لمواجهة انعدام الاستقرار يجب عدم الاقتصار على السياسة النقدية وحدها
تاريخ النشر: 5th, September 2023 GMT
لا بد من بذل جهدٍ كبير من الخيال لكي يتذكر المرء أنه قبل ثلاث سنوات بالضبط، خلال الندوة السنوية التي عقدها الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في جاكسون هول (ولاية وايومنغ)، لم يكن الحديث يدور سوى عن مخاطر التضخم المنخفض كثيرا ووسائل التغلب عليه. أما هذا العام، فلقد كانت النغمة مختلفة تماما. أكّد البنك المركزي الأوروبي بقدر كبير من الحزم، شأنه في ذلك شأن الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، على ضرورة خفض التضخم إلى نسبة 2% في محاولة لاستعادة مصداقية السياسة النقدية التي تضرّرت بسبب النتائج السيئة لعام 2022.
غير أنه إذا كان الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي قد اقتصر بشكل أساسي على التحكم في توقعات أسعار الفائدة للأشهر القادمة، فالبنك المركزي الأوروبي قد شرع في تطوير تحليل أعمق من الناحية البنيوية. ومع توالي سلسلة من الخطابات - التي ألقتها بداية الألمانية إيزابيل شنابل (Isabel Schnabel) - عضو مجلس إدارة البنك -، ثم رئيسة البنك كريستين لاغارد (Christine Lagarde)، تشكّلت فكرة مفادها أننا دخلنا منذ عام 2020 في فترة جديدة تتميز بـانتشار المخاطر التضخمية.
يُعَد خطاب كريستين لاغارد في جاكسون هول التعبير الأكثر وضوحا عن هذا التحليل. ويستشهد بثلاثة تحوّلات مستدامة يعرفها الاقتصاد العالمي: التغيّرات الحاصلة على مستوى السياق المرتبط بالطاقة، والتي زادت حدّتها بفِعل الانتقال المتسارع نحو اقتصاد خالٍ من الكربون؛ والتفكك المتزايد للاقتصاد العالمي، وخاصة بسبب تصاعد المنافسات الجيوسياسية؛ وتحولات سوق العمل التي لا تزال تعاني من الآثار المترتبة عن جائحة كوفيد. إن اجتماع هذه العوامل الثلاثة لا تدل على نهاية عقد انكماشي وحسب، وإنما أيضا على نهاية فترة «الاعتدال الكبير» للأسعار والأجور، والتي بدأت في مطلع تسعينيات القرن الماضي.
تكرّر الصدمات
لا ريب أن الحرب في أوكرانيا تمثل قطيعة بين مرحلة عرفت وفرة في الطاقة الأحفورية ومرحلة أخرى تشهد تحولا على مستوى النّظم الطاقية. وفي نهاية المطاف، سيضع هذا التحوّل حدّا للاعتماد على الطاقات الكربونية، ومن شأنه أن يعيد إلينا نوعا من الاكتفاء الذاتي في الطاقة، والذي من المفترض أن يكون عامل استقرار. غير أن السنوات العشرين القادمة قد تتّسم بتكرار الصدمات التي ستتعرّض لها إمدادات المعادن الحيوية، وبهشاشة النظام الطاقي الآخذ في التحوّل. ومن غير الوارد أن نعود إلى عالم حيث كان الغاز الروسي والغاز الصخري الأميركي يضمنان توازن السوق من دون حدوث الكثير من التقلبات في الأسعار.
وهناك أيضا الكثير من الأسباب التي تجعلنا نعتقد أن المنافسات الجيوسياسية وتفكك الاقتصاد العالمي سيكون لهما تأثير تضخّمي واضح. ومهما كانت مشروعيته، فإن مطلب الصمود في وجه هذه التحديات له تكلفة، تُقاس بنقاط تضخم إضافية. وينضاف إلى ذلك تأثير ما يسمى على نحو مُحتشم بالحد من الخطر الصيني، والذي غالبا ما يكون ستارا للحمائية، في سياقٍ حيث الصين، بعد أن لعبت دور جيش احتياطي عالمي من العاملين لما يقرب من ثلاثة عقود، لم تعد على أيّ حال تمارس ضغوطا انكماشية على الأسعار في الاقتصاد العالمي. وفي هذا المجال، فإن محافظي البنوك المركزية ليسوا في موقع اتخاذ القرار، ولكنهم على حقٍّ حينما يؤكدون بحزم أن الاختيارات السياسية لها ثمن لا بد من دفعه.
