال المنظور التقليدي التي تتبدى عليه الأجسام والأشكال في الواقع؛ ولكن هؤلاء الأساتذة لم يكن يشغلهم الجمال الطبيعي على النحو الذي يأخذ بمجامعنا في عالم الواقع والطبيعة، وإنما كان يشغلهم تكثيف التعبير والدلالة الجمالية، حتى إن كان ذلك من خلال تغيير العلاقات بين الأشياء والخطوط والتكوينات والأحجام، والتركيز على تكثيف المعنى والدلالة والتأثير الذي يمكن أن تحدثه اللوحة أو العمل الفني.
وإذا أضفنا إلى ما تقدم أن الفن قد يتمثل موضوعات قبيحة في الطبيعة والواقع الإنساني: كالحروب والدمار والشر والموت، وما إلى ذلك؛ فربما زاد ذلك من قناعتنا بما هنالك من اختلاف واضح يستدعي التمييز بين التعبير الجمالي في الفن وبين الجمال بمفهومه الطبيعي كما نجده من حولنا. ومع ذلك كله، فإننا لا ينبغي أن نتصور أن هذا التمييز يعني أن هناك قطيعة بين هذين النوعين من الجمال، ليس فحسب لأن الفنان يتعلم من الطبيعة على النحو الذي تقدم بيانه، وإنما أيضًا -وهذا هو الأهم- لأن الحدود بين الفن والطبيعة كثيرًا ما تتداخل في الإبداع الفني، خاصةً في الفن المعاصر. يتبدى ذلك بوضوح ومنذ عهد بعيد في فن البستنة أو تنسيق الحدائق Horticulture الذي بلغ ذروة تطوره في العصر الحديث، كما تمثل في حدائق فرساي التي أمر بإنشائها لويس الرابع عشر لتعبر عن رؤية سياسية وثقافية لمعنى الملوكية وسطوتها في ذلك العصر، وهي الحدائق التي تعبر عن آيات من الجمال الفني باستخدام عناصر هائلة من الجمال الطبيعي. ولقد تطور فن الحدائق الآن في عصرنا هذا، ولكن يظل الجمال الطبعي هو مادته الأساسية كما في حدائق الزن اليابانية، حيث تداخل الرؤية الفنية مع عناصر الطبيعة بهدف خلق تأثير جمالي ووجداني، وخلق شخصية معينة لفن البستنة تجعله مختلفًا عن نموذج الحدائق التقليدية المُهندَسة وفقًا لمبادئ التوازن والسيمترية. ولا شك في أن فن المعمار البيئي في عصرنا الراهن ينبغي أن يضع في حسبانه دائمًا كل تلك الحقائق حينما يقوم باستخدام الفراغ المحيط بالأبنية التي لها مكانة حضارية ودلالة مهمة في الدول التي تهتم بجماليات البيئات المُشيَّدة. والحقيقة أن هذا الموضوع المتعلق بفن الحدائق يستحق مقالًا آخر قائمًا بذاته.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی الفن من خلال ذلک من
إقرأ أيضاً:
بريق الغلاف لا يعكس دائماً كنز المضمون
بقلم : اللواء الدكتور سعد معن الموسوي ..
“كم من بديعِ المظهرِ قبيحِ الجوهر، وكم من بسيطِ الهيئةِ عظيمِ القيمة.” بهذه الحكمة يُمكن أن نختصر تجربتنا الإنسانية مع البشر الذين يُشبهون الكتب في تفاوت أغلفتها ومحتواها. فالإنسان، مثل الكتاب، يحمل أسرارًا عميقةً لا تُقرأ إلا حين تُقلب صفحاته، وقد تكون تلك الصفحات أثمن مما يوحي به الغلاف.
الغلاف خدعة البصر، والمحتوى محك البصيرة
في عصرٍ أصبح فيه الشكل أهم معيار للحكم، بات الكثيرون يُشبهون السطح المذهب الذي يخفي فراغًا داخليًا. تظهر هذه الظاهرة في الدراسات النفسية والاجتماعية التي تناولت تأثير “الهالة” أو ما يُعرف بـHalo Effect، وهو ميل الإنسان لتعميم الانطباع الأول بناءً على المظهر الخارجي أو الصفات الظاهرة. في هذا السياق، أظهرت دراسة أجراها عالم النفس “إدوارد ثورندايك” أن الأفراد يميلون إلى ربط الجاذبية الشكلية بالكفاءة والصدق، حتى وإن كانت هذه الصلة وهمية.
