هل يدخل الفضاء الأردني مرحلة الصمت؟
تاريخ النشر: 5th, September 2023 GMT
#سواليف
هل يدخل #الفضاء_الأردني #مرحلة_الصمت؟
#لميس_أندوني
إذ يقترب #قانون_الجرائم_الإلكترونية المثير للجدل في #الأردن من دخول حيز التنفيذ في 12 سبتمبر/أيلول الجاري، يسود قلق في #الأجواء_الصحفية والسياسية والحقوقية الأردنية من أن يعيد البلاد إلى #أجواء_الأحكام_العرفية، بغطاء قانوني يفرض الصمت ويغلق مساحات التعبير في البلاد.
صحيح أن من واجب الدولة حماية المجتمع من خطاب العنصرية والطائفية والتمييز، ولكن يجب أن تكون هناك تعريفات دقيقة لمصطلحاتٍ أصبحت أداة قمع وأحكاما وقراراتٍ تعسّفية، بل وسلاحا لتصفية حسابات سياسية ومجتمعية، وحتى شخصية، بما يحمله ذلك من تداعياتٍ على المجتمع، ويهزّ الشعور بالأمان، ويقوّض قوة القضاء بوصفه ضامنا للعدالة والحقوق.
ما يعمق القلق أن التعديلات الجديدة على قانون الجرائم الإلكترونية لم تكن بمعزل عن سياسات وإجراءات سبقته؛ من إنهاء نقابة المعلمين، واعتقالات حراكيين ومعارضين، ومنع ترخيص حزب الشراكة والإنقاذ، وتهميش لدور النقابات المهنية، من خلال تدخّل رسمي لمنع فعاليات سياسية شعبية في مقرّها؛ مجمع النقابات المهنية، الذي لعب دورا أساسيا حتى في سنوات الأحكام العرفية في توفير مساحة للنشاط السياسي في الأردن. أي أننا نشهد إغلاق مساحات الاجتماعات “المغلقة” بعد إغلاق ساحات التجمّع (الفضاءات المفتوحة) ذات الرمزية السياسية والوطنية، مثل دوار جمال عبد الناصر، المشهور بدوار الداخلية (جبل الحسين) والدوار الرابع (جبل عمّان)، وقبلها حصر التظاهرات ضد سفارة الكيان الصهيوني (في ضاحية الرابية) بعيدا عن محيطها إلى محيط جامع الكالوتي، ولم يتبقّ إلا الفضاء الافتراضي للتعبير والتحرّك السياسي، وجاء القانون بصورته الجديدة لينقضّ عليه في حركة محيرة وغريبة.
يحقّ للناس أن تسأل عن أسباب التضييق على الحرّيات، فيما تتوسّع عمليات التطبيع الاقتصادي مع الأردن
إجراءات الدولة لخنق مساحات التعبير محيّرة وغريبة فعلا؛ فلا توجد هناك حركة واسعة ومنظمة ومناوئة للنظام تطالب بتغييره، بل على العكس؛ فالثورات المضادّة التي ذبحت الانتفاضات العربية، والتدخلات الأجنبية، عسكرية كانت أو سياسية أو اقتصادية، أضعفت إيمان الشعوب العربية بقدرتها على التعبير، فيما أصبح الاستقرار هدفا أساسيا، وحتى حلما، لكثيرين. وفي الأردن على وجه الخصوص، يدفع الخوف من فقدان الاستقرار ومواجهة مآلات مشابهة لما حدث في دول عربية مجاورة إلى الاعتكاف عن النشاط السياسي المعارض، خوفا من أي تقويضٍ للسلم الأهلي.
