ربما لا تكون نهاية أمريكا حتمية
تاريخ النشر: 5th, September 2023 GMT
يحلو لأمريكا أن تفكر في نفسها بعبارات التفخيم، فهي المدينة المضيئة أعلى التل، والبلد الذي لا غنى عنه، وأرض الأحرار، وفي كل لقب من أولئك ما فيه، لكن ثمة عبارة أخرى، وهي لا تنطوي دائما على الإطراء، وتنطبق أيضا على الولايات المتحدة، وهي: الإمبراطورية العالمية.
خلافًا لبقية المفاهيم، التي نشأت عند مخاض الجمهورية العصيب، يرجع المفهوم الأخير إلى المراحل الأخيرة من الحرب العالمية الثانية، ففي مؤتمر بريتن وودز الشهير، أنشأت الولايات المتحدة نظامًا دوليًا للتبادل التجاري والتمويل كان في جوهره اقتصاد إمبريالي[إمبراطوريا] يوجه بلا إنصاف ثمار النمو العالمي إلى مواطني الغرب.
وبالتوازي مع ذلك، أنشأت أمريكا الناتو ليوفر مظلة أمنية لحلفائها، وأنشأت منظمات من قبيل منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية لصياغة سياسات مشتركة، وعلى مدار النصف الثاني من القرن، حقق هذا النظام درجة من السيطرة العالمية لم تعرف إمبراطورية مثيلًا لها من قبل.
غير أنه على مدار العقدين المنصرمين، بدأ ينحدر بشدة، فعند بداية الألفية كان العالم الغربي يمثل أربعة أخماس الإنتاج الاقتصادي العالمي، واليوم، انخفض ذلك النصيب إلى ثلاثة أخماس، ولم يزل ينخفض. وفي حين تكافح البلاد الغربية لاسترداد ديناميتها، فإن البلاد النامية الآن هي صاحبة الاقتصاديات الأسرع نموا في العالم. ومن خلال مؤسسات من قبيل «بريكس» و«أوبك»، وبتشجيع من الصين، تحول هذه البلاد ثقلها الاقتصادي النامي إلى قوة سياسية.
من هذا المنظور، قد يبدو أن الولايات المتحدة تتبع مسار جميع الإمبراطوريات: فتور فانحدار فسقوط في نهاية المطاف، صحيح أن أمريكا لن تنعم مرة أخرى بمثل درجة السيطرة الاقتصادية والسياسية التي كانت لها في العقود التالية للحرب [العالمية الثانية]، لكنها قادرة في حال اتخاذ الخيارات الصحيحة أن تتطلع إلى مستقبل تحافظ فيه على مكانة الأمة البارزة في العالم.
لا شك أن وصف أمريكا بالإمبراطورية يثير الجدل أو الحيرة على أقل تقدير، فالولايات المتحدة في نهاية المطاف لا تدعي السيطرة على بلاد، بل لقد حثت حلفاءها على التخلي عن مستعمراتها، ولكن ثمة سابقة مضيئة لهذا الضرب من المشروعات الإمبريالية الذي صاغته الولايات المتحدة بعد الحرب، وهو الإمبراطورية الرومانية.
بحلول القرن الرابع، كانت تلك الإمبراطورية قد تطورت من الدولة الغازية إلى دولة بقيت فيها (المدينة الأبدية) مركزا روحيا ولكن القوة الفعلية توزعت على جميع الولايات مع وجود مركزي سلطة إمبراطوريين: أحدهما في الشرق والآخر في الغرب، وفي مقابل جباية الضرائب، نعمت نخب الولايات مالكة الأراضي بحماية الفيالق، وترسخ ولاؤها للإمبراطورية بنصيب حقيقي من منافعها وبما يطلق عليه المؤرخ بيتر هيذر بالثقافة الموحدة المؤلفة من اللاتينية والبلدات وزي التوجا.
