اقتصاد المعرفة.. نحو تنمية مستدامة شاملة (5)
تاريخ النشر: 5th, September 2023 GMT
د. إبراهيم بن عبدالله الرحبي
Ibrahim1alrahbi@gmail.com
رؤية "عُمان 2040" نموذجًا
ثالثًا: مرتكز البحث والتطوير والابتكار
تطرقنا في المقال السابق من هذه السلسلة إلى أهمية المرتكز الثاني المتعلق بالتعليم والتدريب لرؤية "عُمان 2040"؛ حيث حققت السلطنة حتى الآن معدلات مرضية في مؤشر التعليم للجميع حيث جاء ترتيبها 51 من بين 92 دولة، وكذلك الحال بالنسبة لمؤشري التنافسية العالمية في مجالي المهارات والمواهب؛ حيث حلت في المرتبتين 36 من بين 140 دولة و56 من أصل 119 دولة على التوالي.
أما التعليم العالي وهو الداعم الرئيس لمرتكز البحوث والتطوير فإن مؤشر سلطنة عُمان في نسبة الالتحاق بالتعليم العالي بحاجة إلى جهود مكثفة واستثمارات سخية على جميع الصعد للتقدم من المركز الحالي 48% للوصول إلى مستوى الدول المتقدمة الذي يتعدى حاليا 80% في المتوسط وهي النسبة المناسبة والمؤهلة لتحقيق رؤية "عُمان 2040" عبر بوابة اقتصاد المعرفة.
ونسلط الضوء في هذا المقال على أهمية المرتكز الثالث لاقتصاد المعرفة. فالبحث والتطوير والابتكار يعني العمل الإبداعي المنجز على أساس منهجي بهدف زيادة المخزون المعرفي الذي يمكن تطبيقه لتحسين عمليات الإنتاج المختلفة والتطبيقات والتقنيات المستخدمة في ذلك. إنها العملية الإبداعية التي يتم من خلالها استخراج قيمة اقتصادية إضافية من المعرفة وتحويلها إلى منتجات وعمليات وخدمات جديدة، بصرف النظر عن التقدم التكنولوجي. ويوحي الجزء الأخير من هذا التعريف بأن التطوير والابتكار يمكن أن يتحقق حتى في البلدان النامية، والتي قد يكون بمقدورها تجاوز بعض الدول المتقدمة كما هو الحال في سنغافورة، وكوريا الجنوبية وتايوان ومؤخرا ماليزيا؛ حيث لعب التعليم والبحث والتطوير دورا رئيسيا في هذا الإنجاز مما ضاعف من ناتجها المحلي الإجمالي في أقل من عشرين عامًا.
ولنجاح سياسة البحث والتطوير والابتكار، فلا بُد من وجود نظام متكامل يضم شبكة من المؤسسات والقواعد والإجراءات التي تؤثر على الأساليب التي تكتسب الدولة من خلالها المعرفة وتنتجها وتستخدمها وتنشرها. وكنموذج فعَّال للدول الطامحة لدخول اقتصاد المعرفة يفترض أن يتألف نظام البحث والتطوير من تكامل بين مؤسسات القطاعين العام والخاص ذات العلاقة والجامعات ومعاهد البحوث والعاملين فيها. بحيث يوفر هذا النظام البيئة الملائمة لرعاية وتمكين وتحفيز الابتكار ليكون مصدرا للميزة التنافسية لمنتجات الدولة وصناعاتها وخدماتها في السوق العالمية.
وترى النظرية الحديثة للابتكار أن إنتاج المعرفة لا يمكن فصله عن عملية البحث والتطوير، وهو لا يعتمد على الاكتشاف فقط، وإنما على البحث والتعلم المستمر أيضًا. ولا يقتضي التعلم بالضرورة اكتشاف الجديد من المبادئ الفنية والعلمية، وإنما يمكن أن يقوم على الأنشطة التي تعيد تجميع أو تطبيق وبالتالي تطوير وتحديث النتائج القائمة على المعرفة. وتؤكد الدراسات العلاقة الإيجابية بين البحث والتطوير والابتكار من جهة والأداء الاقتصادي للدول من جهة أخرى، حيث تكون أكثر كثافة في البلدان ذات الدخل المرتفع والإنتاجية العالية. كما أن الاقتصادات الأكثر ابتكارية تحقق مستويات أعلى في النمو الاقتصادي المستدام. وتعزى هذه المساهمة الاقتصادية الإيجابية إلى عدة اعتبارات؛ فغالًبا ما يؤدي البحث والتطوير، من خلال الابتكار، إلى إنتاج منتجات جديدة، وزيادة المنافسة بين المنتجين والمصنعين المحليين، وبالتالي تحقيق نمو في السوق، وإرضاء المستهلك. كما تحدث تحسينات في المنتجات والعمليات القائمة مما يؤثر إيجابًا في خفض التكلفة وزيادة القيمة المضافة.
