مهزلة العقل البشري (1 - 3)
تاريخ النشر: 5th, September 2023 GMT
ما زلت أرى أن الكاتب الجيد هو الذى تشعر بعد أن تقرأ له بأن ثمّة تغييرًا إلى الأفضل قد طرأ على عقلك ووجدانك، وتشعر أيضًا بعد قراءته أنك أصبحت إنسانًا جديدًا مختلفًا عما كنته قبل قراءته. وإذا صدق هذا المعيار على بعض المفكرين والكتّاب مرةً، فإنه يصدق على المفكر العراقى الكبير الدكتور على الوردي مرات ومرات.
فى تصديره لكتابه «مهزلة العقل البشري» الذى صدر عن دار كوفان، لندن، عام ١٩٩٤؛ يقول على الوردي: «أهدى هذا الكتاب إلى القرَّاء الذين يفهمون ما يقرأون؛ أما أولئك الذين يقرأون فى الكتاب ما هو فى أدمغتهم؛ فالعياذ بالله منهم».
كان قلم على الوردى أشبه بالمحراث الذى يشق الأذهان ويحفرها ويهيؤها للزرع الجديد، كانت أفكاره أشبه بمطرقة تقرع الرؤوس لتنبهها وتثير اهتمامها، وتنقلها من الخيال إلى الواقع، ومن الوهم إلى العلم، ومن الخرافة إلى الحقيقة.
يقول على الوردى إنه من الظلم حقًا أن نعاقب الناس على عقائدهم التى لُقنِّوا بها فى نشأتهم الاجتماعية الأولى. والفكرة السائدة لدى شعوب المنطقة العربية مبنية على أساس أن الإنسان يعتنق عقيدته بإرادته، وأنه يصل إليها عن طريق التفكير والتأمل. وهذا - فى رأى المؤلف - خطأ يؤدى إلى الظلم فى كثير من الأحيان. والواقع أن الإنسان يؤمن بعقيدته التى ورثها عن آبائه أولًا ثم يبدأ - فيما بعد - بالتفكير فيها، وفى أغلب الأوقات؛ يدور تفكيره حول تأييد تلك العقيدة. ومن النادر أن نجد شخصًا بدَّل عقيدته من جرَّاء تفكيره المجرد وحده. فلابد أن يكون هناك عوامل أخرى، نفسية واجتماعية، تدفعه إلى ذلك من حيث يدرى أو لا يدري. (دكتور على الوردي، مهزلة العقل البشري، دار كوفان، لندن، ١٩٩٤، ص ٤٣)
يصف القرآن الكريم عقول الناس بأنها مغلقة وأنها عمياء، ويؤكد ذلك فى كثير من آياته؛ إذ يقول: «فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ» (سورة الحج - آية ٤٦) ويقصد القرآن بالقلوب العقول؛ كما يعرف ذلك كل متتبع لأساليب اللغة العربية. ويهيب القرآن بالناس، ويهتف بهم المرة بعد المرة قائلًا لهم: «أفلا تعقلون»، «أفلا تتفكرون»، «أفلا تبصرون». والناس تسمع هذا ولا تفهم. وهؤلاء الناس أنفسهم لم يكادوا يرون النبى منتصرًا تحف به هالة المجد والقوة حتى أقبلوا عليه من كل حدبٍ وصوب يعلنون دخولهم فى الدين الجديد، ويهتفون بملء أفواههم: «لا إله إلا الله محمد رسول الله». وكلما ازداد الإسلام انتصارًا ازدادوا به إيمانًا. حتى رأيناهم أخيرًا يضطهدون من يخرج عنه؛ بمثل ما كانوا يضطهدون مَنْ كان يدخل فيه أول الأمر. (المرجع السابق، الموضع نفسه)
يقول المؤلف: نرى المسلمين اليوم يذوبون حبًا بالنبى ومديحه فى كل حين. وهم إنما يفعلون ذلك لأنهم وُلِدوا فى بيئة تقدِّس النبى محمدًا وتبجله. ولو أنه ظهر بينهم اليوم بمبادئه التى قاومه عليها أسلافهم؛ لما قصروا عن أسلافهم فى ذلك، فالناس كالناس والأيام واحدة كما قال الشاعر العربي.