تظل الأمور أقل وضوحا عندما يتعلق الأمر بسوق العمل. من المؤكد أن انخفاض العرض في سوق العمل وضعف مكاسب الإنتاجية سيُفضيان في المستقبل القريب إلى صدمة على مستوى الأسعار. لكن التقدم الحاصل في مجال الذكاء الاصطناعي سيكون له تأثير عكسي بلا شك. ما من أحد يعلم على وجه اليقين في هذه المرحلة كيف سيكون أثر الذكاء الاصطناعي التوليدي على الإنتاجية، لكن الدراسات الأولية المتوفرة حاليا تشير إلى أنه قد يكون كبيرا. ومن الممكن في نهاية المطاف أن يكون تأثيره على المعروض من السلع والخدمات إيجابيا على نحو جليّ، إذا لم يجد أصحاب الوظائف التي سيدمّرها أنفسهم مستبعدين فجأة من سوق العمل.
الأرضية والسقف
لا يجوز لنا إذن أن نلوم البنك المركزي الأوروبي لأنه حاول أن يرى بوضوح تأثير التحولات البنيوية على التضخم. لكن الصعوبة، بالنسبة إليه كما الحال بالنسبة إلى البنوك المركزية الأخرى، ذات طبيعة مزدوجة. يتحتّم عليها بدايةّ الحفاظ على التوازن فيما يخص تقييم المخاطر. ولا ينبغي أن تحجب مجددا أولوية اللحظة رؤية مخاطر الاتجاه المعاكس. وإذا كانت الاتجاهات الانكماشية قد سادت على مدى عشر سنوات تقريبا، فإن هذا يرجع إلى أن القوى التي تدفع في ذلك الاتجاه كانت شديدة. وسيكون من الخطر التقليل من شأن تلك القوى.
تتمثل الصعوبة الثانية في كون التغيّرات البنيوية تؤثر أيضا على الاستراتيجية النقدية. وفي الأوقات العادية، تعدّ نسبة 2% كهدف للتضخم مستوى معقولا. ولكن حينما تتعرّض الأسعار النسبية لصدمات متعددة وواسعة النطاق، صعودا أحيانا وهبوطا أحيانا أخرى، فإنه يبدو مستوى جد منخفض. ومن خلال محاولتنا حصر هذه الأسعار النسبية في نطاق ضيق للغاية، فإننا نخاطر بخنق التسويات الضرورية. ولهذا السبب، لا ينبغي علينا أن نستغني عن التفكير في الجواب الصائب على تكرار الصدمات التي تنشأ عن العرض وليس عن الطلب.
يدعو البعض في نهاية المطاف إلى رفع المستوى المستهدف للتضخم. الوقت الآن ليس بطبيعة الحال بالوقت المناسب لقول ذلك. ولكن كما كتب الخبير الاقتصادي الأمريكي جيسون فورمان (Jason Furman) مؤخرا حول الاحتياطي الفيدرالي، فسوف تحلّ قريبا اللحظة التي يكون فيها بوسع البنك المركزي الأوروبي استثمار مصداقيته في تغيير هدف التضخم. ومن الممكن أن يستمد الإلهام من تجارب البلدان الصاعدة، التي تواجه قدرا كبيرا من عدم الاستقرار وحيث يتم تحديد هدف التضخم غالبا من خلال ممر له أرضية وسقف. وبشكل عام، وكما أظهرت صدمة أسعار الطاقة في عام 2022، لا ينبغي أن تقتصر مواجهة عدم الاستقرار على السياسة النقدية وحدها. إن الأمر يتطلب ولا ريب تقسيما جديدا للعمل بين السياسة النقدية والسياسة الإنفاقية. والآن هو الوقت المناسب للشروع في التفكير في نظام السياسة الاقتصادية الجديد.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: البنک المرکزی الأوروبی الاحتیاطی الفیدرالی السیاسة النقدیة
إقرأ أيضاً:
محافظ البنك المركزي يشارك في الاجتماع السنوي عالي المستوى لصندوق النقد العربي
شارك حسن عبدالله محافظ البنك المركزي المصري في "الاجتماع السنوي التاسع عشر عالي المستوي حول الاستقرار المالي والأولويات التنظيمية والرقابية" بأبو ظبي، والذي استمرت فعالياته على مدار يومي 18 و19 ديسمبر 2024، بحضور خالد محمد بالعمى محافظ مصرف الإمارات العربية المتحدة المركزي، والدكتور فهد بن محمد التركي المدير العام رئيس مجلس إدارة صندوق النقد العربي، و فرناندو ريستوي رئيس معهد الاستقرار المالي، وعدد كبير من محافظي البنوك المركزية بالدول العربية.
