مِن قَبل، ومِن بَعد أعتذر لشاعر القصيدة وشاعر كلام قلبي، محمود درويش، لا شيء يعجبني يا محمود.
تتعزز علاقتي مع المكان مِن أوجه عدة، كوجود المقاهي ودور السينما، وصالات العرض المسرحي، والطبيعة الغنَّاء غير الملوثة بالصناعات الثقيلة. يرفع من نسبة هذا التعزيز وجود طرق نظيفة وجسور مصممة بعقلانية ويعظِّم هذين الأمرين توفر الأكل المنوّع الشّهي، واكتفاء الناس كُل بنفسه وبطعامه وشرابه وملبسه لنفسه، دون التدّخل في حياة الآخرين أو التلصص عليهم، أو الافتراء، أو الادعاء الفارغ والخُيلاء الكاذب.
منذ الطفولة في محاضن منطقة الحصن في ظفار والتنّقل بين سككها الضيقة، لم أكن على علاقة حميمة جدا مع فصل الخريف. وأتذكر عندما كنت في مجال الوظيفة، كان زملائي ينتظرون مناسبة قدوم فصل الخريف ليستمتعوا بالإجازة من العمل، وكانوا يبدون الاستغراب حينما أقول لهم: إنني لا أحبذ أخذ إجازة من أيّ نوع في هذا الفصل! باختصار واضح، أراه فصلا عاديا ومحبتي له متواضعة، لذا لا أمتدحه. وسبب ذلك عندما سألني أحدهم ذات مرة كنوع من الاستطلاع والفضول: كيف الخريف في صلالة؟ أجبته: عادي، فماذا تعتقد أن يكون قد حدث فيه؟ ظل المستمع يُعيد على مسامعي ما أعرفه سلفا حول جمال بيئة ظفار في الخريف، ولكي أنهي الحديث، قلت له: لا أحب هذا الفصل لأن صلالة تمتلئ بالسيارات والشوارع تزدحم، والخبز الأسمر ينفد، والدجاج المقلعد يخلّص بسرعة! ضحك المتحدث وارتاح كثيرا لمحاولتي إضفاء الطرفة الساخرة من ناحيتي، والمُهم أنه بعد مرور السنين وتعدّل حَال السياحة بعض الشيء، ظل كلما حدثني يسألني سؤاله البارد كوجهه: أما زلت لا تحبين الخريف في ظفار؟ فأجيبه ببرودة: نعم. لا أحبه.
مُدعاة الحديث السابق، يقف خلفه أمران، عام وخاص. يتمثل الأمر الخاص في اتصال من كاتبة دعتني مرة وأنا في صلالة، إلى اللقاء في أحد المقاهي التي صارت منتشرة في المدينة. ولأن الاتصال لم يُخطط له، فجاء مباغتا كلسعة بعوض «العرنوت» التي صارت ملمحا من ملامح خريف صلالة السياحية، لأهلها وللسياح معا، وجدتني أعتذر منها بلطف، وأسألها بعد تفكير في سؤالها: هل تذهب الفتيات للمقاهي والجلوس بهدف الكتابة؟ فأجابتني: نعم. لقد تغيّر الحَال وتطورت البلد، وصارت متنفسا للجميع.
فوجدتني أُنهي المكالمة بلطف لطيف، وأركض إلى المكان الجديد الذي اعتادت أمي الجلوس فيه، بعد انتقالنا من صلالة الجديدة إلى «عوقد»، فأقول لها: لقد تغير الحال يا نهلات. فسألتني: أيّ حال؟ قلت: راودني الحلم منّذ سنين من السنوات العجاف أن يكون هناك مقهى في صلالة تذهب إليه الفتيات والكاتبات والفنانات والمبدعات وغيرهن، بهدف القراءة والكتابة والمناقشة في شؤون الأدب أو اللقاء لمجرد الجلوس واحتساء فنجان قهوة، وقد تحقق الأمر. تخيلي يا أمي أن تسهر الفتيات في مقهى حتى الواحدة أو الثالثة صباحا، وهذه صورة غير مألوفة لدى مجتمع محافظ في زمن الثمانينيات. وكنت أتمنى حدوثها. لقد تغير الوضع فعلا.
الأمر الخاص جدا، حدث في أمسية أقيمت معي في مقهى للحديث حول تجربتي الإبداعية مع المسرح والنقد والثقافة. لقد تحدثت بصدق، لكن الصدق الأعمق تبدى في إجابتي لسؤال سألني إياه أحد الحضور: ألا تنوين الرجوع إلى ظفار، بعد الغياب الطويل عن المكان وعن صلالة والإقامة بعيدا عنها في العاصمة مسقط؟ جاءت إجابتي بمنتهى الوضوح: لا. لا أفكر في العودة أو الاستقرار في صلالة.
