"فافتَرَقنا حَولاً فَلَمّا التَقَينا .. كانَ تَسليمُهُ عَلَيَّ وَداعا"

(المتنبي)

"ماذا لو؟"، سؤال كثيرا ما نطرحه على أنفسنا؛ ماذا لو سرنا في طرق أخرى، أو اخترنا خيارات مختلفة؟ ماذا لو بقينا مع مَن فارقناهم، وتابعنا سرد الحكايات التي انقطعت؟ إلى أين كانت تؤدي بنا هذه السبل؟ وهل كنا لنصبح أشخاصا آخرين غير مَن نحن عليه الآن؟

يبدو سؤال "ماذا لو؟" وكأنه مفتاح سحري يفتح الباب على احتمالات لا نهائية، وهو السؤال الذي قررت المؤلفة والمخرجة الكورية "سيلين سونغ" أن تطرحه عبر فيلمها "Past lives" أو  "حيوات سابقة" الذي استطاع أن يحصد إشادة نقدية واسعة، منذ عرضه للمرة الأولى في مهرجان صندانس السينمائي، كما رُشح لجائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين السينمائي الدولي.

ويتوقع العديد من النقاد أن يحصد الفيلم عددا من الترشيحات والجوائز في حفل الأوسكار القادم أسوة بسابقه "Everything Everywhere All at Once" أو "كل شيء في كل مكان في وقت واحد" الذي حصل في العام الماضي على سبع جوائز أوسكار، وهو من إنتاج الجهة نفسها "A24" التي تثبت في كل مغامرة إنتاجية قدرتها على فتح المزيد من الآفاق في المشهد السينمائي.

قصة حب انتهت قبل أن تبدأ (مواقع التواصل)

يبدأ الفيلم بافتتاحية هادئة؛ لقطة لثلاثة أشخاص: امرأة من أصل آسيوي تتوسط رجلين، أحدهما آسيوي مثلها، والآخر غربي. تقترب الكاميرا من الثلاثة ببطء، بينما نسمع حوارا بين شخصين خلف الكاميرا، يلعبان لعبة التخمينات حول العلاقة التي تربط الثلاثي، وعبر هذه النظرة المتلصصة ندخل إلى حياة الأبطال الثلاثة.

تروي المخرجة -وكاتبة الفيلم في الوقت ذاته- سيلين سونغ الحكاية في خط بسيط نسبيا يعتمد على ثلاث نقلات زمنية، حيث تعود بنا في الزمن بعد المشهد الافتتاحي السابق ذكره إلى سيول في كوريا قبل 24 عاما، حين كانت البطلة (نا يونغ) في طفولتها تقضي وقتها مع صديقها المقرب وزميلها في المدرسة (هاي سونغ)، ويجمع بينهما حب طفولي بريء، حتى إنها تخبر أمها أنها تنوي أن تتزوجه حين تكبر. لكن هذه الحكاية اللطيفة لا تكتمل أبدا، إذ تهاجر الفتاة مع عائلتها إلى كندا، وتفقد التواصل مع صديقها.

تأتي النقلة الزمنية الثانية بعد 12 عاما، حيث نرى الفتاة وقد كبرت وأصبحت تحمل اسما غربيا "نورا"، بوصفه وسيلة ضمن العديد من الوسائل للاندماج في مجتمعها الجديد. نورا التي تعمل كاتبة مسرحية في بداية مسيرة واعدة، تتذكر صديق طفولتها بالمصادفة وعلى سبيل التسلية، وبينما تبحث عن أسماء أصدقاء ومعارف قدامى من كوريا تبحث عن اسمه، ليفاجئها منشور له على فيسبوك يبحث عنها هو الآخر.