لكن الحقيقة أن المظهر ليس أكثر من خدعة بصرية قد تخفي خلفها إما جوهرًا نقيًا أو خواءً مطبقًا. وكم من مرة وقفنا أمام كتابٍ زينت أغلفته الرفوف، لكنه ما إن فُتح حتى كشف عن فقره، بينما وجدنا العكس في كتابٍ متواضع الهيئة أثار فينا دهشةً لا تُنسى.
القيمة في التجربة لا في القشرة
تجارب الحياة تعلمنا أن الجمال الحقيقي ليس مرئيًا. يمكن استدعاء قول الإمام علي (عليه السلام): المَرْءُ مَخْبُوءٌ تَحْتَ طَيَّاتِ لِسَانِهِ.”
بمعنى أن قيمة الإنسان تظهر في فكره وأفعاله، لا في ملبسه أو مظهره. ولعل هذا يفسر النجاح الباهر لشخصيات تاريخية وعلمية تركت أثرًا خالدًا دون أن تلتفت يومًا إلى قشور المظاهر، مثل ماري كوري التي لم تُعرف بالأزياء أو الجمال، لكنها أدهشت العالم بعلمها وإنسانيتها.
في دراسة أخرى أجرتها جامعة “هارفارد”، وُجد أن الأفراد الذين يُظهرون قيمًا مثل التعاطف، النزاهة، والإبداع يُحققون تواصلًا أعمق مع محيطهم مقارنة بأولئك الذين يركزون على المظهر أو الإنجازات السطحية. هذه القيم هي التي تجعل الإنسان جذابًا في أعين الآخرين، وتؤسس لعلاقات متينة ومستدامة.
الأدب أيضًا يعزز هذا المفهوم. ألم يدهشنا بطل “البؤساء” جان فالجان، الذي كان يُنظر إليه كمجرمٍ في الظاهر، بينما حمل في داخله روحًا نبيلة ملأتها التضحية والرحمة؟ الأدب يُعيد تشكيل نظرتنا إلى البشر، ويعلمنا أن العبرة دائمًا بما يكمن في العمق.
أفكار مبتكرة لتغيير المفهوم السائد
ثقافة المحتوى الداخلي: لماذا لا نُعيد صياغة مفهوم الجمال في مناهجنا التعليمية؟ يمكن تصميم برامج تركز على الأخلاق، الإبداع، والقيم الإنسانية كمعايير حقيقية للجمال، بدلاً من التركيز على الهيئات الخارجية. تجربة اجتماعية مُلهمة: تخيل مبادرةً تسلط الضوء على قصص أشخاص ناجحين وملهمين لا يتطابق مظهرهم مع الصورة النمطية للجاذبية. مشاركة هذه القصص عبر منصات التواصل الاجتماعي قد تُلهم الأجيال الجديدة ليروا الجمال في أبعاده الحقيقية. أدب السيرة الذاتية: شجع كتابة السير الذاتية من منظور داخلي، بحيث يُبرز الأفراد ما صنعوه من خير وما حققوه من عمق إنساني، بعيدًا عن الإنجازات الشكلية.يُقال إن الزمن يكشف الجوهر ويُهلك الزيف. وهكذا، فإن ما يبقى من الإنسان ليس شكله ولا مظهره، بل أثره في قلوب الآخرين. وكما قال الشاعر:
“وما الحسنُ في وجه الفتى شرفًا له
إذا لم يكن في فعله والخلائقِ”
لنجعل من هذا القول قاعدةً حياتية، ولنُدرك أن الجمال الحقيقي هو ذلك الذي يُضيء العقول، يُطهر القلوب، ويُعمر الأرواح. فالحياة قصيرة، وما يخلد منها هو المحتوى، لا الغلاف.
اللواء الدكتور
سعد معن الموسوي