صحيحٌ أن أصواتا ظهرت في السنوات الأخيرة تتحدّى العائلة الملكية نفسها، ولكنها لم تترجَم إلى حشود جماهيرية تدعو إلى إسقاط النظام، ما يجعل المشهد وإصرار الدولة على كبح أي صوت ناقد، ولا نقول معارضا، مستغرَبا جدا، خصوصا وأن الدولة مصرة، فيما يبدو، على إظهار جدّية وصرامة في نيتها. وإلا، ما معنى أن يصدر حكم على الكاتب الساخر أحمد حسن الزعبي بالسجن عاما على خلفية تعليق على الإنترنت، ينتقد تصريحا مثيرا للجدل لوزير؟ المستغرب أيضا أن الدولة لم تر أي إشكالية في كلمات الوزير “الدم أرخص من البترول”، في أثناء إضراب سائقي الشاحنات العام الماضي، لكنها وجدت في لجوء الزعبي إلى التعبير الأدبي والرمزي الطابع في استنكار الظلم جريمة!
وما معنى توقيف الصحفي عبد المجيد المجالي لانتقاده محاضرا جامعيا لم يتعامل مع طالب بطريقة لائقة؟ السؤال الآخر: ما الحكمة من هذه الإجراءات، فالكتابة الناقدة الساخرة، كما يفترض، هي عمليا أيضا قناة عن الغضب الشعبي، فما الحكمة من قفل أمنية “التنفيس”؟ إذ تزيد هذه الخطوة من التأزيم المجتمعي والسياسي، فأين الحكماء من مسؤولي الدولة؟ بل وتزيد شكوك المواطن العادي في هدف الدولة السياسي في فرض مرحلةٍ من التعتيم. ومعلوم أنه في غياب معلومات كافية تنتشر الشائعات، حتى وإن لم يتم التعبير عن الشكوك تحت طائلة العقاب، لكن الشائعات والتكهنات تنتشر، فعهد الفضاء الإلكتروني جديد نسبيا، والناس لم تفقد القدرة على متابعة الأخبار ومحاولة استنباط مغزى ما يحدُث، أكانت استنتاجات صحيحة أم خاطئة، لكنها تزيد الشكوك ومن فقدان الثقة في الدولة ومؤسّساتها.
لم يتبقّ إلا الفضاء الافتراضي للتعبير والتحرّك السياسي، وجاء القانون بصورته الجديدة لينقضّ عليه في حركة محيرة وغريبة
تذهب الشكوك في الأردن دائما باتجاه تحضيرات لتسوية نهائية مع إسرائيل، لن تكون ضمن موازين القوى إلا تصفية للحقوق الفلسطينية على حساب فلسطين والأردن. لا نقول إن ذلك يحدُث. ولكن يحق للناس أن تسأل عن أسباب التضييق على الحريات، فيما تتوسّع عمليات التطبيع الاقتصادي مع الأردن، فكل هذه الاتفاقيات من استيراد الغاز (المسروق من الفلسطينيين) من إسرائيل، واتفاقية استيراد المياه المحلّاة من البحر الأبيض المتوسط مقابل الطاقة الشمسية من وادي عربة، إضافة إلى المشروع الجامع، مجمّع بوابة الأردن، الرابط بين كل مشاريع التطبيع الاقتصادي والطاقة بين تل أبيب والعالم العربي، تثير الشكوك وتدعو إلى التساؤل.
اللافت أن تشريع قانون الجرائم الإلكترونية تبعَه تمرير قانون الملكية العقارية المثير للجدل، خاصة بعد رفض مجلس النواب اقتراحا بالنصّ على منع بيع الأراضي والعقارات للإسرائيليين، فاستباحة أراضي الأردن وعقاراته أمام إسرائيل يُضعف موقف الأردن وسيادته في مواجهة حكومة إسرائيلية متطرّفة تريد إكمال المرحلة النهائية من بناء المشروع الصهيوني الاستيطاني في أسرع وقت، ولا تأبه بسيادة الأردن ولا مستقبله. فالعدو واضح، وأميركا تضغط على الأردن للدخول في الاتفاقيات الإبراهيمية التي تقبل ضمّ إسرائيل القدس، ولا تعترف بحقوق الشعب الفلسطيني الوطنية التاريخية المشروعة. لذا، وجب التساؤل: إذا لم يحتمِ الأردن بشعبه فمن يقف أمام الأطماع الإسرائيلية وخطرها على الأردن وشعبه وعلى النظام، فليس لإسرائيل صديق؟
وبدل أن تبدأ في الأردن مرحلة مكاشفة، نجد أن “مشروع التحديث” السياسي الذي يجري تطبيقه، والمفروض أن يوسّع المشاركة السياسية من خلال الأحزاب، يقزّم هذه الأحزاب، وحتى الموالية منها، ويلغي دور الصحافة ويُضعف الحياة السياسية، والمستفيد الوحيد هو إسرائيل لا غير.