وكنقطة للانطلاق يجب أن توفر السياسات الحكومية الدعمَ للأنشطة الابتكارية من حيث اكتساب المعارف الجديدة، ونقل التكنولوجيا ونشرها وتوظيفها اقتصاديًا من خلال تحفيز الابتكار المُثمر عبر الأداء الحكومي الفعّال، والحماية القانونية لحقوق الملكية الفكرية، والنظم المالية الدعمة. ويبدو أن مثل هذه البيئة الخلاقة للبحث والتطوير والابتكار تعد شرطا مسبقا لتعزيز الابتكار المحلي، وجذب التعاون مع مؤسسات البحث والتطوير العالمية.
ومما يبعث على التفاؤل في سلطنة عُمان أنها أسست لنظام البحث والتطوير والابتكار بمفهومه الحديث من خلال مجلس البحث العلمي الذي أنشئ في عام 2005 والذي دمج مؤخرا ضمن اختصاصات وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار. ونستطيع القول إن هناك منظومة وطنية متكاملة للبحث العلمي، وسعة بحثية على كافة المستويات (باحثون، وباحثون مساعدون، وفنيون)، إضافة إلى توفيرها بنية أساسية بحثية تشمل مراكز وبرامج بحثية متنوعة وتوفر الأدوات والتقنيات والأجهزة البحثية لتعزيز وتمكين البحث العلمي في القطاع الأكاديمي، ووجود ثقافة للبحث العلمي في الأوساط التعليمية والأكاديمية، والإنتاج المعرفي.
واعتماد خارطة طريق البحث والتطوير والابتكار ضمن خطة التنمية الخمسية العاشرة الحالية (2021- 2025) وفق متطلبات "الاستراتيجية الوطنية للبحث العلمي والتطوير 2040"، سوف تُعزز دور البحث العلمي والتطوير في التحول لمُجتمع المعرفة وتحقيق التميز البحثي بشكل يؤدي إلى التأثير الاقتصادي والاجتماعي المنشود. واستنادًا إلى أهم مُؤشر لدعم البحث والتطوير والابتكار كنسبة مئوية من الناتج المحلي، فإنَّ رفع النسبة الحالية تدريجيًا من 0.37 في المائة إلى 2% بحلول عام 2040، وفق ما تقترحه الإستراتيجية الحالية، يُعد مطلبًا مُلحًا لتحقيق مستهدفات رؤية "عُمان 2040"، مُقارنة بنحو 1.58 في المائة و2.63 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي الحالي لمتوسط دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والمتوسط العالمي على التوالي.
لا شك أن مُمكنات البحث والتطوير في سلطنة عُمان واعدة فهناك الإرادة السياسية للنهوض بالبحث العلمي والابتكار كونه أحد أولويات رؤية "عُمان 2040"، لإضافة لوجود استراتيجية وطنية للابتكار. لكن يبقى أن نشير إلى أنَّ الوصول لمستهدفات هذه الرؤية في الابتكار ضمن أفضل 20 دولة بحلول عام 2040؛ صعودًا من المرتبة الحالية 69 من بين 127 دولة، يتطلب جهودًا تشاركية وتكاملية مُضنية واستثمارات سخية خاصة من قبل الحكومة، إذا ما علمنا أنَّه لا يفصلنا سوى 17 عامًا فقط لبلوغ هذا الهدف، مع وجود تسابق دولي محموم في هذا الجانب؛ الأمر الذي يحتم تسخير الإمكانيات كافة لخدمة هذا الهدف، وعلى الحكومة- بشكل خاص- أخذ زمام المبادرة في زيادة الإنفاق على البحث والتطوير والابتكار بسبب كلفتها العالية ومردودها المالي الذي يستغرق وقتًا طويلًا لا يستطيع القطاع الخاص تحمله خلال هذه المرحلة، مع التركيز على المشاريع والمبادرات البحثية التطبيقية ذات الأولوية الوطنية، وتطوير شركات وتقنيات قادرة على المساهمة في الاقتصاد الوطني ضمن ممكنات الثورة الصناعية الرابعة.
