*احاول من خلال هذا التقرير إلقاء الضوء على السودان في زمن الحرب، محاولا طرح بعض الأفكار لمرحلة ما بعد الحرب، اهمها أننا لو تمكنا من استعادة مواردنا الاقتصادية من يد العابثين بها محليين أو أجانب، واستثمارها على النحو الافضل فإنه سيكون بالإمكان إعادة بناء السودان من دون الاعتماد على الخارج. هذه الحرب توفر لنا فرصة لاستعادة ما تم منحه من اراضينا ومياهنا وثرواتنا الأخرى هبات للأجانب، أو تلك التي استولى عليها محليون بغير حق.

*

*نحتاج أن نغعل ذلك، وأن يكون كل قطاع التعدين في المرحلة الأولى من إعادة البناء تحت سيطرة الدولة، ولكن بإدارة نزيهة بعيدة عن الفساد. إدارة تدرك أهمية التفاني لانتشال الوطن من وهدته، من أجل أن يقف السودان مجدداّ على قدميه. هذه مرحلة تحتاج أن نعيد فيه بناء أنفسنا بأن نناى فيها جميعا عن حب الذات من أجل المصلحة العامة.*
في الطريق إلى حلفا عبر شريان الشمال الذي يتصل بمصر، يلاحظ المسافر كماّ هائلاّ من العجول النافقة على جانب الطريق. يؤكد ذلك ان استنزاف الثروة الحيوانية مازال مستمراّ، لم ولن يتوقف في أحلك الظروف.

ما ينفق من العجول التي يتم شرائها بأسعار بخسة، يتم التخلص منه بكل بساطة خلال الرحلة. هكذا يستمر استنزاف هذه الثروة، التي تعد أحد أهم موارد الاقتصاد السوداني. يقول أحد المواطنين ساخرا: كل شئ عال القيمة في السودان ينساب من الجنوب إلى الشمال بمنتهى اليسر (المياه، اللحوم، الذهب...الخ)، باستثناء الإنسان الساعي للانعتاق من براثن الحرب، حيث تقف القنصلية المصرية في حلفا سداّ منيعا أمام حركته.
مضى وقت طويل منذ ان كان هذا المورد يحقق للبلاد إيرادات بالعملة الصعبة تعزز قوة الاقتصاد. كانت مدابغ الجلود تنشط في الداخل وتستوعب اعداد ضخمة من العاملين في مختلف المجالات.

يعتقد سودانيون، أن هذه الثروة تسلب من بلادهم تحت نظر المسؤولين المتحالفين مع الخارج منذ سنوات طويلة. لا يمكن في ظروف الحرب هذه، تقدير قيمة العجول النافقة على الطريق لكثرتها، غير أنه من الواضح أن الثروة الحيوانية تستنزف وتهدر ، بلا وازع لتذهب نحو الشمال. كما يواجه القليل مما يتم تصديره عقبات عديدة. بذلك لم تعد الثروة الحيوانية تلعب ذلك الدور المأمول ضمن منظومة الاقتصاد السوداني.

كانت حكومة حمدوك تخطط لوقف تصدير اللحوم الحية نحو الاسواق الخارجية، ضمن استراتيجية تستهدف الإفادة من الجلود وكل ما يعزز القيمة المضافة للاقتصاد من خلال الثروة الحيوانية التي يقدر عددها بالملايين. لكن هذه الاستراتيجية واجهت حربا خفية انتهت بسقوط حكومته واغتيال اي فكرة تستهدف استغلال هذا المورد وغيره لإنعاش اقتصاد البلاد المتهالك.

نفس المناطق التي يشقها طريق شريان الشمال، تشهد نشاطا منقطع النظير على صعيد التعدين العشوائي لاستخراج الذهب، حيث تعج المنطقة الممتدة من كدرمة التاريخية وحتى حلفا بعدد هائل من المعدنين يقدر عددهم بما يزيد عن 10 الف معدن (لا يتوفر لدى الكاتب إحصائية دقيقة). يستنزف هؤلاء ومعهم شركات ضخمة واحدا من أهم قطاعات الاقتصاد، التي كان بالإمكان الرهان عليها لإحداث تحول رئيس في مستوى معيشة السودانيين.

وفقاً لإحصاءات هيئة المسح الجيولوجي الأميركية، يحتلّ السودان المركز الـ12 في الترتيب العالمي لإنتاج الذهب. لكن نسبة ضئيلة جداّ منه يدخل في خزينة الدولة. ووفقاّ ل «رويترز» فإن نسبة تهريب الذهب المنتج تصل إلى 80 في المئة.