عندما جاوبت السائل، لم أكن أفكر بعقلي، أو أخطط لشعوري الداخلي تجاه نفسي. قلتُ بصدق ما أشعر به، وما أحبُّ أن أقوله، وما أحبُّ أن أكون عليه، ما يجعلني في تصالح مع ما أعتقده من قناعات. لكن إجابتي لم تنل على إعجاب الكثيرين؛ ويكفيني من أعجبه ولو كان واحدا.
يرغب مِنكَ الجميع أن تُحبّ ما يُحبون، وتمتدّح ما يمدحون. ولكن حينما تناقشهم في مسألة بسيطة جدا أو عادية اسمها الاختلاف والرأي الآخر، تجدهم يمتلكون رأيًا وقولًا، فيتفقون فيه معكَ حول اختلافك، ولكنهم لا يملكون الشجاعة لقول ذلك الأمر، ويظنون أن الحال مسلمٌ به، فإذا قال الناس رأيًا وأجمعوا حوله بالإيجاب، فمَن تكون أنتَ أو أنتِ لتقول عكسِ ما يقولون!
تتعلق المسألة كما أعتقد بوجود أزمة عميقة حول المفاهيم والقناعات، وسأضرب على هذا مثلا استدعته ذاكرتي، مثلا ذكره لنا في نهار ما في محاضرة ما، الدكتور وليد سيف أطال الله في عمره، صاحب الأعمال الدرامية المعروفة.
يقول إنه عندما كان يُحضّر مادة لقناة (إي. آر. تي) حول الشباب العربي والإعلام والقضايا التي يتفاعلون معها، سأل الشباب الموجودون في البرنامج سؤالا مفاده: ماذا يُشغلكم مِن قضايا؟ جاءت أغلب الإجابات وبنسبة عالية أن القضية التي تُشغلهم هي فلسطين والقدس! فهل هذا صحيح؟
إن الشباب وتوجّه اللحظة التي كانوا فيها في داخل الأستديو من جنسيات وأعراق وطوائف ومذاهب مختلفة إضافة إلى ذلك، وجود تخصصات واهتمامات بسرديات متباينة استعانوا بها على تأكيد أجوبتهم، ذكرها بعضهم في سِياق التفاعل مع الموقف، دفعت الآخرين الذين كانوا يستمعون إلى اللقاء، أو كانوا أقل تجربة ومهارة، إلى تقديم إجابة تحفظ لهم ماء الوجه، فأجابوا بأنّ تحرير فلسطين في أعلى درجات القضايا التي تُشغلهم دون سواها.
بالطبع، ودون الادعاء والمجاملة، أو توزيع الاتهامات أو التشكيك في النيات، لا أظن، أن فلسطين كان تحريرها يُشغل أولويات الشباب، أو يمكنه أن يُشغل شبابًا في مقتبل سن العشرين! هل يُمكن لشباب يعيشون في مجتمعات عربية وخليجية سيفكرون مثلا في فلسطين أو الأقصى أو في تقرير الحرّيات الشخصية، أو في ملفات حقوق الإنسان، أو في قضايا التنمية أو في التبعية؟ إن تفسير ذلك يسير في اتجاه إمّا في سياسات التوّجه الإعلامي (عندما كان تحرير فلسطين العنوان الأبرز في شريط الأخبار) أو الشعور الضّمني والعقل الجمعي.
وقياسا على ذلك، أستطيع الخروج بهذا الاستنتاج، أن الذي وجه إجابات الشباب في قناة (إي. آر. تي) لا يختلف عن آراء الذين لم تعجبهم إجابتي، حيث إنني لا أفكر في العودة والإقامة في صلالة، فالمرء بتعبير الفيلسوف برتاغوراس: لا يستحم في النهر مرتين. لقد أدى الشعور الضمني العام بالاعتقاد أن الأسباب التي دفعتني إلى مغادرة ظفار والإقامة في مسقط قد انتفت، ولم يعد لها وجود! وكما قالت لي امرأة أعدّها من الأهل حرفيًا: «كنّا ساكتين عليش لأنش موظفة، أما بعدما صرت متقاعدة فعودي إلى بلدتش ومكانش».