** متخصص في اقتصاد المعرفة
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
المفتي يؤكد: مصادر المعرفة في الإسلام تقوم على الوحي والعقل والتجربة
قال الدكتور نظير عياد، مفتي الجمهورية ورئيس الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم: إن من بين الأسئلة المحورية التي ينشغل بها الباحثون عن الحقيقة سؤال: ما هي مصادر المعرفة؟
وأوضح فضيلته، خلال حديثه الرمضاني على قناتَي DMC والناس الفضائيتين، أن هذا السؤال يُطرح رغبةً في الكشف عن السُّبل الصحيحة التي يتوصل بها الإنسان إلى المعارف المتعلقة بدينه ودنياه، موضحًا أن مصادر المعرفة في التصور الإسلامي تقوم على ثلاثة عناصر أساسية، هي: الأخبار الصادقة المتمثلة في الوحي، والعقل السليم، والتجربة أو الحوادث الظاهرة.
وأضاف فضيلته أن بعض أهل السلوك والعرفان يشيرون إلى مصدر رابع يتمثل في الذوق، أو الكشف، أو الإلهام، أو الإشراق، أو العرفان، وهو مصدر يُستأنس به في مجال التزكية والتربية الروحية، لا في بناء الأحكام الشرعية.
وأكد فضيلته أن الأخبار الصادقة تشمل القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، حيث يقف المتأمل فيهما على كنوز عظيمة من المعرفة، تتصل بالخالق والمخلوق والعلاقات بينهما، واستشهد بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة: 2]، وقوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59]، وقوله سبحانه: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31].
كما استشهد بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي»، و«خذوا عني مناسككم» مبينًا أن السنة النبوية شارحة ومبينة للقرآن، ومفسرة لأحكامه.
وأوضح مفتي الجمهورية أن الوحي مصدر شامل للمعرفة، لا يقتصر على الأمور التعبدية فقط، بل يشمل تنظيم المجتمع، وضبط الأخلاق، وتأسيس القيم، ووضع التشريعات التي تنظم حياة الإنسان.
وفي حديثه عن العقل، أشار إلى أنه من أعظم النعم الإلهية، ودعا إلى التأمل في النفس والكون، مستشهدًا بقوله تعالى:
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53]، وقوله تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21]، وقوله سبحانه: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا...} [الروم: 42]، كما لفت إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «تفكروا في آلاء الله»، مبينًا أن التفكر لا يكون إلا بالعقل.
ونوَّه فضيلته بأهمية التفرقة بين ما يمكن للعقل إدراكه بالتوافق مع النصوص، وبين ما يتوقف عند حدود السمع والنقل، كالغيبيات التي لا سبيل لمعرفتها إلا من خلال الوحي.
أما فيما يخص التجربة، فأوضح أنها وسيلة معرفية مهمة، خصوصًا في مجالات العلوم التطبيقية، وتُعد مكملة للوحي والعقل في إدراك الواقع وفهم قوانينه.
وفي حديثه عن الكشف والذوق والإلهام، أشار مفتي الجمهورية إلى أنها من المقامات الروحية التي تخص أهل التزكية والسلوك، ولا يُبنى عليها حكم شرعي، بل يُستأنس بها ما دامت لا تُخالف النصوص الشرعية.
وختم فضيلته حديثَه بالإشارة إلى ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في شأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث قال: «قد كان في الأمم محدثون، فإن يكُ في أمتي أحد فعمر»، مشيرًا إلى قصة "يا سارية الجبل"، على أنها من الكرامات التي يُستأنس بها، ولا يُحتج بها تشريعيًّا.