هل يمكن اعتبار أن السفر، قد أدّى، في العصر الحديث، «بشكل واضح» وجليّ إلى إدخال «زخارف الترحل والرحلات» في قلب الإبداع الأدبي؟ كيف يمكن إنشاء مثل هذا الارتباط بين الأدب والسفر؟ وإذا افترضنا أن الأمر كذلك، فكيف يمكننا أن نفسر إصرار المفكر والكاتب الفرنسي «لابرويير»، وبصرامة، على ضرورة استعادة رحلاته كتابة، وهو يسخر من أولئك الذين يقومون برحلات طويلة بدافع الاهتمام أو الفضول، «لكنهم لا يكتبون عنها مذكرات أو ملاحظات.
بدا هذا المنظور الغربي الذي تحدث عنه لابرويير جديدا في زمنه، لكنه في الواقع كان قديما فيما لو قارناه بالتاريخ العربي؛ تجربة السفر والكتابة، ليست وليدة العصر الحديث بالطبع، ولا وليدة القرن السابع عشر الأوروبي؛ إذ عرف العرب هذه الخاصية الكتابية منذ القِدم، وأولوها عناية وأهمية خاصتين. لنأخذ على سبيل المثال رحلة السيرافي البحرية إلى المحيط الهندي (القرن الثالث للهجرة)، ورحلة سلام الترجمان إلى جبال القوقاز، بعد أن كلفه بذلك الخليفة العباسي الواثق، لكي يبحث عن سدّ يأجوج ومأجوج (عام 277 للهجرة). وبالطبع، لا يمكن أن ننسى المسعودي (مروج الذهب) والمقدسي (أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم) والإدريسي (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق)، ولا تستقيم اللائحة من دون أن نذكر ابن بطوطة، وابن طفيل... واللائحة تطول فعلا.
حول الكتابة والسفر في عصرنا، رأى الشاعر والروائي الفرنسي ميشال بوتور -(أحد كتّاب ومنظري تيّار «الرواية الجديدة»)- في دراسة له بعنوان «السفر والكتابة»، أن ثمة اتصالا كثيفا بين الرحلات التي قام بها وبين كتاباته. فالسفر، بالنسبة إليه، هو الكتابة، كما أن الكتابة هي سفر. ويضيف أنه سافر دائما «للكتابة، وذلك، ليس فقط للعثور على مواضيع أو مواد أو أدوات، مثل أولئك الذين يذهبون إلى البيرو أو الصين لحضور مؤتمرات ولكتابة مقالات صحفية... ولكن لأن السفر بالنسبة إليّ، على الأقل السفر بطريقة معينة، يعني الكتابة (وقبل كل شيء لأنه يعني القراءة)، والكتابة هي السفر»... فمثلما هو معروف عنه، كان بوتور يشكل جزءا من «جائعي الآفاق» (التعبير للشاعر الفرنسي جان أوريزيه)، جزءا من هؤلاء «الشرهين» الباحثين دوما عن «خارج ما»، عن «مكان آخر»، عن «هروب ما» حتى أن جزءا ليس بقليل من أدبه، كان مخصصا للحديث عن السفر والرحلات.
وقبل بوتور بقرنين تقريبا، أجاد الفيلسوف والكاتب الفرنسي، باسكال، حين قال لنا إن مآسي الإنسان تتأتى من شيء واحد، وهو «عدم قدرته على الإقامة في غرفة واحدة كي يرتاح». عديدون هم الشعراء والكتّاب الذين برهنوا عن حاجتهم إلى الذهاب واكتشاف العالم، كما برهنّوا عن انجذابهم ولذتهم في ذلك. قد تجدر الإشارة هنا، إلى أن كلّ «تسكع» (أو سفر أو رحلة) يحتوي على نصيبه من الغموض والإبهام والالتباس. فعلى سبيل المثال، نجد الشاعر الفرنسي الكبير شارل بودلير، يطالب في قصيدته «الدعوة إلى السفر» بأن «نذهب ونعيش هناك... لنحبّ ونموت، في البلاد التي تشبهنا». بينما نجد أن مواطنه، الشاعر فيكتور سيغالين بعد عقود عديدة -قد حوّل «السفر إلى البعيد» إلى «سفر في أعماق الذات» لأننا نهرب ونرحل في أحيان كثيرة، كي نعود ونجد أنفسنا بشكل أفضل. كذلك نسافر ونتنقل؛ كي تزداد علاقتنا مودّة، مع الأشياء المحيطة بنا، وربما كان شعر العراقي الراحل سعدي يوسف خير دليل على ذلك، وهو الذي لم يتوقف عن تغيير مكان إقاماته، للبحث عن آفاق جديدة لنصه، ذاتية بالدرجة الأولى. بهذا المعنى أيضا، يقع جزء من تجربة الشاعر العماني سيف الرحبي الكتابية، وهي التي لم تتوقف عن مساءلة الأمكنة التي يذهب إليها، ليعيد صوغها في تماسها معه، من خلال نظرته الخاصة.