إنني أفهم جيدا ذلك الشعور الضمني العام، وأستطيع أن أقدّر مسارات التفكير فيه بأخذه على محمل من الهدوء والصبر على المكاره، لكن الذين يعتقدون أن انتشار المَقاهي، وذهاب الفتيات إليها سواء للكتابة أو القراءة أو مناقشة الوضع الثقافي العام أو اللقاء، أو يرون أن علو المباني وإنشاء المجمعات التجارية الحاوية للماركات العالمية يُعدّ مظهرا من مظاهر التقدم الحضاري، فهذا غير دقيق على نحو من الأنحاء. فهذه المظاهر منتشرة في مجتمعات الخليج والوطن العربي، لكنّ الشعور بالاغتراب عن المكان يتعزز أكثر مما كان عليه في السابق، ويمكن تطبيق الأمثلة على العديد من النماذج والسرود المكتوبة.
إن التقسيمات المجتمعية الغائرة في العمق، تتوغل وتزداد، وقد أشرتُ إلى تلك المسألة في مقالين سابقين (ظفار والذكور، ظفار والإناث) وتسعى المَدنية الظاهرة إلى طمسها وإخفائها عبر استخدام مصطلحات عنصرية وغريبة جدا على المجتمع مثال مصطلح (الدمج)، بالإضافة إلى ذلك، وصول بعض المسؤولين إلى مناصب لصنع القرار، تجعلهم يعودون إلى مكونهم القبلي العميق حول تقسيم المجتمع إلى مصطلح (اللون)، وكذلك بعض الذين يُريدون الصعود وتحقيق الهوية الثقافية واعتلاء المنابر و«هم»/ أو «هن» أبعد ما يكونون عن السمات أو خصائص المنشغلين بالثقافة المسؤولة التي ينوء بحملها الإنسان، وهي ثقافة التنوير.
لا شيء يعجبني، لا فصل «الخريف» ولا «الطحالب» أو «الفطريات» المتسلقة؛ الثقافية والاجتماعية، ولا تعجبني تلك التصنيفات والأنماط الإنسانية العقيمة، ولا تعجبني الصور الفضفاضة المهلهلة التي يجري تسويقها حول القراءة والثقافة فذلك شيء عابر يمر على السطح، ويتمرّغ في جحيم المصطلحات التي لا تُناقش التطور المجتمعي كما يجب.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی صلالة
إقرأ أيضاً:
جامعة ظفار والتجارةتوقعان اتفاقية لتطوير التعاون الأكاديمي والمهني
وقعت جامعة ظفار والمديرية العامة للتجارة والصناعة وترويج الاستثمار- بمحافظة ظفار- على برنامج تعاون يهدف إلى تعزيز الاستشارات وتبادل الخبرات والدراسات البحثية بين الجانبين، في خطوة تعكس التزام الطرفين بتطوير التعاون الأكاديمي والمهني. ويهدف البرنامج إلى توفير إطار عمل مشترك يمكن من خلاله تقديم الاستشارات وتبادل المعرفة وتطوير المهارات وتحقيق الاستفادة المثلى من الموارد المتاحة.
حضر حفل التوقيع الأستاذ الدكتور عامر بن علي الرواس رئيس جامعة ظفار والشيخ جمال بن عبدالله الهنائي مدير عام المديرية العامة للتجارة والصناعة وترويج الاستثمار بمحافظة ظفار، وأشادوا بأهمية هذا التعاون الذي يسهم في تعزيز الجودة الأكاديمية وتقديم حلول مبتكرة للتحديات المشتركة. كما أكد الطرفان التزامهما بتطوير وتطبيق المبادرات المشتركة، بما في ذلك تقديم الاستشارات وتبادل المعرفة وتنظيم حلقات العمل والندوات.
وأشار رئيس جامعة ظفار إلى أن هذا التعاون يأتي في إطار جهود الجامعة لتعزيز الشراكات مع المؤسسات المختلفة لدعم التميز الأكاديمي وتقديم الاستشارات. حيث تقوم كلية التجارة والعلوم الإدارية بجامعة ظفار بإعداد مقترح لدراسة استشارية حول مقومات البيئة الاستثمارية بمحافظة ظفار في مختلف القطاعات.
من جانب آخر بحث الأستاذ الدكتور عامر بن علي الرواس رئيس جامعة ظفار مع الدكتور راشد العبري عميد كلية الطب والعلوم الصحية بجامعة السلطان قابوس مشروع إنشاء كلية الطب الجديدة في جامعة ظفار بما يتماشى مع الالتزامات الواردة في خطاب الاتفاقية الموقع بين الجامعتين وذلك استعدادًا لاستقبال أول دفعة من الطلاب في كلية الطب بجامعة ظفار، مما يبرز التزام الجامعتين المشترك بدعم شراكات أكاديمية قوية.