المصدر: سواليف
كلمات دلالية: سواليف الأردن فی الأردن
إقرأ أيضاً:
الأمن الأردني بمواجهة التحديات.. قراءة في عملية تفكيك شبكات العنف الاخواني
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
لم تكن التفاصيل التي كشفت عنها الحكومة الأردنية مؤخرًا، بشأن إحباط سلسلة من المخططات التخريبية، مجرد أخبار أمنية عابرة. بل جاءت كجرس إنذار ثقيل يوقظ مخاوف دفينة عن عودة "الخلايا النائمة"، ويعيد طرح تساؤلات قديمة-جديدة حول حدود المشروع الإسلامي السياسي، وما إذا كانت تياراته –حتى تلك التي تدّعي السلمية– قد تخلّت فعلًا عن نزعتها الانقلابية.
البيانات الرسمية الأردنية، سواء من دائرة المخابرات العامة أو الناطق باسم الحكومة محمد المومني، كشفت عن خلية معقدة التركيب، متعددة القضايا، تمتد جذورها منذ 2021، وتورّط فيها 16 شخصًا على الأقل. أخطر ما كُشف هو العمل على تصنيع صواريخ قصيرة المدى (3-5 كم)، وتجهيز طائرات مسيّرة، وتجميع مواد شديدة الانفجار، وتجنيد أفراد لخوض تدريبات أمنية خارجية، بعضها جرى على الأراضي اللبنانية بدعم خارجي. ورغم نفي جماعة الإخوان المسلمين الأردنية –التي حُلّت قضائيًا في 2020– لأي صلة بهذه الأعمال، فإن الاعترافات والتقارير الأمنية تشير إلى انتماءات فكرية وتنظيمية واضحة لبعض المتهمين للجماعة أو "أُسرها" التنظيمية.
الخطر الأمني لا ينبت من فراغ
لا يمكن التعامل مع محاولة تسليح مجموعات غير نظامية داخل دولة مستقرة مثل الأردن بوصفها حوادث فردية أو مغامرات منفلتة. فهذه المحاولات، بطبيعتها وتوقيتها، تمثل تهديدًا مباشرًا للبنية الأمنية والسياسية في المملكة، وتهدد بتحويل المشهد الداخلي إلى حالة شبيهة بالسيناريو اللبناني، حيث تتعايش الدولة مع كيانات مسلّحة خارجة عن سلطتها. التوازن الحساس الذي يميز الداخل الأردني –والقائم على مركزية القرار الأمني والسياسي– لا يحتمل دخول لاعبين جدد يمتلكون السلاح، مهما كانت شعاراتهم.
الخطورة تكمن كذلك في نوعية المواد التي جرى ضبطها بحوزة الخلايا، والتي شملت مواد شديدة الانفجار مثل TNT وC4 وSemtex-H. هذه ليست أدوات بدائية يمكن الحصول عليها من السوق السوداء المحلية، بل تحتاج إلى خبرات فنية عالية وشبكات تهريب منظمة تتجاوز الحدود الأردنية. كما أن عمليات تصنيع الصواريخ والطائرات المسيّرة تدل على أن الهدف لم يكن مجرد تخزين للأسلحة، بل إقامة بنية تحتية مستقلة للتصنيع، وهذا مؤشر على مشروع عسكري مبيت وليس مجرد عمل تخريبي معزول.
