دمشق-سانا

يصور الإرث الموسيقي لسورية تاريخاً حياً وثقافات متنوعة تتجاوز الحدود والمسافات وتنسجم موسيقاها التراثية بالرغم من تعدد المنابع، هذا ما عكسته الأمسية الموسيقية الغنائية “ألحان من الشمال” التي احتضنها مسرح الدراما في دار الأسد للثقافة والفنون.

وعلى وقع أنغام الفرقة الموسيقية بقيادة المايسترو نزيه أسعد أحيت الأمسية التي أعدها وأشرف عليها الإعلامي إدريس مراد تمازج الألحان الأرمنية والسريانية مع الكردية والمردللية والشركسية والإيزيدية الكامنة على امتداد مساحات الشمال السوري مع إظهار بعض الآلات الموسيقية التي يتمركز معظمها في منطقة الجزيرة السورية وتكاد تندثر كآلة الساذ والطمبور والدودوك والآلات إيقاعية مثل الدهوك.

وبحس موسيقي عال أدت كل من ميرنا شمعون ولوسي قيومجيان أغنيات طغت فيها الهوية اللحنية لكل منطقة بإيقاعاتها المنفردة وتدفقت الجمل الموسيقية لتظهر قدرة الموسيقيين على استنطاق جمال تراثهم.

وقدم أكرم نازي صولو منفرد مع آلة الطمبور ألحاناً من تراث عفرين، فيما عزف آلان مراد ألحاناً من التراث الكردي على البزق بأداء صولو منفرد، أما ابن مدينة حلب بهجت سرور الذي عزف على آلة الساز فعبر عن اهتمامه الكبير بالتراث الموسيقي في منطقته، وتميزت آلة الدودوك بين يدي عازفها جوزيف آراميان حيث تم اختيار مجموعة من الأعمال الغنائية والآلية التي تشرح هوية كل شريحة من هذه الشرائح المهمة في المجتمع السوري.

وفي تصريح لـ سانا لفت المايسترو أسعد إلى أن الموسيقا تفرض نفسها على المستمع من خلال عزفها على الآلات الأصيلة مع مرافقة موسيقية بسيطة عن طريق الوتريات والبيانو، أما العمل الغنائي أو الآلي المعقد التركيب في هذا الحفل فالتعامل معه لديه خطوطه الهارمونية والتوزيعية والإيقاعية الأمر الذي ساهم بتنوع الفقرات الموسيقية المتتالية وكل فقرة لها دلالتها وأصلها التاريخي.

وقال الأسعد: كان للأغنية السريانية والآشورية حضور واضح في الحفل والموسيقا الأرمنية كذلك بآلاتها الخاصة كآلة (الدودوك) و(الزورنا)، إضافة إلى آلة البزق التي تعتبر وسيطاً للموسيقا الكردية، أما الموسيقا الغنائية والآلية فطرحت بطرق مختلفة من خلال الفرقة الموسيقية كبيرة القوام.

وأكد أسعد أن هذا النوع من العروض يتحمل مسؤولية طرح الثقافة السورية الغنائية والآلية المتنوعة والمنتمية للنسيج السوري بأسلوب معاصر واحترافي.

المصدر: الوكالة العربية السورية للأنباء

إقرأ أيضاً:

واسيني الأعرج: المثقفون السوريون وضعوا اللبنة التي فضحت المظالم الاجتماعية

الروائي الجزائري الدكتور واسيني الأعرج (مواليد 1954)، الذي أكمل تعليمه ما بعد الجامعي بالعاصمة السورية، يروي في حوار خاص للجزيرة نت، يومياته بدمشق، وأحوال المجتمع الدمشقي، ودور المثقفين السوريين في مقاومة الظلم والاضطهاد التي كانت السلطات السياسية السابقة تفرضه على جميع أطياف المجتمع السوري.

حصل الروائي الأعرج على الليسانس من كلية الآداب واللغات بجامعة وهران الجزائرية، كما حصل على الماجستير والدكتوراه من جامعة دمشق. يشغل منصب أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس، ويكتب باللغتين الفرنسية والعربية.

ومن أبرز رواياته: "وقائع من أوجاع رجل غامر صوب البحر" (1981)، وكتاب "الأمير" (2005)، و"طوق الياسمين" (2006)، و"حارسة الظلال" (2006)، و"الليلة السابعة بعد الألف" (2002)، و"البيت الأندلسي" (2010)، و"شرفات بحر الشمال" (2015)، و"رواية أنثى السراب" (2009)، و"عازفة البيكاديلي" (2022)، و"حيزيا" (2024)، و"ماروت وأنجيلا" (2025)، وترجمت أعماله إلى لغات عديدة منها الإيطالية والسويدية والإنجليزية والدنماركية والعبرية والإسبانية.