يستمر عبث المعدنين بهذه الثروة القومية، لا يهمهم مقدر الخراب الذي يحدث، أو البيئة التي تتضرر من خلال الزئبق والسينايد. ليس الذهب وحده الذي يستخرج ويتم سرقته أو تهريبه، ولكن أيضا كمية من الآثار التاريخية. وفيما يبدو أن المنطقة النوبية غنية جدا بالآثار، لكن ضررا بالغا أصاب المنطقة أيضا على صعيد هذا الارث الحضاري والتاريخي.

يقول أحد المعدنين انه ومجموعته اكتشفوا مومياء تاريخية مرصعة بالزئبق والذهب خلال عملهم في احد المواقع، مشيرا إلى أنه يتم اكتشاف الكثير من هذه الآثار التي يتم تهريبها وبيعها مقابل ثمن بخس دون إدراك قيمتها الحقيقية.
الواقع أن كل ما يتم استخراجه من ذهب وآثار وغير ذلك خلال الحرب الدائرة اليوم، ومعظم ما كان يتم استخراجه قبل ذلك، يذهب بهدوء تحت نظر المسؤولين أيضا نحو الشمال.. وانطلاقا من ذلك يطلق أحد السودانيين على هذا الطريق «شريان مصر» .. ويمضي قائلا من هذه البلاد التي تقول المنظمات الدولية ان نصف شعبه مهددّ بالجوع تذهب اللحوم والماء والذهب ومعها آثار التاريخ عظيمة القيمة نحو الشقيقة مصر...

يبدو أن السودان وفي غفلة من اهله ظل منذ أمد بعيد في معترك حرب استنزاف طويلة من عدة جهات. وهذا هو ما يعزز الاعتقاد ان الحرب التي اندلعت في شهر أبريل الماضي ليس سوى حرب موارد، وصراع انتقل من موقع إلى موقع ومن السر إلى العلن، والهدف هو الاستحواذ على مقدرات السودان الاقتصادية.

الحرب الاقتصادية حسب المراقبين أخطر من حرب القنابل والطائرات لأنها لا ولن تتوقف حتى يستحيل السودان كله جثة هامدة.

يبقى السؤال: كيف يمكن إعادة البناء واعمار سودان ما بعد الحرب في ظل استمرار استنزاف موارد البلاد الاقتصادية؟؟

الخطوة الأولى لإعادة البناء ينبغي ان تبدأ بوقف هذا النزيف الاقتصادي واستعادة كل ممتلكات الدولة التي استحوذ عليها العسكر ورأس المال الأجنبي منذ سنوات. بإمكان السودانيين اذا فعلوا ذلك تجاوز كل التحديات التي تواجههم بكل سهولة ويسر، بأيديهم لا بيد غيرهم.

العاصمة قلب السودان النابض توقفت فيها كل سبل الحياة، وتم نهب الشركات الخاصة والعامة وممتلكات الأفراد القيمة من ذهب وسيارات ومقتنيات لا تقدر بثمن. ومع توقف ضخ المنتجات أصبحت الأسواق وبخاصة في الولاية الشمالية وولاية نهر النيل تستقبل منتجات متدنية الجودة مرتفعة الأسعار. حاليا معظم السودانيين حتى في الولايات الأخرى غير الخرطوم ودارفور وكردفان (المتضررة من الحرب)، فقدوا وظائفهم تقريبا وأصبحوا بلا عمل، ومع ذلك عليهم مواجهة الارتفاع المستمر في أسعار السلع والخدمات ان وجدت.

مع تزايد وطأة الحياة تضيق الدول المجاورة على السودانيين وتتشدد في استقبالهم عبر المعابر المختلفة. امام القنصلية المصرية في حلفا ما زال السودانيون يتكدسون، ويترقب البعض منهم منذ أكثر من ثلاثة أشهر الحصول على إذن الدخول. أسرة كبيرة حصل جميع أفرادها بعد طول انتظار على تأشيرة الدخول، لكن القنصلية رفضت السماح بالعبور لابنهم البالغ عمره 17 عاما. تتساءل والدة الفتى كيف يمكنهم ترك ابنهم وحيدا في ظل المجهول الذي ينتظر البلد بأكمله.