شخصيات تنظيمية
ما يضاعف القلق هو ورود معلومات مؤكدة عن تلقي بعض العناصر تدريبات في لبنان، وقيامهم بزيارات للتواصل مع شخصيات تنظيمية هناك. هذا المعطى يفتح باب الشبهات حول وجود روابط لوجستية أو تنظيمية مع "حزب الله"، الذي يملك تاريخًا في دعم حركات مسلحة خارج الحدود، وهو ما يعزز المخاوف الأردنية من تسلل النفوذ الإيراني إلى الداخل عبر قنوات غير تقليدية. كما أن هذه التطورات تأتي بعد سلسلة من الحوادث التي أعلن الأردن فيها إحباط تهريب أسلحة ومخدرات عبر الحدود السورية، ما يرسم مشهدًا إقليميًا ملبدًا بالاختراقات الأمنية.
في ضوء هذه المعطيات، فإن الأردن لا يواجه فقط مجموعة مسلحة، بل يواجه مشروعًا عابرًا للحدود، يحمل أبعادًا أيديولوجية وتنظيمية، وربما طموحات تتجاوز الداخل الأردني. ومن هنا، فإن التعامل مع هذه القضية يجب أن يكون ليس فقط أمنيًا وقضائيًا، بل سياسيًا واستراتيجيًا، من خلال تحصين الجبهة الداخلية ومراقبة أذرع التأثير الإقليمي، وقطع الطريق على محاولات تحويل المملكة إلى ساحة مواجهة بالوكالة في صراعات لا ناقة لها فيها ولا جمل.
الإخوان المسلمون: المعضلة المستمرة
في كل مرة تقع فيها حادثة أمنية ترتبط بأشخاص لهم صلة بجماعة الإخوان المسلمين، تعود الجماعة إلى واجهة المشهد السياسي والأمني، مُعلنة تمسكها بـ"الخط الوطني" و"النهج السلمي"، ومتبرئة من أي علاقة بالعنف أو التخطيط له. لكن هذه المواقف المعلنة، على الرغم من تكرارها، لم تنجح في تبديد الشكوك العميقة التي تُراكمت عبر السنوات في الوعي الجمعي الأردني. فمنذ تفجيرات فنادق عمان عام 2005، مرورًا بقضية الكرك عام 2016، وصولًا إلى أحدث القضايا التي أعلنت عنها المخابرات العامة، لا تزال الجماعة محاطة بشبهات عدم القدرة –أو عدم الرغبة– في الفصل الحاسم بين الدعوي والسياسي من جهة، وبين العسكري والتنظيمي من جهة أخرى.
المرونة الأيديولوجية
إن ما يزيد الموقف تعقيدًا هو ما يصفه مراقبون بـ"المرونة الأيديولوجية" لدى الجماعة الأم، وهي مرونة تجعل من تنظيم الإخوان مظلة واسعة قادرة على احتواء مشاريع متطرفة ضمن خطاب "المقاومة" و"نصرة الأمة". في هذا السياق، يصبح التبرؤ من الأفعال العنيفة التي يرتكبها أفراد محسوبون على الجماعة أو نشأوا في بيئتها التنظيمية، غير كافٍ. فالسؤال المشروع هنا لا يتعلق فقط بمسؤولية الجماعة عن الأفعال، بل أيضًا بدورها في إنتاج الذهنية التي تحتمل التحول لاحقًا نحو التسلح والعنف.
ومن هذا المنطلق، فإن بيان الجماعة الأخير، الذي تحدث عن "أعمال فردية لا علاقة لها بالتنظيم"، لا يعفيها من المسؤولية البنيوية عن تغذية بعض هذه المسارات. فإذا لم تكن هذه العمليات قد صدرت بقرار مركزي، فهل تملك القيادة فعلًا السيطرة على الأطر التنظيمية الداخلية، كالأسر والدوائر التربوية؟ وإذا لم تكن تعلم بنشاطات بعض المجموعات، فهل كانت تُغض الطرف عن تجاوزاتها؟ هذه الأسئلة تمس صميم الإشكال الهيكلي المزمن في التنظيم، الذي يعاني من تباين دائم بين الخطاب العلني السياسي، والخطاب الداخلي العقائدي الذي قد يُفرز توجهات أكثر تشددًا.