يؤكد الروائي في حديثه: "أنا أحببت دمشق من خلال كتابها وفنانيها وأدبائها، حتى قبل أن أزورها". ويضيف: "أنا قرأت كل المنتج الثقافي السوري، وأستطيع أن أقول كل المنتج المهم الذي أنتج في فترة الأعوام 15 من الحدث السوري.. كان أدبا عظيما -حقيقة- وشجاعا، وأصحابه دفعوا الثمن بالخروج من البلد والتشرد في المنافي".

إعلان

ويرى أن "المثقف دائما رهين التهديدات.. العنف المطبق عنف شنيع، مثل أن يتم تذويب جسد شخص معارض بواسطة حامض الأسيد".

وعن دور الأدب بعد نهاية الحروب يقول الروائي الأعرج: "أنا باعتقادي وبكل تواضع لا أنتظر من الأدب الآن أن يتحول إلى أدب سلام، نعم هو في طبيعته حالة سلام، لأنه هو حالة غير عسكرية، حالة ثقافية حضارية، تنتصر للأجمل، تنتصر للإنسان، هذه طبيعته وهدفه".

فإلى الحوار:

واسيني الأعرج: في البداية كانت علاقتي بالشام غريبة، ولكن عندما وصلت إلى دمشق وجدت الحياة والناس طيبين، وبلد فيه بسمة عربية، كنا نفتقدها في الجزائر (الجزيرة) دمشق مدينتي لنبدأ من دمشق حيث عشت فيها لسنوات طالبا للعلم، واستنشقت هواءها، ومن خلالها كان تعلقك بالمشرق العربي.. ماذا تقول عن دمشق المدينة وسكانها؟

مدينة دمشق تعني لي الكثير، وأنا أعدها مدينتي. تخيل شخصا يأتي من بلدان المغرب العربي، من الجزائر، علما بأنه كان هناك إمكانية الحصول على منحة جامعية إلى بلدان كثيرة من بينها إيران زمن الشاه محمد رضا بهلوي (1919-1980)، وفرنسا وبلجيكا وبريطانيا، ولكن أنا اخترت بلدا عربيا. ومن البلدان العربية كان الخيار بين سوريا ومصر والعراق، وأنا وقع خياري على دمشق.

تسألني لماذا؟ لا أعرف، ولكن مما قرأته، أنا أحببت دمشق من خلال كتابها وفنانيها وأدبائها، حتى قبل أن أزورها، بل حتى من خلال نشاطها الثقافي.

أنت تعرف أنني كنت أكتب القصة القصيرة، وقد نشرت ثلاث قصص في مجلة الموقف الأدبي الدمشقية، في ذلك الوقت، وعندما تنشر ككاتب في الموقف الأدبي، والمعرفة في سوريا وفي مجلة الأقلام البغدادية، ذلك يعني أنك أصبحت شخصية مهمة، خصوصا وأنا قادم من المغرب العربي. كان الأمر صعبا نوعا ما، لأن تلك المنطقة كانت تعد فرنكفونية أكثر منها عربية أو عروبية.

كان ذهابي نحو اللغة العربية اختيارا، فأنا سليل المدرسة الفرنسية، درست وتعلمت هناك وكبرت في أحضانها، لأن اللغة العربية كانت ممنوعة، ودرست اللغة العربية عن طريق الكتاتيب (المدرسة القرآنية) عن طريق جدتي، رحمة الله عليها.

هذه هي العلاقة أو الأسباب التي دفعتني للذهاب إلى البلد العظيم الذي سأتعلم فيه العربية، بلد الكاتب الكبير حنا مينه (1924-2018)، والقاص زكريا تامر، ومن الكتّاب الذين كنت أقرأ لهم في ذلك الوقت، المفكر السوري أنطوان مقدسي (1914-2005).

في البداية كانت علاقتي بالشام غريبة، ولكن عندما وصلت إلى دمشق وجدت الحياة والناس طيبين، وبلد فيه بسمة عربية، كنا نفتقدها في الجزائر. هنا أحس أنني في اللغة، في اليوميات، في العلاقة بين الناس، في المحبة.

إعلان

لذلك كان هذا البلد يعنيني، وكان عندي كما يقول الفرنسيون (Etrange luxure) شهوة غريبة لاكتشاف البلد. فخلال سنة عبرت سوريا طولا وعرضا، من الجنوب إلى الشمال، ومن الشرق إلى الغرب، وزرت تقريبا كل المدن السورية، وكنت سعيدا بتلك الرحلة، وكنت أرى التحولات داخل المدن، كيف تختلف عادات وطبائع الناس.

أعود للدراسة في جامعة دمشق، حيث كان يُنظر إلينا -نحن الطلبة الجزائريين- على أساس أننا فرنكفونيون، عربيتنا ضعيفة، ولكن بالنسبة لي دخلت الجامعة وأنا أحمل الليسانس في اللغة العربية من الجامعات الجزائرية.. مباشرةً انتسبت إلى الدراسات العليا في جامعة دمشق.