تتفاوت تقديرات الخسائر المالية على السودان جراء الحرب لدى خبراء الاقتصاد وفقا لما يتم أخذه في الاعتبار (او تجاهله) من عوامل عند حساب تلك الخسائر مثل التوقف عن العمل، ونهب الممتلكات، والخسائر المتعلقة بتوقف الإنتاج والتصدير وتدمير المؤسسات العامة على مستوى الدولة، فضلا عن الإنفاق العسكري الضخم من قبل الطرفين.
هذه الخسائر خلال الأشهر الثلاث الأولى تتراوح ما بين 45 مليار دولار حسب مصادر اقتصادية، فيما تتجاوز حسب البروفيسور عصام بوب حاجز ال 100 مليار، وهي في زيادة مع مرور كل يوم في الحرب.
الخطر الأكبر يأتي من فشل الموسم الزراعي، بانعكاسه المباشر على الأمن الغذائي للمواطنين. الى جانب خروج المزارعين من دائرة الإنتاج. وبسبب ذلك تتكرر نداءات المنظمات الدولية من مجاعة وشيكة قد تعصف بنصف سكان البلاد.
يبدو أن زمام المبادرة برغم كل الصعوبات ما زالت بيد السودانيين مهما تعاظمت خسائر الحرب، وذلك في حال ابداع آلية محكمة تديرها كفاءات وطنية نزيهة لوقف تسرب وتهريب الموارد الاقتصادية الوطنية من ذهب وثروة حيوانية وغيرها واخضاع بعضها لسيطرة الدولة. هذه الحرب يمكن تجاوز تحدياتها من خلال إعادة النظر في الاستثمار الأجنبي واستعادة ما تم تمليكه لغير السودانيين في زمن الفوضى الاقتصادية والسياسية. السودان لا يحتاج التسول من جيرانه ولا أشقائه، فقط عليه السيطرة الكاملة على موارده التي ستغطي خسائر الحرب واكثر. الدعم الوحيد المطلوب من الاخرين هو رفع ايديهم من أراضي ومياه السودان وثروته المعدنية والزراعية والحيوانية وما تحت الارض من نفط وغاز.

الأهم ان يعي السودانيون حقيقة ما جرى بعيدا عن الهتاف وتغبيش الوعي الوطني... والحل بلغة السودانيين في *«بل كل من ينهب ثروات البلاد*.

zico.omer@yahoo.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الثروة الحیوانیة إعادة البناء من خلال

إقرأ أيضاً:

«مؤتمر باريس».. نحو 20 دولة عربية وغربية تتعهّد المساعدة على إعادة بناء سوريا

بحث مؤتمر دولي عقد في باريس سبل تحقيق الانتقال السياسي في سوريا، وذلك بعد أكثر من شهرين على سقوط الرئيس السابق “بشار الأسد”، حيث تعهد المجتمع الدولي بتقديم الدعم لإعادة بناء هذه الدولة.

وخلال أعمال “مؤتمر باريس” بشأن سوريا، الذي اختتم مساء امس الخميس، تعهدت نحو 20 دولة عربية وغربية المساعدة على “إعادة بناء سوريا وحماية المرحلة الانتقالية بوجه التحديات الأمنية والتدخلات الخارجية”.

وفي بيان اتفقت على صياغته 20 دولة، بما في ذلك سوريا ومعظم الدول العربية والغربية، باستثناء الولايات المتحدة، حيث أكد المشاركون أنهم سيعملون على “ضمان نجاح الانتقال إلى ما بعد “الأسد” في إطار عملية يقودها السوريون وتخصهم جوهرها المبادئ الأساسية لقرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 2254″.

وأضاف البيان أن الدول الموقعة “ستقدم الدعم اللازم لضمان عدم قدرة الجماعات الإرهابية على خلق ملاذ آمن لها مجددا في الأراضي السورية”.

وقال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، إن “الهدف هو ضمان سيادة وأمن سوريا وتشكيل حكومة تمثل جميع أطياف الشعب”، وأضاف أن “القدرة على احترام جميع المجموعات في البلاد ستكون شرطا مسبقا للاستقرار والأمن في سوريا”، وأشار ماكرون إلى أن “تقديم المساعدات الإنسانية وإعادة البناء الاقتصادي يمثلان تحديا”.

وأكد الرئيس الفرنسي أن “بلاده ستمنح اللاجئين السوريين أذونا خاصة لزيارة بلادهم، كخطوة تشجيعية لمن يرغب بالعودة إلى سوريا، حيث أوضح قائلا: “سنمنح أذون عبور للاجئين السوريين للعودة إلى سوريا ثم الرجوع إلى فرنسا”، وفق ما نقلت وكالة “رويترز”.