يقول الدكتور على الوردى «قد يعتقد المسلمون اليوم أنهم لو كانوا يعيشون فى زمن الدعوة الإسلامية لدخلوا فيها حالما يسمعون بها. ولست أرى مغالطة أسخف من هذه المغالطة. يجب على المسلمين اليوم أن يحمدوا ربهم ألف مرة لأن الله لم يخلقهم فى تلك الفترة العصيبة. ولو أنهم خُلِقوا حينذاك لكانوا من طراز أبى جهل أو أبى سفيان أو أبى لهب، أو لكانوا من أتباعهم على أقل تقدير، ولرموا صاحب الدعوة بالحجارة وضحكوا عليه واستهزأوا بقرآنه ومعراجه».
يستطرد المؤلف فيقول: «تصور يا سيدى القارئ نفسك فى مكة إبان الدعوة الإسلامية، وأنت ترى رجلًا مستضعفًا يؤذيه الناس بالحجارة ويسخرون منه، ويقولون عنه أنه مجنون. وتصور نفسك أيضًا قد نشأت فى مكة مؤمنًا بما آمن به أباؤك من تقديس للأوثان، تتمسح بها تبركًا وتطلب منها العون والخير. ربتك أمك الحنون على هذا، وأنت قد اعتدت عليه منذ صغرك، فلا ترى شيئًا غيره، وأنت ترى أيضًا أن ذلك الرجل كان مكروهًا من أقربائك وأصحابك وأهل بلدتك وينسبون إليه كل نَقِيصَة ورذيلة. فماذا تفعل؟ أرجو أن تتروى طويلًا قبل أن تجيب عن هذا السؤال». (المرجع السابق، ص ٤٤)
إن ما وصف القرآن به عقول الناس يشبه إلى حد بعيد ما اكتشفه العلم الحديث من طبيعة العقل البشري. فالعقل البشرى مغلف بغلاف سميك لا تنفذ إليه الأدلة والبراهين إلا من خلال نطاق محدود جدًا، وهذا النطاق الذى لا تنفذ من خلاله الأدلة العقلية مؤلف من تقاليد البيئة التى ينشأ فيها الإنسان فى الغالب». وهذا ما أطلق عليه الدكتور على الوردى فى أحد كتبه السابقة «الإطار الفكري». (ص ٤٤)
قد يندهش المرء حين يرى خصمه لا يقتنع بالبرهان القوى الذى اقتنع هو به. وكثيرًا ما يجابهك الخصم بالسخرية اللاذعة حين يستمع إلى برهانك، فتحقد عليه ولعلك تتهمه باللؤم والمكابرة. ويجب أن لا تنسى أن خصمك يتهمك أنت أيضًا - فى قرارة نفسه - باللؤم والمكابرة. كل منكما مؤمن بما عنده – وكل حزب بما لديهم فرحون. كل القدماء يصفون الدليل القوى الواضح بأنه الشمس فى رابعة النهار. ونسوا أن الشمس نفسها على شدة وضوحها لا تصلح دليلًا كافيًا لدى الإنسان إذا كان أعمى. أو إذا كانت الشمس محجوبة عنه بغلاف سميك. (ص ٤٥)
كان المفكرون القدماء يتراشقون بالتهم والشتائم عندما ينشب الجدل بينهم. وكل فريق منهم يتهم خصمه بأنه يغمض عينيه عن رؤية الحق عمدًا. وكل منهم يدعى أنه صاحب الحق الأوحد دون الناس جميعًا. كأن ربك قد غرز حب الحق فى قلوب أفراد معدودين، وترك بقية الناس فى ضلال مبين.
ويحكى الوردي: إنه كان ذات يوم فى مجلس ضم جماعة من رجال الدين. وقد أجمع هؤلاء الرجال أثناء الحديث على أن سكان الأرض كلهم ملزمون بأن يبحثوا عن الدين الصحيح، فإذا وجدوه اعتنقوه حالًا. فكل إنسان فى نظر هؤلاء مجبور أن يسعى بنفسه، ويذهب سائحًا فى الأرض ليبحث عن الدين الحق. وحين قال لهم على الوردي: لماذا لم تسيحوا أنتم أيضًا فى الأرض سعيًا وراء الحق؟، أجابوه بدهشة بالغة: «لأن الدين الحق عندنا!».. إنهم يتخيلون أنهم وحدهم أصحاب الدين الحق من دون الناس. ونسوا أن كل ذى دين يؤمن بدينه كما يؤمنون هم بدينهم. فأينما توجهت فى أنحاء الأرض وجدت الناس فرحين بعقائدهم مطمئنين إليها، ويريدون من الأمم الأخرى أن تأتى إليهم لتأخذ منهم دين الحق الذى لا حق سواه. (ص ٤٥)
إننى أود أن أختتم هذا المقال بعبارة ذكرها الدكتور على الوردي، قال فيها: «لست أريد أن يرضى عنى جميع الناس، فرضا الناس غاية لا تُنَال، حسبى أن أفتح الباب للقرّاء كى يبحثوا ويناقشوا. والحقيقة هى فى الواقع بنت البحث والنقاش».