يعاود الصديقان الاتصال بعد مرور 12 عاما، وقد أصبح هاي سونغ الآن طالب هندسة، ولا يزال يعيش مع عائلته في سيول. نراقب كيف يستعيدان صداقتهما، وتبدو الرابطة الرومانسية البريئة بينهما وكأنها تعيد نوعا من التواصل بين نورا وجذورها، حيث تشير له ضاحكة حين يعلق على نطقها للغة الكورية أنها هجرت لغتها الأم ولا تتحدث بها إلا معه ومع والدتها.

يستمتعان ببدايات العلاقة، اللهفة والشوق ومكالمات سكايب الطويلة، حيث تستكشف المخرجة الطريقة التي تربطنا بها التكنولوجيا، لكن اللهفة تبدأ في التلاشي بمرور الوقت، وتحل محلها الحاجة إلى اللقاء الفعلي، والانزعاج من فروق التوقيت ومشكلات الاتصال والشبكات، لتتحول التكنولوجيا إلى عائق.

نورا التي تبدو من البداية شخصية عملية وطموحة (أخبرت أصدقاءها في طفولتها أنها ستترك كوريا كي تحصل على جائزة نوبل) تقرر إنهاء العلاقة التي تشعر أنها بلا مستقبل حقيقي، حيث لا يرغب أيٌّ منهما في السفر للآخر في وقت قريب، وتغير إقامتها لأسباب فنية حيث تلتقي بزوجها المستقبلي آرثر.

تأتي النقلة الزمنية الثالثة بعد مرور 12 عاما أخرى، تعيش نورا الآن في نيويورك مع زوجها، ويخبرها "هاي سونغ" أنه قادم إلى نيويورك في زيارة ويرغب في رؤيتها. يلتقي الصديقان أخيرا بعد مرور 24 عاما كاملة على لقائهما الفعلي الأخير، فما الذي يسفر عنه هذا اللقاء؟ ماذا لو لم تهاجر نورا، هل كانت قصة الحب بينهما لتكتمل بشكل آخر؟

إين يون.. هل تتحكم بنا الأقدار؟

إين يون أو بالكورية "In-Yun "인연، هو مفهوم مشتق من البوذية، تتحدث عنه نورا في أحد لقاءاتها الأولى بمَن سيصبح فيما بعد زوجها الأميركي. تقول نورا إن "إين يون" مفهوم يشابه القدر، ويشير إلى أن أي لقاء حتى لو كان عابرا بين اثنين هو نتاج لقاءات وتفاعلات أخرى في حيواتهما الماضية. وإذا تزوج اثنان فهذا يعني وجود نحو 8000 طبقة من الإين يون بينهما، وحين يسألها عن مدى إيمانها بهذا المفهوم، تجيبه بأنه مفهوم يستخدم في كوريا للإغواء، وهو ما تنجح فيه بالفعل حيث ينتهي المشهد بقبلة طويلة تجمعهما.

تتردد أصداء هذا المفهوم في مختلف مشاهد الفيلم، وفي العلاقة التي تجمعها بحبيبها الكوري القديم. فإن كان مقدرا لهما اللقاء والوقوع في الحب، فخيارات نورا الواقعية والعملية لن تجعلها تتخلى عن حياتها مع زوجها، كما يحدث عادة في قصص الحب الرومانسية التقليدية.

يقدم الفيلم مثلث حب لا يتبع المسار التقليدي المعهود في الحكايات الرومانسية، وهو ما يعبر آرثر عن مخاوفه منه بطريقة ساخرة، حين يخبرها أنه في مثل هذه القصة يُعد الزوج الأميركي هو الشرير الذي يقف في وجه القدر. لكنه في الواقع لم يكن شريرا، إنه زوج محب وداعم مقرب من عائلتها ويسعى للاندماج معهم، يتناول الأطعمة الكورية التقليدية ويحاول تعلم لغتها الأم، لكنه ما زال خائفا من ألا تكون قصته معها رومانسية بما يكفي في مقابل قصة حبيب الطفولة الذي يعاود الظهور من الماضي.

