لجريدة عمان:
2024-11-15@20:42:36 GMT

الجمال في الفن

تاريخ النشر: 5th, September 2023 GMT

تناولت في مقالي السابق مفهوم «الجمال الطبيعي»، وبينت كيف تكون صور الجمال في الكون دليلًا فلسفيًّا على وجود الخالق أو المصوِّر الأعظم. غير أن هذا الجمال على تنوعه وكثرته التي لا تُحصى، يختلف تمامًا عن الجمال أو الجميل في الفن الذي يُسمى أو يوصَف بأنه «موضوع إستطيقي»، أي موضوع يتم إبداعه وتأمله من خلال الإحساس الجمالي: فهو يتم إبداعه من خلال إحساس الفنان ورؤيته الفنية وأسلوبه الخاص في التعبير، وهو يتم تأمله من خلال المتذوق الذي يسترشد بعين الفنان ورؤية الناقد.

إن الاختلاف الواضح بين الجمال الفني والجمال الطبيعي هو اختلاف يعني ببساطة أن الفنان حتى حينما يتخذ موضوعًا طبيعيًّا جميلًا مستهدفًا تصويره في عمله الفني، فإنه لا ينقل الموضوع الطبيعي إلى نسيج لوحته أو تصويره الأدبي على النحو الذي يأتي عادة أو يكون عليه في الطبيعة: فما نجده على نسيج اللوحة إنما هو رؤية الفنان لمشهد الطبيعة وتصويره لهذا المشهد بالنظر إليه من خلال أسلوبه الخاص في الرؤية وفي التشكيل الفني وفي التعامل مع اللون ومع سطح اللوحة في النهاية؛ وهذه حقيقة لا جدال فيها. ولكن ما ينبغي أن نسلم به في الوقت نفسه باعتباره حقيقة لا تقبل الجدال أيضًا هو تلك الحكمة القديمة التي تقول لنا: «لا شيء ينتج من لا شيء»، أي «لا شيء ينتج أو يأتي من العدم»! وهذا يعني أنه ليس هناك فنان لم يتأثر بهذا الجمال الطبيعي ويتعلم منه: فمن هذا الجمال الطبيعي قد تعلم الفنان على الدوام التشكيلات اللونية البديعة وعلاقات الأشكال بعضها ببعض، وعلاقات الظل بالضوء، وغير ذلك كثير. وكل فنان قد تعلم ذلك من الطبيعة قبل أن يسعى إلى التعبير عنها بأسلوبه الخاص، وحتى قبل أن يسعى إلى تبديلها والثورة عليها من أجل التعبير عن فكرة أو رؤية ما ! هذه حقيقة لا جدال فيها، ليس فقط من خلال التأمل والنظر أو البرهنة، وإنما أيضًا من خلال ما يتبدى من خلال الوقائع والوثائق التي تطلعنا على مسار إبداعات الفنانين المجددين في أساليب الإبداع الفني؛ ذلك أن معظم الفنانين العظام قد بدأوا ممارسة الفن -مثل غيرهم- من خلال التعلم في مدرسة الفنانين السابقين عليهم؛ بل إن الفنانين الذين عمدوا في فنهم إلى تشويه الأشكال البشرية وغير البشرية في لوحاتهم، كما في التكعيبية وغيرها، كانوا على معرفة واسعة ودقيقة بالنحو الذي تكون عليه منظورات الأشياء وتشريح الأجسام في الطبيعة، ولكنهم أرادوا لنا أن ننظر إلى الأشياء والأجسام من منظور جديد يعبر عن دلالاتها، حتى إن كان ذلك من خلال تغيير وتبديل المنظور الذي تبدو عليه في الواقع. وعلى هذا يمكن القول إن أساتذة فن التصوير المعاصر الذين عمدوا إلى التشويه المتعمد للأشكال الطبيعية الجميلة، وللوجوه والأجسام البشرية، كانوا أيضًا أساتذة في فن التشريح وكانوا قادرين تمامًا على تصوير الجمال الطبيعي من خلال المنظور التقليدي التي تتبدى عليه الأجسام والأشكال في الواقع؛ ولكن هؤلاء الأساتذة لم يكن يشغلهم الجمال الطبيعي على النحو الذي يأخذ بمجامعنا في عالم الواقع والطبيعة، وإنما كان يشغلهم تكثيف التعبير والدلالة الجمالية، حتى إن كان ذلك من خلال تغيير العلاقات بين الأشياء والخطوط والتكوينات والأحجام، والتركيز على تكثيف المعنى والدلالة والتأثير الذي يمكن أن تحدثه اللوحة أو العمل الفني.