معلومات عن الكاتب:
د. حسين علي: أستاذ المنطق وفلسفة العلوم بآداب عين شمس
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: الدکتور على على الوردی
إقرأ أيضاً:
ليس بالمراكب والأقدام.. خطيب المسجد الحرام: السباق إلى الله بالقلوب والأعمال
قال الشيخ الدكتور صالح بن عبدالله بن حميد، إمام وخطيب المسجد الحرام ، إن السباق إلى الله بالقلوب والأعمال، لا بالمراكب والأقدام.
السباق إلى اللهوأوضح “ بن حميد ” خلال خطبة الجمعة الأخيرة من جمادي الآخر من المسجد الحرام بمكة المكرمة، أن كرام الناس أسرعهم مودة، وأبطؤهم جفوة، ولئام الناس أبطؤهم مودة، وأسرعهم عداوة، منوهًا بأن التعامل بالرفق مع الحبيب يستديم المودة.
وأضاف أن التعامل بالرفق مع الغريب يجلب المحبة، ومع العدو يكف الشر، ومع الغضوب يطفئ الجمر، مشيرًا إلى أن داء التعصب ومرض العصبية يعدان داءً اجتماعيًا خطيرًا يورث الكراهية، وينبت العداوة.
وتابع: ويمزق العلاقات، ويزرع الضغائن، ويفرق الجماعات، ويهدد الاستقرار، وينشر القطيعة، مرض كريه، يبني جدارًا صلبًا بين المبتلى به وبين الأخرين، ويمنع التفاهم، ويغلق باب الحوار، يعمم في الأحكام، ويزدري المخالف، فالتعصب داء فتاك.
داء فتاكوأكد أنه علة كل بلاء، وجمود في العقل، وانغلاق في الفكر، يعمي عن الحق، ويصد عن الهدى، ويثير النعرات، ويقود إلى الحروب، ويغذي النزاعات، ويطيل أمد الخلاف، لافتًا النظر إلى أن التعصب عنف، وإقصاء، ويدعو إلى كتم الحق وسَتْرِه.
وبين أن ذلك لأن صاحبه يرى في الحق حجةً لمخالفه، كما أنه يقلل من فرص التوصل إلى الحلول الصحيحة، وينشر الظلم، وهضمَ الحقوق، ويضعف الأمة، وينشر الفتن والحروب الداخلية، لافتًا إلى أن التعصب يكون غلو في الأشخاص، وفي الأسر، وفي المذاهب، وفي القوم، وفي القبيلة، وفي المنطقة، وفي الفكر، وفي الثقافة، وفي الإعلام، وفي الرياضة، وفي كل شأن اجتماعي.
واستدل بالموقف النبوي الحازم الصارم، حيث أخرج الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صل الله عليه وسلم في غزاة فكسع رجل من المهاجرين - أي ضرب - رجلًا من الأنصار فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجرون: يا للمهاجرين، فقال النبي صل الله عليه وسلم: ما بالُ دعوى الجاهلية ؟! ثم قال: دعوها فإنها منتنة.
الهجرة والنصرةوأفاد بأن الهجرة والنصرة وصفان شريفان كريمان، والمهاجرون والأنصار هم الأولون السابقون رضي الله عنهم ورضوا عنه، ولكن لما أراد هذان الرجلان توظيف هذه الألقابِ الشريفة والنعوتِ الكريمة توظيفًا عصبيًا فَزِع النبي صل الله عليه وسلم وبادر باحتواء الموقف بقوله: ( أبدعوى الجاهلية ؟! ).
وأردف: أي أن شرف الهجرة، وشرف النصرة تحول بالعصبية إلى نعت غير حميد، بل صار مسلكًا منتنًا مكروهًا، وصار من دعوى الجاهلية: ( دعوها فإنها منتنة ) لا أشد إنكارًا من هذا الوصف، ولا أعظم ذمًا من هذا النعت .
