حادثة الغواصة: خاتمة التفكير خارج الصندوق
تاريخ النشر: 5th, September 2023 GMT
* باعتبارات الفيزياء الخالصة، يبدو تهشّم الغواصة "تيتان" أواسط حزيران/ يونيو الفائت مأساةً مترعةً بالتقنيات العالية وحدثاً فخماً في تاريخ الكوارث الهندسية. وإذا تجاوز المرء ما يقتضيه الخشوع بحضرة الموت وآلام أهل الضحايا، فنحن أمام كنز تجريبي في خواص المواد الهندسية تحت الظروف القصوى ومستويات الضغط القاهرة.
ليس الحديث هنا عن فخامة الحدث وكنوز التجريب استهزاءً بالحادث وقتلاه، بل تقديراً لجلال اللحظة الفيزيائية؛ في فرادة المَركبة المشؤومة، ببنيتها ومادّتها، وفي ظرفها البيئي المريع حيث لقت حتفها. هذه أمور لا تجتمع إلا قليلا، ولأن الأمر كذلك، فالنهاية كانت فريدةً في كل شيء، والركاب الخمسة، بحسب أغلب التقديرات، ماتوا بأقل من غمضة عين وسُحقوا على نحو تحتاج معجماً صوفيّاً كي تصفه، فاللغة العادية تبدو قاصرة أمامه. والواقع أن أدق وصفٍ وجدته لنهاية هؤلاء الرجال كان تعريف الكاشاني في القرن الثامن الهجري لمصطلح "السَّحق" الصوفيّ، إذ يعّرفه قائلا: "ذهابُ تركيب العبد تحت القهر عند عظمة سلطان الحقيقة". مِن جملة زوايا وبأكثر مِن معنى، هذا ما حصل بالضبط، فهؤلاء لم يموتوا وحسب، وإنما ذَهَب تركيبهم.
* الأمر لا ينتهي هنا طبعا عند التقني والفني، أو عند خصائص المواد ومبادئ ميكانيكا الموائع التي تضافرت سوياً لتمحق الغواصة ومن فيها. هناك شيء أوسع عندما يُقرأ الحدث على مسافة أبعد وينكشف مثلث الموضوع: الطبيعة والعلم، والإنسان الحائر بينهما. هذا مثلثٌ معروف نَمَت كل علومنا الفيزيائية من داخله، لكنّ معرفة الشيء، والوعي بالشيء، أمران مختلفان جدا، وكثيرا ما نَغفل عن دور هذا المثلث في تشكيلنا -نحن البشر- وصناعة مصائرنا بل وحتى تشكيل الطبيعة التي حولنا.
هناك شيء أوسع عندما يُقرأ الحدث على مسافة أبعد وينكشف مثلث الموضوع: الطبيعة والعلم، والإنسان الحائر بينهما. هذا مثلثٌ معروف نَمَت كل علومنا الفيزيائية من داخله، لكنّ معرفة الشيء، والوعي بالشيء، أمران مختلفان جدا، وكثيرا ما نَغفل عن دور هذا المثلث في تشكيلنا -نحن البشر- وصناعة مصائرنا بل وحتى تشكيل الطبيعة التي حولنا
* يكفي أن يتأمل المرء باختراع العَتَلة وما فعلته هذه العصا المعقوفة في تاريخ البشرية، أو أن يسأل المرء نفسه عن مآلنا الممكن لو فاتَنا اختراعُ العجلة ولم يهتدِ الإنسان لعبقرية الدائرة في العمل الهندسي (وشرّها القاتل). ليس الأمر مقتصراً على الجانب الصناعي، أتساءل أحيانا كم يبقى من علوم الاجتماع والاقتصاد -كما نعرفها اليوم- لو أن فكرة الطوف على الماء -مثلا- لم تنكشف للإنسان، أو لو أن الطوفَ ذاته لم يكن ممكنا لاعتبار فيزيائي، ولم يُكتب للسفينة حينها أن تظهر. وفرَةُ الحديد، تركيبة النواة، تساوي الفعل برد الفعل، والموصلية الكهربائية.. يصعب أن تتخيل فكرة معاصرة واحدة -حتى لو كانت فلسفية أو فنية- ستبقى على حالها لولا واحدة من هذه الظواهر والسمات.
* هناك آفة بشرية في قلب ما جرى لهذه الغواصة وفي قصتها الحزينة: شغف الإنسان باستراق النظر.. أن يرى المرء رأيَ العين شيئا محجوبا ببطن البحر، ومحرّما باعتبارات الفيزياء وضغط الموائع، ودون أن يكون له أدنى حاجة معاشية في الأمر. لا تكاد ثقافة تخلو من قصة رمزية تحذر من خطر "النظر" أو التحديق، ويندر أن تكون العين في الخيال الشعبي مجرد أداة استشعار، فهي سلاح هجومي أيضا. نتحدث في ثقافتنا الشعبية عمّن أصابته العين وكأننا نتحدث عن رصاصة.
وعند الإغريق، كما عادتهم، يذهب الموضوع لحدوده القصوى مع شخصية أسطورية كل من ينظر إليها يستحيل صخرا (ميدوزا)، إلى أن يفاجئها أحدهم ويرفعَ مرآةً بوجهها فيقلب سحرَها عليها ويُحيلها صنما. وفي التراث المسيحي، تُنهَى زوجة لوط عن النظر لمدينتها المحترقة لكنها تخالف التوجيه الإلهي، وتسترق نظرةً أخيرة فتستحيل عاموداً من الملح. وفي التراث الأوروبي الوسيط قصة غوديفا، المرأة التي تطوف أزقة مدينتها عاريةً على حصانها، ويعفّ السكان عن النظر إليها ويغلّقون نوافذهم ويرخون الستائر، لكن واحداً منهم يغلبه الفضول فيشد خاصرة الستارة وينظر تجسسا، ثم لا يلبث أن تنطفئ عيناه ويلحق به العمى. لكن القصة الأهم بهذا السياق هي أسطورة نارسيسوس والتي اشتُقَّ منها لفظ النرجسية؛ الشاب الوسيم الذي نظر في انعكاسه على الماء، فسقط نهْبا لجماله ولم يعد قادرا على إدارة وجهه وظلّ يحدّق إلى أن هلك. ها نحن -مرة أخرى- مع من تقوده شهوة التحديق في الماء صوب نهاية مفعمة بالعبث، بفارق واحدٍ ربما: أن البطل هنا فائق الوسامة بدلا من أن يكون فائق الثراء.
شغف الإنسان باستراق النظر.. أن يرى المرء رأيَ العين شيئا محجوبا ببطن البحر، ومحرّما باعتبارات الفيزياء وضغط الموائع، ودون أن يكون له أدنى حاجة معاشية في الأمر. لا تكاد ثقافة تخلو من قصة رمزية تحذر من خطر "النظر" أو التحديق، ويندر أن تكون العين في الخيال الشعبي مجرد أداة استشعار، فهي سلاح هجومي أيضا. نتحدث في ثقافتنا الشعبية عمّن أصابته العين وكأننا نتحدث عن رصاصة
* عام 1986، لقي سبعة ركاب مصرعهم في انفجار المكوك الأمريكي تشالنجر. يبدو استحضار مكوك في سياق الحديث عن غواصةٍ مقارنةً ماجنة، فالظرف التقني معكوسٌ بالكامل بين الحالتين؛ الغواصة تعارك ضغطاً مريعا خارجَها وهي تدنو أسفل وسطٍ مائي يزداد كثافة مع كل شبر، والمكوك يصعد صوب محيط هوائي يزداد رقة وفراغا مع كل قفزة. لكن التعاكس هذا -تحديداً- هو ما يدفع للمقارنة ويفتح لها نافذةً دالّة. أنجَزت لجنة التحقيق الأمريكية في الحادث تقريرا مسهباً حول أسباب ما جرى، لكن سبب الأسباب كان متعلقاً بالتخلّي الخفيّ لإدارة المشروع عن محافظتها العلمية في سبيل إنجاز الهدف ضمن نافذةٍ زمنية خانقة. وفي عبارة أثيرة كتبها أحد معدّي التقرير وصارت اقتباسا شهيرا في كثير من دوائر الهندسة والفيزياء: "ليس بوسع أحدٍ أن يخدع الطبيعة"، تماما كمن يُخادعون الله في المصطلح القرآني، فهؤلاء لا يخدعون في النهاية إلا أنفسهم.
* كان تصميم الغواصة (الملقبة بالمارد) تصميما مميزا ومثالا مُشعّاً لمن يعشقون التفكير خارج الصندوق والتمرد على التقاليد الصناعية، فبدلا من الشكل الكروي الشائع، صُنعت المركبة على نحو أسطواني. هذا التحول بين الشكلين مترعٌ بالاعتبارات؛ أوّلُها أنه يواتي مَركبة يُراد لها أن تكون حافلة سياحية يجلس فيها الخَلق ويتفرجون من نافذة. طبيعة الجسد البشري وهيكلة الإنسان وجاذبية الأرض تفرض هذا، لكن النفع التجاري للأسطوانة يقابله إخلالٌ بالتناظر القدسيّ الذي تجده في الكرة والذي يظل قائما على كل المحاور. وعندما تُوضع حُجرة صلبة تحت ضغط رهيب، فالكروية مكسب هندسي مجيد لأن الضغط الذي يحصل من كل اتجاه يتضافر -ببركة التناظر- ليلغي بعضه بعضا وتحافظ الحجرةُ على تماسكها. هذا هو النمط الوحيد الممكن من "خداع الطبيعة" لأنه خداعٌ من داخلها ومن قلب قانونها، وليس مغافلةً متوهّمةً لها من خارجها.