تضمن الاجتماع العديد من الجلسات التي ناقشت عددًا من القضايا والموضوعات ذات الأولوية للبنوك المركزية والأنظمة المصرفية العربية، منها اتجاهات المخاطر في الأنظمة المالية بالدول العربية، والأولويات الرقابية في ظل التغيرات الاقتصادية والتداعيات الجيوسياسية، ودور البنوك المركزية في ضوء تزايد الاعتماد على الذكاء الاصطناعي والتطورات التكنولوجية، وتعزيز حوكمة البنوك المركزية، والمبادئ الأساسية المعدّلة للرقابة المصرفية الفعالة وانعكاساتها على الأطر الرقابية والاحترازية.
وخلال مشاركته في الجلسة الأولى من الاجتماع أوضح حسن عبدالله محافظ البنك المركزي المصري أن تعزيز الاستقرار المالي ومرونة القطاعات المصرفية العربية يكتسب أهمية كبيرة في الوقت الراهن.
لافتًا إلى أن البنوك المركزية تقوم بدور رئيسي في هذا الإطار من خلال ضمان تبني البنوك لسياسات ديناميكية ودقيقة لإدارة المخاطر واستعدادها للتكيف مع الظروف المتغيرة والصدمات المتلاحقة والمخاطر الناشئة المتعلقة بتغيرات المناخ والتحديات السيبرانية، وذلك عبر تطبيق أدوات السياسة الاحترازية الكلية، مؤكدًا على ضرورة التنسيق بين كل من السياسة المالية والسياسة النقدية لتعزيز الاستقرار الاقتصادي، واحتواء الضغوط التضخمية وتوجيه المزيد من التمويل للقطاع الخاص لدفع النمو الاقتصادي.
وأوضح المحافظ أن البنك المركزي المصري يقوم بصورة دورية بتقييم صلابة القطاع المصرفي في مواجهة المخاطر المختلفة التي قد تهدد الاستقرار المالي، وذلك من خلال منظور احترازي كلي، حيث يتم تطبيق اختبارات الضغوط الكلية ضمن سيناريو متكامل للمخاطر الاقتصادية والمالية والجيوسياسة والمناخية بهدف قياس مدى تأثر القطاع المصرفي بالمخاطر النظامية التي قد تنتج عن تلك الصدمات، وقد أظهرت هذه الاختبارات مرونة القطاع المصرفي المصري في مواجهة مختلف المخاطر، وفاعلية السياسة الاحترازية الكلية والجزئية للبنك المركزي المصري في تعزيز الاستقرار المالي.
وجدير بالذكر أن هذا الاجتماع السنوي يمثل أهمية كبيرة لصانعي السياسات ومتخذي القرار في البنوك المركزية والمؤسسات المالية والمصرفية وكبار مسؤولي الرقابة المصرفية في المنطقة العربية، باعتباره لقاءً دوريًا يضم خبرات متميزة ومسؤولين رفيعي المستوى، ويناقش أهم المستجدات في قضايا الاستقرار المالي والتشريعات الرقابية، بما يساهم في الخروج برؤى قيّمة يتم ترجمتها إلى قرارات فاعلة تعمل على تعزيز الاستقرار المالي في الدول العربية.