ونوه بأنه في الحديث الصحيح عنه صل الله عليه وسلم: من قاتل الناس تحت راية عِمِّيةٍ يغضب لعصبية، أو يدعو لعصبية، أو ينصر عصبية، فقتل، فِقتلةٌ الجاهلية، وفي لفظ " فليس من أمتي " رواه مسلم .
ونبه إلى أن المتعصب ينسُب نقائصه وعيوبه إلى غيره، المتعصب يعرف الحق بالرجال، ولا يعرف الرجال بالحق، المتعصب لا يود أن يكون الحق مع الطرف الآخر، فهو أسير أفكاره ورؤيته الضيقة، همه المراء، والترفع على الأقران.
من صفات المتعصبوأشار إلى أن المتعصب يعتقد أنه على الحق بحجة وبغير حجة، ومن خالفه فهو على الباطل بحجة وبغير حجة، والمتعصب لا يرى إلا ما يريد أن يراه ، فمن صفات المتعصب التشدد في الرأي، والجمود في الفكر، والميل إلى العنف ضد المخالف.
ولفت إلى أن المتعصب يميز الناس ويقيِّمهم حسب انتماءاتهم الدينية، والقبلية، والمناطقية، والمذهبية، والطائفية، والسياسية، و المرء لا يولد متعصبًا ، وإنما يكتسب التعصب من أسرته، ومن أقرانه، ومن مدرسته، ومن الوسط المحيط به.
وأكد أنه من أجل علاج التعصب فلا بد من تقرير المساواة بين الناس، ونشر ثقافة الحوار، والتعايش، وقبول الآخر، والمحبة، والاعتذار، وبذل المعروف لمن عرفت ومن لمن تعرف، منوهًا لأنه يقي من التعصب - بإذن الله - الاعتقاد الجازم، واليقين الصادق، أنه لا عصمة لغير كتاب الله، ولا لبشر غير رسول الله صل الله عليه وسلم.
وواصل: والنظر إلى العلماء والشيوخ على أنهم أدلاء على الحق، مبلغون عن الله بحسب اجتهادهم وطاقتهم غير معصومين، ولا مبرأين من الأخطاء والأغلاط ، وكذلك القوة والعزيمة في نبذ العادات والأعراف الخاطئة ، والتقاليد المجافية للحق والعدل.
مسؤولية أهل العلمواستطرد: وهذا كله من مسؤولية أهل العلم، والفضل، والصلاح، والوجهاء، ورجالات التربية، والغيورين على الأمة، والعمل على بناء الإنسان السوي، وإشاعة الصلاح والإصلاح، ومقاومة الفساد بكل أشكاله، وقبل ذلك وبعده الإخلاص، وحسن السريرة، وقطع النفس عن شهوة الغلبة، والانتصار، والسلامة من فتنة التطلع، للمدح والرئاسات.
وأكمل : ونشر المحبة في البيت، والمدرسة ، وفي السوق، وفي الإعلام بكل وسائله وأدواته، وسلامة النفس من الأحقاد، والتحرر من الأنانية، يجمع ذلك كله قول صلى الله عليه وسلم في كلمته الجامعة: ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ).
وذكر أن أهل العلم قالوا : كل من نصب شخصًا كائنًا من كان فيوالي على موافقته ويعادي على مخالفته في القول والفعل فهو من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا كل حزب بما لديهم فرحون ، قالوا : وهذه طريقة أهل البدع والأهواء المذمومين، فمن تعصب لواحد بعينه ففيه شبه منهم، وكل ما خرج عن دعوة الإسلام والقرآن من نسب أو بلد أو جنس أو مذهب أو طريقة فهو من عزاء الجاهلية، "ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه"
وشدد على أن التعصب حجاب غليظ يحول بين صاحبه وبين الحق وبينه وبين الحب، التعصب حجاب غليظ عن العلم النافع، والعمل الصالح، وعقبة كؤود عن الاستفادة من الآخرين، ويمنع الإبداع والابتكار، مبينًا أنه لا يقضي على التعصب إلا التسامح ، ذلك أن التسامح احترام التنوع، وقبول الاختلاف، ويسلم من التعصب من كان همه الوصول إلى الحق، وليس الانتصار للنفس، أو المذهب، أو الطائفة.