وإذا أضفنا إلى ما تقدم أن الفن قد يتمثل موضوعات قبيحة في الطبيعة والواقع الإنساني: كالحروب والدمار والشر والموت، وما إلى ذلك؛ فربما زاد ذلك من قناعتنا بما هنالك من اختلاف واضح يستدعي التمييز بين التعبير الجمالي في الفن وبين الجمال بمفهومه الطبيعي كما نجده من حولنا. ومع ذلك كله، فإننا لا ينبغي أن نتصور أن هذا التمييز يعني أن هناك قطيعة بين هذين النوعين من الجمال، ليس فحسب لأن الفنان يتعلم من الطبيعة على النحو الذي تقدم بيانه، وإنما أيضًا -وهذا هو الأهم- لأن الحدود بين الفن والطبيعة كثيرًا ما تتداخل في الإبداع الفني، خاصةً في الفن المعاصر. يتبدى ذلك بوضوح ومنذ عهد بعيد في فن البستنة أو تنسيق الحدائق Horticulture الذي بلغ ذروة تطوره في العصر الحديث، كما تمثل في حدائق فرساي التي أمر بإنشائها لويس الرابع عشر لتعبر عن رؤية سياسية وثقافية لمعنى الملوكية وسطوتها في ذلك العصر، وهي الحدائق التي تعبر عن آيات من الجمال الفني باستخدام عناصر هائلة من الجمال الطبيعي. ولقد تطور فن الحدائق الآن في عصرنا هذا، ولكن يظل الجمال الطبعي هو مادته الأساسية كما في حدائق الزن اليابانية، حيث تداخل الرؤية الفنية مع عناصر الطبيعة بهدف خلق تأثير جمالي ووجداني، وخلق شخصية معينة لفن البستنة تجعله مختلفًا عن نموذج الحدائق التقليدية المُهندَسة وفقًا لمبادئ التوازن والسيمترية. ولا شك في أن فن المعمار البيئي في عصرنا الراهن ينبغي أن يضع في حسبانه دائمًا كل تلك الحقائق حينما يقوم باستخدام الفراغ المحيط بالأبنية التي لها مكانة حضارية ودلالة مهمة في الدول التي تهتم بجماليات البيئات المُشيَّدة. والحقيقة أن هذا الموضوع المتعلق بفن الحدائق يستحق مقالًا آخر قائمًا بذاته.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فی الفن من خلال ذلک من

إقرأ أيضاً:

بين الدمار والحياة.. بائع زهور يعيد الألوان إلى الضاحية

الورود والركام لا يجتمعان سويّة، فالأولى تمثل الجمال والحبّ، أما الثانية فهي نتيجة الحقد والحرب. ولكن لدى اللبنانيين القدرة على ابتكار شيء من الفرح، ولو عنوة عنهم في خضمّ حرب تعدّ من الأسوأ بتاريخ البلاد، لخلق حياة ما من التناقضات.

وبما أننا اعتدنا على صلابة الشعب اللبناني، ليس من الغريب أن يخلق بائع زهور لوحة جميلة من أنقاض ضاحية بيروت الجنوبية من خلال باقة ورود زاهية الألوان، على أمل إعطاء بعض الأمل في أوقات الحرب.     View this post on Instagram  

A post shared by FLOWERS & BEYOND (@plantoleb)



تظهر سلسلة من مقاطع الفيديو صاحب محلّ لبيع الزهور وهو يزور الضاحية الجنوبية لبيروت حيث يقوم بترتيب باقات الزهور الملونة على لوح خشبي بجوار محل الزهور المدمر الخاص به. وفي حين يحيط به الدمار، يبدو الشاب هادئاً وهو يستغرق وقتًا لخلق لحظات من الجمال وسط الدمار.

وفي رحلة على صفحته على إنستغرام، ينشر فيديوهاته مرفقة بجمل تعبيرية ملهمة ومنها " ستشرق الشّمس، إنّ الله مع الصابرين".

وتحت إحدى منشوراته التي تظهر تكرارًا لصورة فان جوخ الذاتية على خلفية الدمار، كتب: "نحن شعب يحب الفن والحياة، ويخلق الجمال بجميع أشكاله وألوانه، من خلال أصعب الطرق وأفضل الأوقات. مبدعون دائمًا، لا نهزم أبدًا، ولا نؤمن بالمستحيل".     View this post on Instagram      

A post shared by FLOWERS & BEYOND (@plantoleb)




على الرغم من التحديات التي يواجهها لبنان، يواصل شعبه إظهار حبه للحياة. وفي إحدى أكثر المناطق التي تتسم بالألم والمأساة، تأتي مبادرات بسيطة ولطيفة لتربط اللبنانيين بخيط الأمل والحياة بينما كل ما من حولهم يسحبهم نحو الموت والهاوية. المصدر: خاص "لبنان 24"

مقالات مشابهة

  • رئيس غزل المحلة: نثق في الجهاز الفني واللاعبين للوصول للمراكز الأولى بالدوري
  • أسماء بنات تعبر عن الفرح والجمال مع معانيها
  • اتجاهات السفر في 2025: وجهات تقلل التوتر وتجمعك مع الطبيعة
  • رشيد مشهراوي يتحدث لـ "الفجر الفني" عن فيلمه الفلسطيني أحلام عابرة فيلم افتتاح القاهرة السينمائي
  • أيقونة الجمال والأناقة.. سوسن بدر تخطف الأنظار من مهرجان القاهرة السينمائي
  • عبد الرحمن الخميسي.. الشاعر الذي اكتشف السندريلا وأضاء سماء الفن
  • صحة الدقهلية: العلاج الطبيعي تستقبل 31 ألف حالة وتجري 88 ألف جلسة خلال 3 أشهر
  • بين الدمار والحياة.. بائع زهور يعيد الألوان إلى الضاحية
  • إنتعاشة فنية لـ ميرنا نور الدين.. تعرف على أبرز الأعمال التي تنتظر عرضها (تقرير)
  • ما الذي نعرفه عن المقاتلات الأمريكية التي تقصف الحوثيين لأول مرة؟