شأن أمريكا اليوم، حققت روما درجة من السيادة غير مسبوقة في زمنها، ولكن مفارقة الأنظمة الإمبريالية الكبرى تكمن في أنها هي التي تغرس بذور سقوطها، فمع ازدياد ثراء روما وقوتها من جراء الاستغلال الاقتصادي لأطرافها، أثارت -عن غير قصد- تنمية الأطراف خارج الحدود الأوروبية، وبمرور الوقت، اكتسبت الاتحادات الكونفيدرالية الأهم والأكثر تماسكا من الناحية السياسية التي أظهرت قدرة على التصدي للسيطرة الإمبريالية ثم دحرها في نهاية المطاف.
بالمثل، انحدار أمريكا هو نتيجة لنجاحها، برغم أن البلاد النامية نمت في فترة ما بعد الحرب ببطء أكبر من نظيراتها الغربية، لكنها نمت، وبحلول نهاية القرن، كانت قد بدأت في تحويل تلك القوة الاقتصادية المتنامية إلى قوة سياسية ودبلوماسية، فلم يقتصر أمرها على أنها بدأت تكتسب قدرة على التفاوض من أجل اتفاقيات تجارية وتمويلية أفضل، لكن باتت لها أيضا ورقة مساومة حاسمة على شكل موردين تحتاج إليهما الأعمال الغربية اليوم وهما الأسواق النامية ووفرة القوى العاملة.
جاءت أوائل دلائل هذا الحزم الأكبر في الأطراف في مؤتمر منظمة التجارة العالمية سنة 1999 بسياتل، حيث وحدت مجموعة من البلاد النامية قواها لإعاقة الإجراءات وإنهاء ممارسة قديمة تتمثل في قيام حفنة من الحلفاء الغربين بوضع مسودات الاتفاقية للعرض على الوفود، ومنذ ذلك الحين، قللت البلاد النامية تدريجيا اعتمادها على البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وأنشأت مؤسساتها الإقراضية وبدأت تجرب اتفاقيات تبادل تجاري قللت اعتمادها على الدولار.
وتمضي الحكاية بروما إذ أطاح بها ما يعرف بالغزوات البربرية، غير أن الحقيقة أشد تعقيدا، ففي غضون جيل فوضوي امتد قبل عام 400 وبعده، تقدمت العديد من الاتحادات الكونفيدرالية إلى النصف الغربي من الإمبراطورية، وعلى الأراضي الرومانية، أقام أولئك المهاجرون آنذاك تحالفات أكبر في ما بينهم -من قبيل القوط الغربيين والفندال- فكانت تلك التحالفات أقوى من أن تهزمها الإمبراطورية.
سارع بعض المعلقين إلى رؤية الهجرة إلى الغرب باعتبارها قوة تدميرية مماثلة، وهذا هو الدرس الخاطئ الذي يمكن استخلاصه من التاريخ الروماني، فقد كان اقتصاد روما في الأساس زراعيا ثابتا، فإن ظهرت قوة، تحتم سقوط قوة، لأنه من غير الممكن ببساطة توسيع قاعدة الموارد لتقوم عليها قوتان، ولما ثبت عجز روما عن إلحاق الهزيمة بالمنافسين الجدد، فقدت موردها الضريبي ولم يكن من الممكن استرداده.
أما الوضع اليوم فمختلف كل الاختلاف، فبفضل التغير التكنولوجي، لم يعد النمو الاقتصادي يقوم على فائز واحد في مكان دون الآخر، برغم أن البلاد الغربية لم تعد تهيمن على التصنيع والخدمات، فهي لم تزل تحتفظ بتفوق في الصناعات القائمة على المعرفة الكثيفة من قبيل الذكاء الاصطناعي والأدوية وما حققت فيه علامات تجارية قيمة من قبيل سلع الرفاهية، والرياضة، والترفيه، فمن الممكن أن يستمر النمو الاقتصادي في الغرب، وإن ببطء أكبر مما في الأطراف.