معضلة قديمة جديدة
في نهاية المطاف، تتكرر مع الإخوان معضلة قديمة جديدة: خطاب مزدوج يُظهر في العلن التزامًا بالديمقراطية والسلم، لكنه يُبقي على بنية مغلقة وتنظيم هرمي قابل للاختراق والتطرف من الداخل. وهذا التناقض، الذي لم يُعالَج تاريخيًا، يُبقي الجماعة في منطقة رمادية، تارة متهمة بالضلوع في عمليات مسلحة، وتارة ضحية لـ"أعمال فردية"، لكنها في كل الأحوال، لا تستطيع إقناع الدولة والمجتمع بأنها قد طوت صفحة العنف تمامًا، أو أنها باتت جزءًا طبيعيًا من النسيج السياسي الوطني.
ولا يمكن فهم مسارات الإخوان في الأردن نحو العنف، دون العودة إلى السياق الأوسع الذي تمثله الجماعة الأم في مصر، والتي تشكّل المرجعية الأيديولوجية والتنظيمية لمعظم فروع الإخوان في المنطقة. فالتاريخ القريب شهد تصعيدًا واضحًا في خطاب الجماعة الأم بعد الإطاحة بحكمها في مصر عام 2013، حيث عاد الخطاب إلى نغمة "التمكين بالقوة" و"الشرعية المغتصبة"، مع رواج مفاهيم مثل "القصاص" و"الرد على الظلم" و"استرداد الحكم"، وهي مفاهيم وفّرت أرضية خصبة لميلاد تنظيمات أكثر تشددًا خرجت من عباءة الإخوان، مثل "حسم" و"لواء الثورة" في مصر، والتي تبنّت عمليات اغتيال وتفجير ضد رجال أمن وسياسة.
التجربة المصرية
هذه التجربة المصرية ألقت بظلالها على فروع الجماعة في المنطقة، ومنها الأردن، حيث لم تكن البيئة التنظيمية الإخوانية بمنأى عن التأثر. فالتواصل بين كوادر الفروع، والمشاركة في المؤتمرات والمنتديات التربوية المشتركة، والعلاقات العابرة للحدود بين القيادات، كلها عوامل ساهمت في نقل المزاج المتوتر والمشحون بعد 2013 إلى قواعد الجماعة في الخارج. ومع تزايد التضييق السياسي على التنظيم، وتآكل شعبيته المجتمعية، ظهرت بوادر انقسام داخلي بين من يرى ضرورة مراجعة فكرية، وبين من يتجه نحو التصلب العقائدي أو حتى تبني العنف بوصفه "خيار الضرورة"، وهو ما يفسر وجود خلايا منفلتة أو شبكات تنشط في الظل، تستند إلى خلفية تنظيمية إخوانية ولكنها تتجاوز الخطاب العلني للجماعة.
مشروع بلا بوصلة
تواجه الجماعات الإسلامية، لا سيما بعد صدمة ما بعد "الربيع العربي"، مأزقًا وجوديًا يتمثل في غياب المشروع السياسي الناضج والقابل للتطبيق ضمن أطر الدولة الوطنية الحديثة. فبعد أن فشلت بعض هذه الجماعات في اختبار الحكم أو عجزت عن التكيف مع آليات العمل الديمقراطي، وجدت نفسها أمام خيارين: إما التحلل والانكفاء، أو البحث عن بدائل أكثر صدامية. وفي كثير من الحالات، فضّل بعض المنتسبين اللجوء إلى خيار "التعبئة الصامتة"، التي قد لا تتجسد فورًا في العنف، لكنها تمهد له نفسيًا وتنظيميًا.
هذا السياق يجعل من التسلح –حتى وإن لم يُستخدم ميدانيًا– فعلًا سياسيًا رمزيًا، يُعبر عن الرفض والاحتجاج على الواقع القائم، ويُخزّن كأداة جاهزة "للرد" إذا ما سمحت الظروف. وفي الحالة الأردنية، يبدو أن بعض الموقوفين تورطوا في تأسيس بنية تحتية أولية لمشروع عنفي، رغم غياب الأهداف المباشرة أو المؤشرات الواضحة على نية تنفيذ هجوم قريب. هذه المراوحة بين الجاهزية والانكفاء تكشف عن أزمة بوصلة: فالفعل التحضيري قائم، لكن الوجهة غائبة.
