الأنباء كمرآة لاتجاهات الرأي العام

من الطبيعي أن يصممَ محرِّرو نشرات الأخبار أولويَّات الأنباء وتسلسلها بناءً على استقراء دقيق لمؤشِّرات اهتمام الكتلة الأكبر من مستهلكي المادَّة الإخباريَّة في إقليم أو دَولة ما.
وقَدْ حانت لي فرصة طريفة، هي مدعاة للتندُّر: فعِنْدما استمعت لنشرة أخبار إحدى الفضائيَّات العربيَّة الأكثر شيوعًا عَبْرَ العالَم العربي، لاحظتُ المبالغة في الأطوال الزمنيَّة المُخصَّصة لأنباء قَدْ لا تهمُّ المستهلك العربي للأخبار كثيرًا: فضحكت في دخيلتي على تخصيص المساحة الإخباريَّة الأعظم لانقلاب في دَولة إفريقيَّة قَدْ لا تهمُّ المواطن العربي ولا يهمُّها المواطن العربي، لا من قريب ولا من بعيد.

وصدفةً، استمعتُ إلى نشرة أخبار فضائيَّة الـــ CBSبعد ذلك مباشرة، وهي من أهمِّ الفضائيَّات العالَميَّة، ففاجأني أنَّ هذه الفضائيَّة الأكثر شيوعًا عالَميًّا لَمْ تذْكُرْ خبر الانقلاب العسكري في النيجر، وكذا الحال في تجاهلها لانقلاب عسكري ثانٍ في دَولة «الجابون» Gabon الإفريقيَّة، إذ إنَّ مُحرِّر أخبار الـ CBS بدا لي أدنى وعيًا بالأخبار الدوليَّة وبأولويَّاتها من ناحية الاهتمام الجماعي.
وإذا ما تجاهلت الــCBS أنباء الانقلابَيْنِ العسكريَّيْنِ في «النيجر» و»الجابون»، فإنَّ في ذلك مؤشِّرًا واضح المعالم على طبيعة اتِّجاهات الرأي العامِّ واهتمامات المستهلك الإعلامي الأميركي والعالَمي.
أمَّا الفضائيَّات العربيَّة إيَّاها، فقَدْ عكست نشرات أخبارها «وعيًا كونيًّا» يفوق وعي مُحرِّر الأخبار في الـــCBS، بالعالَم الإفريقي! الأخير قَدْ فاز بما يهمُّ متابع الأخبار في بلاده وعَبْرَ العالَم عِنْدما ركَّز (طولًا زمنيًّا وصورة) على الإعصار الذي ضرب «مقبض المقلاة» (أي ولاية فلوريدا)، ثمَّ توجَّه بآثاره المُدمِّرة إلى الولايات الأخرى شمالًا، مع إشارة خاصَّة إلى ما خلَّفه هذا الإعصار من هدم وفيضانات ودمار عَبْرَ خطِّ مساره المتوقَّع.
ربَّما يفضِّل المواطن العربي أن يتابعَ أخبار الفضائيَّة الأميركيَّة، مقارنة بأخبار الانقلابات في دوَل إفريقيَّة، هو لَمْ يكُنْ قَدْ سمع بها من ذي قَبل: فبماذا يهتمُّ متابع الأخبار العربي أكثر: بالإجراءات المسبقة لمواجهة إعصار أو كارثة طبيعيَّة، أم بمجموعة من الضبَّاط الأفارقة الذين اتَّفقوا على عزْلِ رئيسهم وقفزوا إلى السُّلطة بتأسيس مجلس انقلابي يحكم البلاد نَحْوَ اتِّجاه المجهول؟
وبطبيعة الحال، فإنَّ في سياسات تحرير الأخبار ثمَّة بُعدًا تثقيفيًّا عامًّا؛ نظرًا لأنَّ مؤشِّرات الأولويَّات الخبريَّة توجِّه الاهتمام والرأي العامَّ الشَّعبي باتِّجاه الأهمِّ، ثمَّ المُهمِّ، ثم الأدنى أهمِّية.
والحقُّ أقول، فإنَّ التركيز على انقلابات عسكريَّة في دوَل منسيَّة يُمكِن أن يحرفَ ثقافة الجمهور باتِّجاه الأدنى أهمِّية على حساب المُهمِّ بحقٍّ، خصوصًا بالنسبة لجمهور خالي المَعدة.
لذا، وجب الاستفهام: مَن هو مُحرِّر الأخبار الأكثر وعيًا باتِّجاهات الاهتمام والرأي العامِّ السَّائدة في أيِّ مُجتمع متابع للأخبار؟ هل تفوَّق مُحرِّر الأخبار في الفضائيَّة العربيَّة على مكافئه في الفضائيَّات الأميركيَّة، أم أنَّه هدر وقته ووقت مستهلك الأخبار العربي بأنباء لا تهمُّه ولا تؤثِّر على حياته؟

أ.د. محمد الدعمي
كاتب وباحث أكاديمي عراقي

المصدر: جريدة الوطن