يتساءل آرثر إن كان من الممكن أن تترك حياتها معه لتهرب مع حبيب طفولتها، فابتسمت ساخرة وردت بأنها لن تفوت بروفاتها من أجل رجل. "نورا" امرأة عملية، قوية، لديها أحلامها ومسيرتها المهنية الواضحة التي لن تضحي بها من أجل حلم رومانسي عابر. (1)

ارتباك الهوية (مواقع التواصل)

خلف القصة الرومانسية لحبيب الطفولة العائد هناك طرح شديد الرهافة حول ارتباك الهوية لدى الجيل الثاني من أبناء المهاجرين، فالعلاقة بين "نورا" و"هاي سونغ" ليست مجرد علاقة حب محتملة بقدر ما هي نوع من الخيوط الرهيفة التي تربطها بتلك الطفلة الصغيرة التي تركتها خلفها في مسار طفولتها الذي انقطع في سيول. "هاي سونغ" هو الوحيد الذي يناديها باسمها الكوري، الذي توقفت والدتها عن مناداتها به، فهو هنا ليس مجرد حبيب الطفولة بقدر ما هو رمز لكل احتمالات الحياة التي تركتها عندما اضطرت للهجرة من وطنها الأم.

عندما سألت أم "هاي سونغ" والدة نورا قبل الهجرة عن سبب هجرتهم، أجابت بأن عليك التضحية بأشياء كي تكتسب أشياء أخرى. لقد اكتسبت نورا حياة مهنية واعدة في المهجر، وعلاقة ناجحة مع زوج داعم ومحب، لكنها لن تعرف أبدا ما فقدته في الوطن، ماذا لو تابعت قصة حبها مع هاي سونغ، هل كانت القصة لتحتفظ بالألق ذاته؟ أم أن العشب فقط يبدو أكثر اخضرارا على الجبهة البعيدة التي لا نطولها؟

لكن "نورا" لا تنوي استعادة الماضي أو الانشغال به، أو السماح له بإفساد خياراتها الحالية، بقدر ما جاء لقاؤها الأخير بهاي سونغ بمنزلة وداع ووسيلة للسماح بالرحيل، وداع مناسب لم يحظ به الطفلان اللذان افترقا دون وداع لائق، كي يتمكن كلٌّ منهما من الاستمرار في المضي قدما.

"أنت تحلمين بلغة لا أفهمها"، هكذا يخبرها زوجها "آرثر"، فيما يعكس توقه للتواصل مع هذا الجزء من شخصيتها، الجزء الذي لا يزال مرتبطا بالوطن رغم محاولات التكيف مع الوطن الجديد. (2)

التجربة السينمائية الأولى كتبت سيلين سونغ  (يسار) وأخرجت للمسرح والدراما التلفزيونية عددا من الأعمال الواعدة، وفيلم "past lives" هو فيلمها الروائي الطويل الأول (IMDB)

"في ربيع 2018 وجدت نفسي أجلس في حانة في إيست فيلدج بين زوجي وصديق طفولتي، أحدهما يتحدث الإنجليزية فقط، والآخر لا يتحدث سوى الكورية، أدركت أني لا أترجم بين لغتيهما فقط، بل أيضا أترجم بين هذين الجزأين من نفسي، ومن هنا ولد الإلهام لقصة الفيلم".

(الكاتبة والمخرجة سيلين سونغ)

تشترك سيلين سونغ في الكثير من الأمور مع بطلتها "نورا"، مثلها هاجرت من كوريا مع عائلتها في عمر الثانية عشرة إلى كندا، وانتقلت إلى الولايات المتحدة الأميركية في العشرينيات من عمرها حيث التقت بزوجها الكاتب "جاستن كوريتزكيس".

كتبت "سونغ" وأخرجت للمسرح والدراما التلفزيونية عددا من الأعمال الواعدة، وفيلم "past lives" هو فيلمها الروائي الطويل الأول، الذي استندت في كتابة قصته إلى جزء من حياتها الشخصية. تمكنت من تقديم لغة بصرية أنيقة وبسيطة من خلال التصوير بكاميرا 35 ملم، وتمكنت من استغلال إمكانيات السينما دون أن تحبس نفسها داخل إطار تقنيات المسرح والدراما التلفزيونية التي اعتادت على العمل من خلالها.