لكن ذلك سوف يقتضي عمالا، وفي ضوء أن المجتمعات الغربية، التي تنخفض فيها معدلات المواليد وتتزايد شيخوخة السكان لا تنتج القدر الكافي من العمال، فلا بد أن يأتي هؤلاء من الأطراف العالمية - سواء ممن يهاجرون إلى الغرب أو الذين يبقون في أوطانهم ويعملون في سلاسل التوريد الغربية الخادمة للأعمال، فلعل الهجرة قد أتت على ثروة الإمبراطورية الرومانية، لكنها هي التي تحول الآن بين الغرب والانحدار الاقتصادي التام.
ثمة تماثلات أخرى أشد مباشرة مع التاريخ الروماني، فالقسم الشرقي من الإمبراطورية نجا من انهيار الغرب في القرن الخامس بل واستطاع أن يقيم لنفسه موقع الهيمنة على الممالك الجديدة في مناطقه الغربية المفقودة، وكان يمكن أن يستمر في هذا إلى الأبد لو لم تستسهلك الإمبراطورية مواردها الحيوية ابتداء بأواخر القرن السادس في صراعات غير ضرورية مع منافسها الفارسي العنيد، فلقد قادتها الغطرسة الإمبراطورية إلى سلسلة من الحروب التي تركت كلتا الإمبراطوريتين بعد جيلين من الصراع ضعيفتين أمام تحدٍ طغى على كلتيهما في غضون عقود قليلة، وكان ذلك هو تحدي العالم العربي حديث الاتحاد.
بالنسبة لأمريكا، هذه حكاية ونذير، ففي الرد على صعود الصين المحتوم، يجب على الولايات المتحدة أن تسأل نفسها أي التهديدات وجودي وأيها مزعج وحسب، ثمة أخطار ملحة تواجه كلًا من الغرب والصين، من قبيل الأمراض والتغير المناخي، وهذه سوف تدمر الإنسانية كلها ما لم تعالجها الأمم مجتمعة، أما تنامي عسكرة الصين وعدوانيتها فلا بد أن تنظر الولايات المتحدة هل هي حقا في مواجهة فخ ثوقيديدس المتمثل في قوة صاعدة أو هي ببساطة في مواجهة بلد يدافع عن مصالحه المتنامية؟
لو أنه لزام على الولايات المتحدة أن تواجه الصين، سواء عسكريا، أم دبلوماسيا مثلما أرجو، فإنها سوف ترث مزايا هائلة من تركتها الإمبريالية، فلم تزل لدى البلد موارد قوة لا يمكن أن ينافسها عليها أحد منافسة جدية، من قبيل عملة لا تواجه خطرا جادا عليها بوصفها الوسيط العالمي في التبادل، ومجمعات رأس المال عميقة تدار في وول ستريت، وأقوى جيش في العالم، والقوة الناعمة المتمثلة في جامعاتها وفي ثقافة هي الأشد جاذبية في العالم، ولم يزل بوسع أمريكا أن تلوذ بأصدقائها في شتى أرجاء العالم، فهي، إجمالا، ينبغي أن تكون قادرة على حشد مواردها الوفيرة للبقاء قوة القيادة في العالم.
غير أنه من أجل القيام بذلك سوف يلزم أمريكا أن تتخلى عن محاولة استرداد مجدها الغابر من خلال منهج أمريكا المنفردة، وأمريكا أولا، فقد كان دافع مماثل هو الذي دفع الإمبراطورية الرومانية إلى مغامرات عسكرية تسببت في خرابها النهائي، لقد تغير الاقتصاد العالمي، ولن يتسنى للولايات المتحدة أن تسيطر على الكوكب سيطرتها القديمة، لكن إمكانية إقامة عالم جديد من تحالف بين متماثلي التفكير ترف لم يتيسر مثله لروما، ويجب على أمريكا، مهما يكن وصفها لنفسها، أن تنتهز هذه الفرصة.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الولایات المتحدة فی العالم من قبیل
إقرأ أيضاً: