أثير – الشاعر والإعلامي العربي زاهي وهبي

لا تزال علاقتي بالكتاب الورقي هي الأكثر حميمية قياسًا بوسائط القراءة الحديثة.

تصالحت مع الكتابة بواسطة اللابتوب، ثم بواسطة الموبايل، أما قراءاتي “النتيّة” فلا تزال مقتصرة على المقالات والنصوص القصيرة. حتى الآن لا أستطيع قراءة كتاب ما لم يكن ورقيًا، سواء أكان رواية أو ديوان شعر أو من أي صنف آخر.

القراءة الورقية (إذا جاز هذ التعبير) متعة حقيقية، تختلط فيها الحواس وتتداخل، ويمتزج الواقع بالخيال.
يقال من شبَّ على شيء شابَ عليه، مذ كنت طفلاً صغيرًا لم أبلغ سنّ الوجد بعد، أذكرُني مفترِشًا الأرض لتناول الفطور أو الغداء أو العشاء. الوجبات الثلاث تبسطها أمي على مائدة “صفحاتٍ” نُزِعت من جرائدَ وصحفٍ قديمة. تصير الوجبة الواحدة وجبتين، الأولى متواضعة متقشفة كوجبات بسطاء الناس أنّى كانوا في رياح الأرض الأربع، والثانية دسمة شهية تكاد “سعراتها” تفوق الأولى من فرط غناها وتنوعها..وبرَكَتها.

الأولى عبارة عن لقيمات لبنة وجبنة وزعتر وزيتون وبطاطا وبرغل وعدس وسواها من قاموس المائدة الريفية المباركة. والوجبة الثانية كل ما تتضمّنه الأخبار والمقالات المكتوبة في صفحات فات عليها الزمن وألقى بها أرضًا لتكون مجرد بساطٍ لموائد البسطاء. أتناول لقمة وأقرأ سطرًا، هكذا دواليك حتى نقوم عن المائدة، ألتهمُ كلَّ ما تقع عليه عيناي سواء أكان سياسةً، أدبًا، فنًا، رياضةً، حتى صفحة الوفيات لم تكن تنجو منّي… ولعلنا لاحقًا في زمن الحرب صرنا نقرأ صفحة الوفيات كي نتأكد أن أسماءنا ليست مدرجة فيها وأننا لا نزال على قيد الحياة والقراءة!

ألتهمُ الأسطر والأحرف وأنسى تناولَ وجبة الطعام. لحظاتٌ ولا أمتع، حصّلت معها زادًا لا بأس به، خصوصًا حين رحتُ أستعيض عن الجرائد والمجلات بكتابٍ أضعه مفتوحًا إلى جانبي كلما هممت بتناول الطعام. وكم تناولت الفطور مع نجيب محفوظ والغداء مع فكتور هوغو والعشاء مع غادة السمّان، لأكتشف بعد حين أن تلك القراءات التي كانت بدافع التسلية وتزجية الوقت تحولت مع الأيام زادًا معرفيًا كلما غَرَفنا منه زادَ ولم ينقص.

وكم أسعفتني قراءات الطفولة واليفاعة في إثراء تجربتي المهنية خصوصًا حين تحوّلت من قارئ إلى كاتبٍ وصحافي ثم إلى محاوِرٍ تلفزيوني. إذ أن كثيرين من ضيوف برامجي من كبار الأدباء والشعراء كنتِ على اطلاع مسبق على مؤلفاتهم وتجاربهم الأمر الذي جعلني أحاورهم من موقع العارف. ودائمًا أردد.. القارئ الجيد يحصّن مهنته ويهذبّها أيًا كان مجال عمله. المحامي المثقف يجيد الدفاع بشكل أفضل من المحامي غير المثقف، النجّار المثقف يصنع قطعة خشبية أكثر جمالًا من النجّار غير المثقف، وهكذا مع سائر المهن.

العلاقة الحميمة مع الحبر والورق العائدة إلى زمن مضى وانقضى، قد لا يفقهها مَن لا ينتمي مثلي إلى جيل الحبر والورق. صعبٌ على مَن تفتّح وعيه على الشاشات واللمس والأجهزة الذكية أن يفهم سرّ الشغف الذي يحمله جيلنا وسابِقوه حيال الصفحات التي يعلَّق أثرُ حبرها على أطراف الأصابع. أجمل الكتب في مكتبتي اليوم هي تلك التي أكلنا عليها وشربنا. نعم، ليس الدهر مَن أكل عليها وشرب بل نحن (الدهر كما هو معلوم يزيدها قيمة وأهمية)، وأكاد أقول بالمعنى الحرفي لا المجازي، فكم من صفحات تلطخت ببقايا مناقيش الزعتر والزيت، وكم من صفحات أخرى تزركشت بخطوطٍ ورسومٍ  وخربشاتٍ من زمنِ الولدنة أو المراهقة، وكم من ورودٍ يبست أوراقها بين الصفحات عربونَ شوقٍ وتوقٍ إلى زميلة عرفنا معها معنى الحُبّ من طرف واحد بدون امتلاك الجرأة على مكاشفتها بما يعتمل بين الضلوع. يومها كان الخفر مُستَحبًّا، وعلاقات الجنسين تشبه أغنيات فيروز والأخوين الرحباني.