وقد استفادت "سونغ" في كتابة الفيلم من خبرتها في الكتابة للمسرح وللتلفاز. عادة ما تعاني الأفلام الأولى التي يصنعها كُتّاب من خلفية مسرحية من الحوارات الطويلة، لكن سيلين سونغ نجحت في كتابة فيلم وازنت فيه بين الحوار المنطوق ولحظات الصمت التي نقلت فيها مشاعر الشخصيات عبر لقطات مقربة تركز على وجوههم، فلم تستغرق في الحوارات الطويلة أو العميقة، عدا المشاهد التي تجمع بين الزوجين نورا وآرثر، وهو ما يمكن تبريره بأن كليهما يعمل في الكتابة الإبداعية. في هذا السياق نجح المصور "شابير كيرشنر" في تقديم لقطات مقربة لوجوه الأبطال كانت في بعض الأحيان بديلا للحوار المنطوق.

اختارت الكاتبة ما ركزت عليه من أبعاد الشخصيات، فبينما برزت شخصية "نورا"، لم نعرف الكثير عن شخصية "هاي سونغ"، وكأنه لا توجد أبعاد أخرى لحياته خارج ارتباطه العاطفي بنورا. وبينما نشهد لمحات من ماضي "هاي سونغ" و"نورا" في طفولتهما يظهر "آرثر" فجأة في حياتها ولا تظهر عائلته أو ماضيه، فالماضي في كوريا، الوطن المهجور، بينما الحاضر يبقى رغم حضوره القوي بلا جذور. في مشهد معبر، بينما هي نائمة يظهر "آرثر" للمرة الأولى في النافذة المفتوحة خلفها، وكأنه أقرب للحلم، كما وصفته المخرجة في إحدى المقابلات.

نجح الممثلون الثلاثة في إيصال المشاعر شديدة الدقة والرهافة للشخصيات، وقد استفادت المخرجة من ظروف التصوير في خلق المشاعر بين طاقمها، على سبيل المثال كانت الممثلة "جريتا لي" التي تؤدي دور نورا تعيش في لوس أنجلوس، بينما كان "تيو يو" الذي أدى دور "هاي سونغ" يعيش في كوريا، فلم يلتقيا إلا عبر جلسات الزوم حتى حان وقت تصوير المشاهد التي جمعتهما في نيويورك، وهو ما استغلته المخرجة لخلق نوع من الشعور بالتحفظ وعدم الراحة الذي يظهر عند استعادة التواصل مع صديق قديم.

قدمت المخرجة كذلك عددا من الإشارات لأفلام أخرى تناولت العلاقة مع الزمن والذاكرة، فنرى ملصقا لفيلم "Celine and Julie Go Boating" على جدار مكتب والد نورا. كما تستدعي نورا فيلم "Eternal Sunshine of the Spotless Mind" في حديثها مع هاي سونغ، ليظهر وهو يشاهد مقطعا منه في المشهد التالي. كما تذكرنا مسيرة "هاي سونغ" و"نورا" في شوارع نيويورك بعد لقائهما ببعض مشاهد ثلاثية "ريتشارد لينكليتر" الشهيرة.

يعتمد الفيلم على سرد خطي مباشر، بإيقاع بطيء نسبيا رغم أنه يتناول أكثر من عقدين من الزمن في زمن أقل من ساعتين، فيما يبدو رثاء لكل الاحتمالات اللا نهائية لطرق أخرى كان من الممكن أن نسلكها.

______________________________________________

المصادر:

1-‘Past Lives’ review: This aching film is the most affecting love story in ages : NPR 2-Past Lives movie review & film summary (2023) | Roger Ebert

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: فی کوریا ماذا لو عددا من وهو ما

إقرأ أيضاً:

موظفة مايكروسف سابقة تفضح الشركة.. هكذا تتربح من سفك الدماء في غزة

لم يقتصر رفض ومعارضة العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة على العرب والمسلمين فقط، بل تعداهم ووصل لأشخاص من جنسيات وأديان مختلفة، ووصل الأمر لأن يخسر بعض مؤيدي القضية الفلسطينية وظائفهم المُريحة والمُربحة ماديا.

وتصدر موظفون في شركات تكنولوجيا عالمية، رفض المشاركة في دعم الحرب الإسرائيلية على غزة، كان آخرهم المهندستين الهندية فانيا أغراوال والمغربية ابتهال أبو سعد اللتان فقدتا وظيفتهما بسبب معارضتهما لمشاركة "مايكروسوفت" في دعم جيش الاحتلال بتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي والتخزين السحابي.

وقالت فانيا أغراوال في مقابلة خاصة ومصورة مع "عربي21"، "إنها وموظفين آخرين سابقين وحاليين في مايكروسوفت أسسوا حملة تطالب الشركة بإنهاء تواطؤها مع نظام الفصل العنصري الإسرائيلي والإبادة الجماعية".


وأكدت أغراوال "أنه رغم فصل الشركة لها بسبب احتجاجها في ذكرى تأسيس مايكروسوفت الخمسين، إلا أنها ليست نادمة ومتمسكة بما قامت به بقناعة، معتبرة فصلها من عملها وسام شرف".

وترى أن "شركات التقنية التي اعتُبرت محركا للابتكار والتكنولوجيا من أجل الخير، جميعها شركات تصنيع أسلحة متخفية، وهي ليست مجرد شركات ابتكار تقني، بل هي شركات تصنيع أسلحة راسخة الجذور في المجمع الصناعي العسكري، ومديروها التنفيذيون، هم من تجار الحروب".



وتاليا نص الحوار مع فانيا أغراوال كاملاً:

كيف ترين قرار مايكروسوفت بفصلك وزميلتك ابتهال أبو سعد بسبب موقفكما من تعاونها مع جيش الاحتلال؟
بداية أسمي فانيا أغراوال وأنا أحد منظمي حملة "لا آزور للفصل العنصري"، وهي حركة يقودها موظفين حاليين وسابقين في مايكروسوفت تطالبها بإنهاء تواطؤها مع نظام الفصل العنصري الإسرائيلي والإبادة الجماعية في غزة، وكجزء من الحملة، خططنا ونظمنا احتجاجات خلال حفلها بمناسبة الذكرى الخمسين لتأسيسها.

لقد شعرنا أنه لا يمكن السماح بأي احتفال بينما (يدي) مايكروسوفت ملطخة بالدماء، لذا نظمنا هذه الفعالية سعيًا للحصول على إجابات من مسؤولي الشركة ومديريها التنفيذيين حول تواطؤهم في تسريع وتيرة الإبادة الجماعية، وفي 7 أبريل طُردت انا وابتهال بسبب احتجاجاتنا، لكنني أتمسك بما قمت به بقناعة، واعتبر فصلي وسام شرف.

وفصلنا من العمل ليس إلا دليلاً إضافياً على فشل مايكروسوفت في دعم حرية التعبير لموظفيها، وعلى ازدواجية المعايير المتبعة في أي خطاب يتعلق بفلسطين، لطالما تجاهلتنا، وأسكتتنا، وانتقمت منا لفضحنا نفاقها وتواطؤها، لكن الآن لا مجال لديهم للإنكار لقد استمعوا لمطالبنا بصوت عالٍ وواضح.

يجب على مايكروسوفت الكشف عن جميع علاقاتها بالجيش الإسرائيلي وسحب استثماراتها منه، وعليها الدعوة إلى وقف فوري ودائم لإطلاق النار في غزة، كما يجب عليها حماية حرية التعبير لموظفيها الفلسطينيين والعرب والمسلمين ومؤيديهم.