مصرع هذه الغواصة مَنَحنا مثالا عنيفا عمّن قرر مغادرة الصندوق والتفكيرَ الشجاعَ مِن خارجِه ليدفع الثمن حينها، ويدفعه باهظا جدا. في أزمنةٍ تمجّد الفردية وتعادي القديم وتصوّر السابق لعنةً تستوجب التحرر، لا تعود قصةُ الغواصة.. قصةَ غواصة
* تحكي هذه الغواصة توترا قديما لا يبدو زوالُه ممكناً أبدا؛ ذاك التوتر الفكري بين التقليد والإبداع، والذي هو استمرار لتشنجٍ وجداني أقدم بين الحذر والإقدام. من يقرأ عن تاريخ الآلة والتقنية يعرف تماما هذا التوتر، ويدرك كم تدور الصناعات وسائر العلوم، في نجاحها وفشلها، حول هذين القطبين. أيهما أفضل: أن تطيح بالسابق وتجترئ على الجديد، أم تقف خاشعاً أمام القديم ولا تفارقه إلا بتحفظ وحذر شديدين؟ الأكيد الوحيد أنه ما من حلٍّ نهائيٍّ لهذه المعضلة، ومَن يخوض مغامرةً صناعية كبرى فعليه أن يشقّ سبيله غالباً بقلبٍ حائرٍ بين الطريقتين. كثير من الوزن الانفعالي والوجداني لدُنيا الآلات وتطويرها يأتي من أمور كهذه، والواقع أن الآلة مسألة مترعةٌ بالإنسانية على خلاف ما يظنّه أغلب الناس.
* رغم الغموض الذي يتّشح به هذا التوتر بين التقليد والإبداع، إلا أن مصرع هذه الغواصة مَنَحنا مثالا عنيفا عمّن قرر مغادرة الصندوق والتفكيرَ الشجاعَ مِن خارجِه ليدفع الثمن حينها، ويدفعه باهظا جدا. في أزمنةٍ تمجّد الفردية وتعادي القديم وتصوّر السابق لعنةً تستوجب التحرر، لا تعود قصةُ الغواصة.. قصةَ غواصة. هذه قُمرةٌ رمزية تحكي شيئاً مهماً عمن لا يحترم قديمَه، ويُعميه بريق الإبداع عن حكمة التقاليد، إلى أن ينتهي تحت سلطان الحقيقة، ويذهبَ تركيبُه.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الغواصة حوادث تكنولوجيا غواصة مقالات سياسة اقتصاد سياسة سياسة سياسة رياضة رياضة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
ابتكار طريقة لمنع تطور «قصر النظر» عند الأطفال
يلعب الضوء الطبيعي الساطع، دوراً حاسماً في التقليل من خطر الإصابة بقصر النظر، ومن المعروف أن العالم الخارجي يحتوي على تفاصيل بصرية أكثر تنوعا تحفز “البصر”، لذلك ينصح بالبقاء خارج المنزل لفترات طويلة.
وتشير صحيفة ” naukatv”إلى أنه، “في إحدى المدارس الصينية، تم تزيين الفصل الدراسي ليشبه غابة، وتمت تغطية الجدران والمقاعد برسومات للأشجار والشجيرات، ورُسِمَت السماء على السقف، بينما بقيت فصول دراسية أخرى بألوان تقليدية فاتحة”، وتم تعديل الإضاءة بحيث لا يكون هناك اختلاف”.
وأضافت، “قال طبيب العيون، يان فليتكروفت، من مستشفى “تمبل ستريت” للأطفال في دبلن:”نظرا لأن الجدران تعكس الضوء بشكل أقل عندما تكون مغطاة بصور الأشجار وما إلى ذلك، تم ضبط الإضاءة بحيث تكون مستويات الإضاءة على المقاعد متساوية في كلا الفصلين”.
وتابعت الصحيفة، “على مدار عام درس 250 طفلا تبلغ أعمارهم 9 سنوات في فصول من هذا النوع، بينما درس 250 طفلا آخرين في الفصول العادية، وقبل وبعد ذلك، خضعوا هؤلاء لفحص البصر، وتم تقييم حدة البصر بالديوبتر، مع عتبة مقبولة لبداية قصر النظر عند معدل 0.5”.
ووفق الصحيفة، “بعد عام، اقترب بصر الأطفال بعيدي النظر في الفصل الذي يحاكي الطبيعة من قصر النظر بمقدار 0.22 ديوبتر أقل من أولئك الذين درسوا في الفصل العادي، بينما ضعف بصر التلاميذ ذوي النظر الطبيعي الذي يعادل 1.0 بمقدار 0.18 ديوبتر أقل، مقارنة بمن درسوا في الفصول العادية”،
بدوره، وصف البروفيسور، بيلي هاموند، من جامعة جورجيا الأمريكية هذه النتائج “بأنها ذات أهمية إكلينيكية”، وقال: “إذا لم نتمكن من منع إصابة الأطفال بقصر النظر، فيمكننا على الأقل تقليل درجة حدته”، وأضاف أن الدراسة أكدت دور الترددات المكانية في تطور البصر لدى الأطفال”.
وأوضح البروفسور ذلك بأنه، “العين تنمو وفقا للمنبهات التي تتلقاها. فالبيئات ذات الإضاءة الاصطناعية التي تفتقر إلى الترددات المكانية العالية قد تؤدي إلى نمو محدود للبصر. بينما توفر الطبيعة نطاقا هائلا من الأنماط وتغيرات الألوان والمسافات والسطوع، مما يعزز حدة البصر”.