لِكلِّ كتابٍ حكاياتٌ تُضاف إلى أسطره ومضامينه، فتمنحه قيمةً مضافةً بأن تجعله شاهدًا على أحداث وأحوال عامة وخاصة، لا سيما متى تفحصنا الهوامش التي كنّا نلخص فيها ما نقرأ أو نسطّر انطباعاتنا عن هذه الفكرة أو تلك.

كبرنا، شابت الأيام وما شابت الأحلام، صار الكتاب المشفوع بتوقيع صاحبه يحظى بمكانة لا تتأتّى للكتب الأخرى. في جعبتي اليوم كتبٌ موقعة من سعيد عقل وعبد الوهاب البياتي ومحمود درويش وجوزيف حرب وأنسي الحاج وعبدالرحمن الأبنودي وأحمد فؤاد نجم وجمال الغيطاني وسواهم من مبدعين رحلوا تاركين كتبهم بمثابة مصابيح مضاءة في القلب والوجدان وفي الوعي والذاكرة، إلى جانب مئات التواقيع من مبدعين أحياء، كلماتهم بخطِّ أيديهم تجعل كتبَهم أكثر إمتاعًا ومؤانسة. فالعلاقة بالكتاب لا تتوقف بمجرد الانتهاء من قراءته. متى اقتنيناه؟ مَن أهدانا إياه؟ في أي مرحلة من مراحلنا العمرية قرأناه؟ أيُّ ذكرى خلّفها في النَّفْس والوجدان؟ وسواها من مسائل تقيم بيننا وبين كتبنا وشائج قربى لا تقوى الأيام على تقطيع أواصرها، حيث لكل كتاب صلة ما بأمرٍ ما حدث لنا أو عايشناه وكنا شهودًا عليه.

نعم للكتاب لغة. لغةٌ أخرى غير التي خطّها قلمُ مؤلِّفه، لونُ الورق يقول لنا ما يقول، حفيف الصفحات، ملمس الأوراق، رائحة الحبر… جميعها تؤلف أبجدية موازية تضاهي أحيانًا أبجدية الأحرف والكلمات، وتغدو أوركسترا تعزف لعاشقِ الكتب سمفونيةَ شغفٍ لا يضاهيه إلا الوقوع في الحُبّ.

أعرف، هي رؤية شاعرية بعض الشيء، لعلها رومانسية عاشق قديم، لعلها مجرد تحية إلى الكتب الورقية التي لا تشترط علينا توافر “واي فاي” ولا شاحن أو بطارية وكهرباء، تبقى معنا في السَّرَّاء والضَّرَّاء، في الحُبّ والهجران، في الابتسامة والدمعات، في الأفراح والأتراح.

حقًا؛ ما أشهى مائدة الكتاب، وما أشهى مذاق الحبر والورق، لا سمنة ولا وزن زائد إلا في حجم الوعي والمعرفة.

المصدر: صحيفة أثير

إقرأ أيضاً:

زاهي حواس: محدش يتصور إن لص يحاول يهرب 440 قطعة أثرية

اكد الدكتور زاهي حواس، عالم الآثار والمصريات، أن الشرطة ضيقت الخناق على لصوص الآثار في البر، وبالتالي اتجهوا إلى البحر، معلقا “محدش يتصور إن لص يحاول يهرب 440 قطعة أثرية كانت موجودة في قاع البحر بالإسكندرية”.

وقال زاهي حواس، خلال مداخلة هاتفية لبرنامج «مع خيري»، عبر فضائية «المحور»، إن البعثات الأجنبية، بما في ذلك الفرنسية والأمريكية، قامت باستخراج آثار ضخمة من البحر، خاصة في منطقة أبو قير والإسكندرية.

وتابع عالم الأثار والمصريات، أن نجاح الشرطة في القبض على أحد اللصوص سيزيد من اهتمامهم بحماية الآثار الغارقة في قاع البحر.

مقالات مشابهة

  • ” الوطني الاتحادي” يشارك في اجتماع اللجنة التنفيذية للاتحاد البرلماني العربي
  • زاهي حواس: محدش يتصور إن لص يحاول يهرب 440 قطعة أثرية
  • وزير مالية الدبيبة يشعل أزمة “الاتحاد العربي للمقاولات” مجددًا.. وعناصر مسلحة تقتحم مقر الشركة
  • الاحتلال يكشف عن فشله الدعائي والإعلامي خلال حربه على غزة
  • حذيفة عبد الله: سوف تسقط قريباً الدعاوي “الزائفة” التي تسوق خطاب حكومة المنفى
  • فيسبوك يجب فلسطين!
  • هيفاء وهبي تحبس الأنفاس بتصميم المحار – صور
  • بلاش تصدقوا | خيرى رمضان: نصابين بيعملوا صفحات باسمى ويطلبوا مساعدات
  • الزناتى: جمال سليمان علامة مضيئة فى الفن العربى ونموذج مشرف للفنان المثقف الواعى
  • الزناتي: جمال سليمان علامة مضيئة في الفن العربي ونموذجاً مشرفاً للفنان المثقف الواعي