إلى كل أصحاب الضمير الحي في كل مكان، ندعوكم للمطالبة بأن تكون أماكن عملكم بعيدة كل البُعد عن إسرائيل، وخاصةً العاملين في قطاع التكنولوجيا، مهما كان دوركم، ارفضوا أن يكون لعملكم وسلطتكم وجهدكم دوراً في دعم نظام الفصل العنصري والإبادة الجماعية.


أما الذين لا يعملون في مجال التكنولوجيا، استمروا في مقاطعة شركة مايكروسوفت وممارسة الضغط عليها حتى تتم الاستجابة لمطالبنا، استمروا في إغراق المنشورات على صفحاتها في مواقع التواصل الاجتماعي بتعليقات تُعبر عن مطالبنا بوقف دعمها للإبادة الجماعية في غزة.

ولا تنفقوا ولو دولارًا واحدًا على منتجات مايكروسوفت طالما أنها مستمرة في جني الأرباح من الإبادة الجماعية، لقد ولى زمن الصمت والسلبية فالفظائع والجرائم ضد الإنسانية في غزة تزداد رعبًا يومًا بعد يوم، علينا أن نرفع صوتنا ونتحرك، كل شيء تقدمه أو تضحي به - سواء كان وقتك، أو مواردك، أو طاقتك، أو حتى وظيفتك - له قيمة ويُحدث فرقًا.

كيف تدعم شركات التكنولوجيا الحرب على غزة؟
اليوم أصبحت تكنولوجيا الحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي بنفس القدر من الحساسية والخطورة مثل القنابل والرصاص، والعلاقة بين شركة مايكروسوفت وقوات الاحتلال الإسرائيلي تعود لعقود.
ففي عام ٢٠٠٢ شاركت مايكروسوفت في أكبر صفقة برمجيات في إسرائيل آنذاك، وفي عام ٢٠٢١ وقّعت عقدًا مع وزارة الدفاع الإسرائيلية بقيمة ١٣٣ مليون دولار.

وأعتقد أننا عادةً عندما نفكر في مصنعي الأسلحة، فإننا نفكر في شركات مثل لوكهيد مارتن ورايثيون تيكنولوجيز و بوينغ وما إلى ذلك، ولكن في عصر الرقمية والذكاء الاصطناعي نحتاج إلى إعادة صياغة فهمنا للدور الذي تلعبه شركات التكنولوجيا في استمرار الفصل العنصري والإبادة الجماعية.

شركات التقنية هذه التي كنا نعتقد أنها محركات للابتكار والتكنولوجيا من أجل الخير، جميعها شركات تصنيع أسلحة متخفية، ولها علاقات طويلة الأمد مع المجمع الصناعي العسكري الأمريكي.

ولا يقتصر الأمر على مايكروسوفت، بل يشمل جوجل، وأمازون، و بالانتير ، وميتا، جميعها ليست مجرد شركات ابتكار تقني، بل هي شركات تصنيع أسلحة راسخة الجذور في المجمع الصناعي العسكري، ومديروها التنفيذيون، الذين عشقهم العالم لعقود، هم من تجار الحروب.

أما بالنسبة لشركة مثل مايكروسوفت، التي تفخر برسالتها وقيمها، يُعد هذا نفاق وتناقض كبير، كيف يمكن السماح لشركة بأن تزعم أنها تهدف إلى تمكين كل شخص وكل منظمة على هذا الكوكب من تحقيق المزيد، بينما تقوم بتسليح نظام الفصل العنصري بشكل نشط.

لم يعد بإمكان مايكروسوفت الاختباء وراء رسالتها أو مكانتها، ويستحق موظفيها أن يعرفوا بالضبط من يستفيد من عملهم، ولهم الحق في رفض الموافقة على استخدام عملهم في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية.