لكن يحدث أحيانا، أن يحتوي السفر والرحلات، تبريرهما الخاص، ليصبحا في النهاية، غاية بحدّ ذاتهما. ربما من هذه الزاوية، نقرأ رحلات السندباد البحري، الذي لم يكن يتوقف عند نقطة معينة، ليغادر بعدها إلى أفق جديد. ويمكن لنا بالطبع، أن نعتبر أن أحد الأمثلة «الفاقعة» على هذه الفكرة، نجده عند عوليس، الذي يشكل في واقع الأمر، المثال النموذجي، المطلق، لهذا كله. ففي نهاية الأوديسة، وبعد عودته إلى إيثاكا، يتراءى لنا، كم كان مستعدا «لتذوق أنعم أشكال النعاس»، بصحبة بينيلوب، لكنه لم يفعل: لقد فهم عوليس أن عليه الرحيل مجددا والذهاب من مدينة إلى أخرى وعلى كتفه المجذاف المصقول، بانتظار قدوم مسافر آخر التقى به عند أناس لا يعرفون البحر إذ سألوه لماذا يحمل هذه الخشبة على ظهره. لكن عوليس أيضا، كان مشدودا لتسجيل رحلاته، ألم يأخذ معه هوميروس ليكتب ذلك كله؟
ربما، بمعنى من المعاني، علينا أحيانا، أن ندخل إلى الأدب والشعر من خلال هذه الزاوية. أي أن تكون الكتابة إبحارا صوب مرافئ بعيدة، بحثا عن علاقاتنا بذواتنا، أو، بحثا... عن لا شيء. من هنا، ربما علينا أن نتخيل عوليس سعيدا، لا على طريقة الشاعر جواشيم دوبيلاي في «سعيد، من هو مثل عوليس» قصيدته الشهيرة الذي يقول فيها ما معناه، «عاد مليئا باللباقة والعقل، ليحيا بين أهله ما تبقى له من عمر». كلا، علينا أن نتخيل عوليس سعيدا، مثل سيزيف الذي رسمه البير كامو، لأنه كان مستعدا للاضطلاع بمصيره، كواحد من هؤلاء المغتربين، السائحين الأبديين. كان على عوليس أن يخترع حياته بلا توقف، حتى لتصبح إبداعه، ذاته، قصيدته.
من هنا، يبقى العجوز هوميروس ساحر الرحلات أكثرنا شبابا وأكثرنا حياة. فإيثاكا ربما غير موجودة. وعلينا البحث عنها دائما. على الأقل يمكن للكتابة أن تفعل ذلك.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
روسيا تجهز لرد على استخدام أوكرانيا صواريخ بعيدة المدى
أعلنت روسيا الثلاثاء، أنها تعرضت في الأيام الأخيرة لضربتين أوكرانيتين نُفّذتا بصواريخ "أتاكمس" الأمريكية، السلاح الذي توعدت موسكو برد شديد في حال استخدمته كييف.
وأفادت وزارة الدفاع الروسية بأن القوات الأوكرانية قصفت في 23 نوفمبر (تشرين الثاني) "منشآت" في منطقة كورسك الروسية الحدودية قريبة من بلدة لوتارفكا على مسافة 37 كيلومتراً شمال غرب مدينة كورسك، واستهدفت في 25 نوفمبر (تشرين الثاني) مطار كورسك-فوستوشني.واعترفت الوزارة في خطوة نادرة بأن صواريخ عدة "أصابت أهدافها" مبلغة عن إصابة جنديين روسيين بجروح، وتدمير رادار جراء هذه الضربات.
معركة كورسك تحتدم.. أوكرانيا وروسيا تسابقان الزمن قبل عودة ترامب - موقع 24تتصاعد الهجمات الروسية في منطقة كورسك إلى درجة أن جنود المشاة يدوسون أحياناً على جثث رفاقهم الذين سقطوا، وفقاً للجنود الأوكرانيين الذين يحاولون الاحتفاظ بمواقعهم داخل هذه المنطقة الروسية التي احتلوها الصيف الماضي. وأكدت الوزارة أن الدفاعات الجوية الروسية أسقطت ثلاثة صواريخ "أتاكمس" من أصل خمسة أُطلقت خلال هجوم 23 نوفمبر (تشرين الثاني)، كما أسقطت سبعة مقذوفات من أصل ثمانية أُطلقت خلال هجوم 25 نوفمبر (تشرين الثاني).
وقالت الوزارة الروسية "إن فحص المواقع التي تعرضت للهجوم جعل من الممكن تأكيد أن القوات المسلحة الأوكرانية استخدمت الصواريخ العملياتية التكتيكية أتاكمس الأمريكية الصنع".
وأعلنت أنها "تعد" رداً على هذه الهجمات التي تعتبرها روسيا تجاوزاً للخط الأحمر.
ونُفذ أول هجوم أوكراني باستخدام صواريخ "أتاكمس" في 19 نوفمبر (تشرين الثاني)، وفي 21 من الشهر نفسه أطلقت القوات الأوكرانية صواريخ "ستورم شادو" البريطانية الصنع على روسيا. روسيا تتقدم في أوكرانيا بأسرع وتيرة شهرية منذ بداية الحرب - موقع 24يقول محللون ومدونو حرب إن القوات الروسية تتقدم في أوكرانيا بأسرع وتيرة منذ الأيام الأولى للغزو عام 2022، إذ سيطرت على منطقة كبيرة خلال الشهر الماضي. وردت موسكو بإطلاق صاروخ بالستي متوسط المدى تفوق سرعته سرعة الصوت في 21 نوفمبر على مصنع أسلحة في مدينة دنيبرو، في وسط أوكرانيا.
وصُمّم هذا الصاروخ التجريبي المسمى "أوريشنيك" وغير المعروف من قبل، لحمل رؤوس نووية، إلا أنه أُطلق بدون رأس نووية خلال هذا الهجوم.
ورداً على الضربات الأوكرانية على الأراضي الروسية باستخدام صواريخ غربية، توعد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تكرار هذا النوع من الضربات مهدداً باستهداف الدول الغربية التي تساعد كييف.