تصور سياسيً أو عقائدي
اللافت في تفاصيل القضية أن المتهمين، رغم القدرات التنظيمية والتقنية الظاهرة في تصنيع الصواريخ والطائرات المسيّرة، لم يكونوا يملكون تصورًا سياسيًا أو عقائديًا ناضجًا يبرر هذا النشاط. لم تظهر في اعترافاتهم إشارات إلى أهداف استراتيجية، أو تصورات حول "اليوم التالي" لتفعيل هذا السلاح. الأمر بدا أقرب إلى تمرين في التمكين التنظيمي والبنية التحتية، وليس إلى عملية مدروسة بأبعاد سياسية أو أيديولوجية مكتملة.
هذه الحالة تفتح الباب أمام احتمال خطير: أن يكون المشروع الحقيقي لا يزال في طور الإعداد، أو أنه مرتهن لإشارة خارجية أو تغير إقليمي كبير. فغياب الأهداف لا يعني غياب النية، بل ربما يشير إلى انتظار الفرصة المناسبة. وهنا تكمن خطورة هذا النوع من "العنف المؤجل" الذي لا يندرج تحت إطار الإرهاب التقليدي، بل يتخفى وراء شبكة علاقات تنظيمية محلية وخارجية، بانتظار اللحظة التي يُعاد فيها تشغيله لخدمة مشروع أكبر، لا يتحكم به الفاعلون المحليون وحدهم.
دلالات العملية الأمنية الأخيرة في الأردن وأهميتها:
أولًا، تكشف العملية عن مستوى عالٍ من اليقظة الاستخبارية الأردنية، خاصة أن المتابعة بدأت منذ عام 2021، ما يدل على تراكم معلوماتي ورصد طويل الأمد لتحركات الخلايا ومخططاتها. هذا لا يعبّر فقط عن كفاءة تقنية، بل عن إدراك استراتيجي لخطورة "العمل البطيء تحت الأرض" الذي تتبناه بعض الجماعات، حيث لا يعتمدون على الهجوم المباشر بل على بناء البنية التحتية والتغلغل التدريجي. وهنا، تكمن أهمية التوقيت في كشف الشبكات قبل أن تنتقل من مرحلة التجهيز إلى التنفيذ.
ثانيًا، تفتح العملية الباب واسعًا أمام مراجعة العلاقة بين بعض الخطابات الإسلامية التقليدية، وبين تحولات بعض العناصر نحو العنف. فبينما تنفي القيادات المركزية –كما هو حال جماعة الإخوان المسلمين– أي صلة بالمخططات، إلا أن تكرار انخراط أفراد "متأثرين" أو "منتمين سابقًا" يطرح علامات استفهام حول فعالية الرقابة الداخلية للجماعة، ومدى قدرتها على احتواء أو عزل الأجنحة الأكثر تشددًا. وهو ما يعيد الجدل القديم الجديد حول التماهي أو التحول التدريجي من الفكر إلى الفعل العنفي.
ثالثًا، تشير هذه العملية إلى وجود بعد إقليمي في التهديدات التي يواجهها الأردن، خاصة مع ورود إشارات إلى تدريب في لبنان، ونقل أموال ومعدات عبر الحدود. هذه المعطيات تؤكد أن الأردن ليس فقط ساحة مستهدفة، بل هو أيضًا في قلب معادلات التنافس الإقليمي، خصوصًا بين قوى تصدّر خطاب "المقاومة" وتبحث عن موطئ قدم في الجوار. وبذلك، فإن أمنه الداخلي أصبح مرتبطًا بتوازنات معقدة تتجاوز حدوده الجغرافية.