هل تشرحين لنا كيف يستخدم جيش الاحتلال الذكاء الاصطناعي في المجال العسكري؟
يُمكنني التحدث تحديدًا عن مايكروسوفت، حيث أصبح لها موطئ قدم في جميع البُنى التحتية العسكرية الرئيسية في إسرائيل، وتشمل اتفاقيات الخدمات العسكرية بينها والجيش الإسرائيلي أكثر من 600 اشتراك أو حساب فردي مُدرج ضمن أقسام أو وحدات أو قواعد أو مشاريع مُحددة داخل الجيش، بما في ذلك وحدة 8200 والوحدة 81، وهما وحدتان حاسوبيتان واستخباراتيتان.

وقد تورطت هاتين الوحدتين بانتهاكات وجرائم ضد الفلسطينيين، أيضا تُزوّد مايكروسوفت الجيش الإسرائيلي بخدمات تخزين سحابي وذكاء اصطناعي عبر منصة Azure، وغيرها من الخدمات التي تُعدّ أساسية في أتمتة الجرائم الإسرائيلية المروعة والوحشية في غزة.

ويستخدم الجيش الإسرائيلي هذه التقنيات السحابية والذكاء الاصطناعي لإنشاء منصة أسلحة و"مصنع اغتيالات جماعية" تعمل على أتمتة الجرائم وتسريعها من خلال أنظمة مثل Gospel وLavender وWhere's Daddy، والتي تعمل على إنشاء قوائم اغتيالات، وبنوك أهداف، وتساعد في مراقبة وقصف الشعب الفلسطيني بشكل عشوائي.

بالإضافة إلى الحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي، تقدم مايكروسوفت أيضًا خدمات دعم برمجية للجيش والحكومة الإسرائيلية بملايين الدولارات من الأرباح، فعلى سبيل المثال تضع موظفين في وحدات عسكرية إسرائيلية للعمل على مشاريع حساسة وسرية للغاية مثل أنظمة المراقبة.

كما يقدّم موظفو مايكروسوفت والمقاولون المتعاونون معها استشارات متخصصة ودعمًا تقنيًا، سواء عن بُعد أو من داخل القواعد العسكرية، كما تستضيف منصة Azure برمجيات تُستخدم في تدريب قوات الاحتلال الإسرائيلي، بالإضافة إلى تقديم البنية التحتية السحابية من مايكروسوفت.

أيضا توفر مايكروسوفت البنية التحتية السحابية لشركة بالانتير (Palunteer)، المعروفة بكونها تاجر أسلحة الذكاء الاصطناعي في القرن الحادي والعشرين.

وللشركة شراكات حكومية، وشراكات في مجالات السياسة والسجون، بالإضافة إلى عمليات غير قانونية تُنفَّذ على أراضٍ محتلة بشكل غير شرعي، بما في ذلك المستوطنات، والقائمة تطول وتطول في توثيق علاقات مايكروسوفت العميقة بالجيش والحكومة الإسرائيلية.

وكل هذه التفاصيل مذكورة بالكامل في تقرير التواطؤ الصادر عن حركة المقاطعة BDS)) بشأن مايكروسوفت، الحقيقة أصبحت الآن واضحة ولا يمكن إنكارها: مايكروسوفت تُشكّل العمود الفقري التكنولوجي لنظام الفصل العنصري والإبادة الجماعية المؤتمت في إسرائيل، وفي نهاية المطاف، هي شركة تصنيع أسلحة رقمية.


ما تعليقك على ملاحقة معارضي الحرب على غزة في الولايات المتحدة؟
نعم، يتعرض معارضي الحرب لاضطهاد شديد، يُطارد الطلاب ويُختطفون ويُرحّلون، يُجرّم المتظاهرون ويُرسلون ظلماً إلى السجون، إنه لأمر مرعب، إنه ظلم، وهو انتهاك صارخ لحقوق الناس التي يُفترض أنها محمية في هذا البلد.

الوقت الحالي مخيف جدًا للتعبير عن رأيك أو معارضة السياسات، لكن أعتقد أن هذا هو بالضبط ما يجعل هذا الوقت بالغ الأهمية للتحرك، وأعتقد أنه من المهم أيضًا أن نتذكّر أن كل خطوة في هذه الحركة لها قيمة.