وأضاف أن “الإدارة السورية الجديدة “تحمل أملا كبيراً للسوريين”، لافتا إلى أن فرنسا “ستقدم 50 مليون يورو لجهود الاستقرار في سوريا”.

وشدد الرئيس الفرنسي على “ضرورة احترام سيادة سوريا”، مستطردا: “لهذا ندعو إلى وقف إطلاق النار في كل الأراضي السورية، بما في ذلك الشمال والشمال الشرقي، وإلى إنهاء التدخل الأجنبي في الجنوب”.

وأشار  ماكرون إلى أن فرنسا “مستعدة لبذل المزيد من الجهود لمحاربة الجماعات الإرهابية في سوريا”، مشددا على أنه “لا ينبغي أن تشهد سوريا عودة جماعات تابعة لإيران”.

وشدد على أن “يتم دمج” قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) في الجيش السوري، معتبرا أن ذلك الدمج “سيساعد على مواجهة الإرهاب في المنطقة”.

ودعا وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو إلى “وقف إطلاق النار لإنهاء القتال المستمر في شمال وشمال شرق سوريا، حيث تتقاتل القوات الكردية والقوات المقربة من تركيا للسيطرة على مناطق استراتيجية”، محذرا من أن “القتال قد يؤدي إلى ظهور تنظيم “داعش” بشكل أقوى”.

وشدد بارو على أن “سوريا لا يمكن أن تصبح ملاذا للمنظمات الإرهابية مرة أخرى”، كما دعا إلى “إنهاء التدخلات الأجنبية”، بما في ذلك في جنوب البلاد، حيث تنشط القوات الإسرائيلية على الجانب السوري من المنطقة الأمنية بين البلدين ولبنان”.

وأوضح بارو أنه “يجب تهيئة الظروف للتسوية السلمية وتوحيد المجتمع وإعادة دمج سوريا إقليميا، مشددا على ضرورة إرسال المساعدات الإنسانية إلى البلاد على وجه السرعة”.

وفي حديثه إلى القادة الجدد في سوريا، أكد بارو على أنه من “المتوقع أن تتم عملية انتقالية نزيهة تراعي التعددية في سوريا، كما دعا إلى جدول زمني واضح للعملية الانتقالية”.

وكانت انطلقت يوم أمس الخميس، أعمال “مؤتمر باريس بشأن سوريا”، بمشاركة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، ومبعوثين من الدول الصناعية السبع، وهي بريطانيا وكندا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا واليابان والولايات المتحدة، ودول عربية وتركيا.

وفي إطار “مؤتمر باريس” بشأن سوريا، عقد وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، لقاءات ثنائية جمعته مع كل من وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي، ووزير الدولة القطري للشؤون الخارجية محمد بن عبد العزيز الخليفي، ووزيرة الخارجية الكندية ميلاني جولي، ونائب وزير الخارجية التركي نوح يلماز ومبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى سوريا غير بيدرسون، والتقى الشيباني كذلك بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ووزير الخارجية جان نويل بارو.

مقالات مشابهة

  • إنقسامي تجمع المهنيين السودانيين وتحالف تقدم، أو ما أشبه الليلة بالبارحة!
  • إعادة بناء جامع طوي اعتير بولاية مرباط
  • خبير: ترامب وضع إسرائيل في ورطة إعادة الحرب مرة أخرى
  • توكل كرمان خلال مؤتمر ميونخ للدفاع والأمن : التخلص من ميليشيات الجنجويد والميليشيات العابرة للحدود ضرورة عالمية
  • ما هي البيوت المتنقلة الكرفان التي تقدمها مصر لإعادة إعمار غزة| كيف بدأت؟
  • دعم السودان ضرورة عالمية أخلاقية وأمنية، من أجل سودان خالٍ من الميليشيات
  • الإمارات تخصص 200 مليون دولار مساعدات للسودان وتدعو لوقف الحرب خلال رمضان
  • السودان يحتاج السلام ولا يحتاج قاعدة أجنبية
  • «مؤتمر باريس».. نحو 20 دولة عربية وغربية تتعهّد المساعدة على إعادة بناء سوريا
  • جامعة حلوان تستقبل سفير السودان والمستشار الثقافي لبحث دعم الطلاب السودانيين