وأخيرًا، فإن هذه القضية تضع الدولة الأردنية أمام تحدٍ مزدوج: أمني وتنظيمي. فهي مطالبة من جهة بتعزيز سيطرتها على الفضاء الداخلي وضبط أي مساحات رخوة يمكن أن تنشأ فيها مثل هذه الخلايا، ومن جهة أخرى بالانفتاح على نقاش وطني حول طبيعة بعض الجماعات الأيديولوجية التي ما تزال تنشط تحت شعارات سلمية لكنها تحوي في طياتها بذور التشدد. وهذا يتطلب استراتيجيات لا تكتفي بالمعالجة الأمنية، بل تتجه نحو تفكيك البُنى الثقافية والتنظيمية التي تسمح بمثل هذا التسلل الخطر.
خاتمة: درس أردني للمنطقة
في نهاية المطاف، يظل الأردن مثالًا حيًا على أهمية وجود منظومة استخباراتية قوية قادرة على متابعة التهديدات الأمنية قبل أن تتحول إلى عمليات مؤذية. إن النجاح في تفكيك هذه الشبكات قبل تنفيذ مخططاتها ليس فقط دليلاً على احترافية الأجهزة الأمنية، بل يعكس أيضًا أن الأردن يمتلك رؤية استشرافية للتحديات التي قد تطرأ في المستقبل. ومع ذلك، تبقى هذه العملية مجرد خطوة في مسار طويل يتطلب تكاملًا بين العمل الأمني والجهود السياسية والاجتماعية المستدامة. فالاكتفاء فقط بالتركيز على الجوانب الأمنية دون معالجة جذور التهديدات قد يؤدي إلى عودة هذا النوع من المخططات في شكل آخر، وقد يعزز من حالة الاستقطاب والتطرف.
المطلوب من الدولة الأردنية، وأيضًا من الدول المجاورة، أن تدرس بعناية الدلالات التي تحملها هذه القضية، لأن المخاطر التي تهدد الأمن الوطني لا تتعلق فقط بالأعمال العدائية المباشرة، بل بما يمكن أن يترسخ في المجتمع من شعور بالحرمان والاغتراب. إذا كانت هناك شبكة خارجية تمد الجماعات بالأموال والتدريبات، فإن هذا يشير إلى أن هناك خللاً ما في مناهج التنمية والتوجيه الداخلي. وهذا يتطلب، بشكل عاجل، مراجعة شاملة للسياسات الاقتصادية والاجتماعية التي تستهدف فئة الشباب، الذين قد يُستغلون بسهولة من قبل هذه الجماعات.
ورغم أن الجماعات الإسلامية قد ترفض الربط بينها وبين هذه القضايا، فإنها تتحمل مسؤولية كبيرة في فحص خطابها التنظيمي والمراجعة الجذرية لآليات عملها. يجب أن تكون هناك وقفة جادة من داخل هذه الجماعات لإعادة تقييم مواقفها من العنف والتسلح، لا سيما في ظل محاولات البعض لاستغلال الفراغات السياسية والاجتماعية لتحقيق أهداف قد تكون بعيدة عن المشروع السلمي. الخطوة الأولى في هذا الاتجاه تتطلب تطهير خطاب الجماعات من أي تبريرات للعنف أو التحريض على التطرف، والاعتراف بأن التغيير الفعلي لا يتحقق عبر العنف، بل عبر العمل السياسي الشرعي والناضج.
أخيرًا، إن ما تحتاجه المنطقة، وخاصة الأردن، هو نوع من النضج السياسي الذي يتجاوز الشعارات والتكتيك المؤقت. المشروع السياسي الذي يفتقر إلى شفافية المسؤولية والالتزام بالمواطنة المتساوية لا يمكنه أن يستمر في العيش على أطراف الأنظمة السياسية. كما أن ممارسة السياسة تحتاج إلى التزام جاد بالقيم الوطنية، والتي لا يمكن أن تتوافق مع أي استثمار في الجهل أو في الألعاب السياسية المزدوجة. ولذلك، فإن المراجعة الجادة من داخل هذه الجماعات تعد خطوة أساسية نحو بناء مشروع سياسي بديل قائم على المبادئ الوطنية والسلمية، والذي يراعي مصلحة المجتمع بأسره.