لستَ مضطرًا للمخاطرة بوظيفتك أو سلامتك أو رفاهيتك لإظهار دعمك، وكما تعلمون، فإن احتجاجنا في الذكرى الخمسين لتأسيس مايكروسوفت كان نتيجة لعمل العديد من الأشخاص خلف الكواليس، وغالبًا ما يكون هذا العمل الهادئ والمتواضع هو الأهم والأكثر حاجةً.

لكن هل تعتقدين أن حرية التعبير في أمريكا انتهت منذ تولي ترامب منصب الرئاسة؟
لا أعتقد أن هذا الأمر بدأ بمجرد تولي ترامب منصبه، من المهم أن نتذكر أن حملتنا مضى عليها أكثر من عام، أي قبل انتخابه، مع ذلك، أعتقد أن تدهور حرياتنا، بما في ذلك حرية التعبير في جميع أنحاء البلاد، قد تسارع بسرعة كبيرة في عهده.

قمع وإسكات المتظاهرين والانتقام من المطالبين بالعدالة، كل هذا كان كامنًا ومتناميًا منذ فترة طويلة في هذا البلد، لكنه لم يكن بهذه القسوة من قبل، ولم يكن صاخبًا وواضحاً أمام أعيننا.

وينبع هذا من حقيقة أن شركات مثل هذه الشركات التكنولوجية العملاقة لديها حصة كبيرة في المجمع الصناعي العسكري الأمريكي، إنهم في الواقع يبنون ثرواتهم ونفوذهم على التربح من الحرب.

ومع استمرارهم في النمو أكثر فأكثر وامتلاكهم لهذه الحصص في الحرب، فإن تحالفاتهم مع الجيش والحكومة الأمريكية تجعلهم امتدادًا للقوات المسلحة للدولة، إنهم لا يقدمون خدمات للبنى التحتية العسكرية فحسب، بل أيضا يساعدون في مراقبة المدنيين، واستهداف الأبرياء، وحتى إسكات المعارضة.

ماذا تقولين لأهالي قطاع غزة؟
لا أعتقد أن هناك شيئًا يمكنني قوله لشعب غزة قد يُخفف من معاناتهم أو يُحسّن من واقعهم، لا أستطيع تخيّل الأهوال والأحزان والآلام التي شهدوها وشعروا بها وحملوها لعقود جيلًا بعد جيل.
ولا عذر للعالم وقادته لتقصيرهم في التحرك في هذه اللحظة، لكن كل ما أستطيع قوله لهم هو أننا هنا ونراكم، وسنواصل النضال من أجل حقكم في العيش في فلسطين حرة ومُحررة خلال حياتنا.

مقالات مشابهة

  • موظفة مايكروسف سابقة تفضح الشركة.. هكذا تتربح من سفك الدماء في غزة
  • المجد للبندقية التي حرست المواطن ليعود الى بيته الذي كانت قحت تبرر للجنجويد احتلاله
  • لم يكن الصراع السياسي أبدا سلميا في السودان
  • كلوب يهنئ ليفربول: «لن تسير وحدك أبداً»
  • «رؤية 2030" تتحقق».. محافظ أسيوط يناقش مع والمالية و "E-Finance تعزيز الشفافية المالية إلكترونياً
  • منابر الإعلام بين المسؤولية والإساءة اللفظية
  • الماضي الذي يأسرنا والبحار التي فرقتنا تجربة مُزنة المسافر السينمائية
  • ماذا تعرف عن صاروخ بار الذي استخدمه الاحتلال لأول مرة بغزة؟
  • إعلام إسرائيلي: صبر ترامب نفد وأوهام سموتريتش لن تتحقق
  • نهاية أم مخرج سياسي.. ماذا حول صفقة "إقرار بالذنب" التي اقترحها الرئيس الإسرائيلي بشان نتنياهو؟ "تفاصيل"