فكان هناك أساتذة عظماء، رحمة الله عليهم: الدكتور حسن الخطيب، وأستاذي الدكتور عبد الكريم الأشتر (1929-2011)، والدكتور إبراهيم كيلاني، أستاذ النقد باللغة الفرنسية، وكان كبيرا في السن، وكان يفرح كثيرا عندما نلتقي.

طالب قادم من الجزائر ويتكلم باللغة العربية بشكل جيد، كانت مفاجأة له.. قلت له: دكتور، أنا عندي ليسانس لغة عربية، تعلمت اللغة العربية في الجزائر، صحيح هناك هيمنة للغة الفرنسية، لكن الأمور تتغير، حيث كانت فترة التعريب قد بدأت، وأنا عندي رغبة في الذهاب نحو اللغة العربية.. هذا ما أجمله، نعم، ما أجمله.

بقيت في دمشق 10 سنوات، ولم تقع لي أي مشكلة، باستثناء مرة واحدة.. كنت خارجا من المسرح برفقة صديقة لي في حي الصالحية الشهير، وكان هناك أحد عناصر سرايا الدفاع التابعة لشقيق الرئيس السوري رفعت الأسد.. حاولَ التعرض لنا بسوء، ولكن عندما أخبرته بأننا من الجزائر، غيّر طريقة تعامله معنا.. يعني كان ذلك شيئا معيبا حقيقة، وتلك الحادثة أزعجتني جدا وقتها.

وصودف وجود رجل بجانب المسرح يبيع فولا، وكان الوقت ليلا، قال لي: يا ابني، تعال خذ صحن فول، لا تناقشه واتركه يمشي، هؤلاء ناس سيئون.. بقينا أنا وصديقتي بعض الوقت واستمتعنا، وفعلا انصرف بعد ذلك. ولم يرضَ الرجل أن يأخذ ثمن الفول رغم إلحاحي عليه، وقلت له: أنت أنقذتنا من شخص سيئ. ومن يومها، عندما أكون في الصالحية، أمرّ على ذلك الرجل الطيب.

إعلان

هذه الأمور الصغيرة تجعلك تحب المدينة، لأن المدينة ليست حيطانا، المدينة بشر تعيش معهم يوميا، بشر لك علاقات معهم، بشر يحبونك.

أولى الروايات في دمشق

دمشق التي أمضيت فيها 10 سنوات، ولم أرتو منها، عزمت على تمديد المنحة الدراسية سنة أخرى لأنني حصلت على الدكتوراه قبل المدة المقررة لها، وبقيت أزور سوريا من أجل رؤية دمشق، وشراء الكتب، ورؤية الأصدقاء من الكتاب والفنانين والمسرحيين، أعرفهم كلهم من كبيرهم إلى صغيرهم، حيث تكونت لدي شبكة من الأصدقاء، حتى جماعة الصحافة والأدب كلهم أصدقائي.

أصبحت ابن المدينة وليس خارجها، وأعرف كل أحيائها، وكنت قد سكنت بمنطقة الجسر الأبيض، وأبو رمانة، والسبع بحرات، وشارع بغداد، وسوق ساروجة، وابني البكر ولد في هذا المكان، وكنت أحب هذا المكان لأنه شعبي وأصيل.

لا أعرف ماذا حل بهذا المكان اليوم؟ لأنه في السنوات 15 الأخيرة كانت هناك حالات من الظلم والخوف تسيطر على سوريا، حيث لم أزر دمشق، رغم أني تلقيت دعوات كثيرة. في نهاية المطاف، أنت لا تستطيع أن تزور بلدًا أصدقاؤك فيه منفيون إلى الخارج، صعبٌ علي نفسيًا، رغم حبي الكبير لهذه المدينة الكبيرة والطيبة.

كيف لا أحب مدينة دمشق وقد نشرت فيها أول كتبي.. روايتي الأولى "وقائع من أوجاع رجل غامر صوب البحر" (1981) نشرتها وزارة الثقافة السورية، وهناك قصة حولها.. القصة استوحيتها من والدي في الغربة بفرنسا، والصراعات حول العمال، والعنصرية، وغير ذلك من الموضوعات.. كانت تلك لحظة حاسمة في عالم الكتابة بالنسبة لي، لحظة مهمة كثيرًا، يا لدمشق، يا للعالم الكلي.

لدمشق ثقل كبير في روحي، ليس فقط المدينة، وليس فقط البشر، وليس فقط الثقافة، وليس فقط الأحياء، وليس فقط التعلم أيضًا. ذهبت إلى دمشق وأنا أحمل ليسانس، ورجعت إلى بلدي الجزائر ومعي دكتوراه دولة. هذا كله مجتمع يجعلني أحب هذه المدينة، بل أعبدها، وكان قلبي يعتصر من الألم لأن آخر مرة زرتها فيها كانت قبل الأحداث بسنتين.

إعلان

وأولادي باسم وريما ولدوا في دمشق، وكان الكاتب والروائي الطاهر وطار (1936-2010) يعلّق على ذلك بقوله: واسيني الأعرج ذهب إلى دمشق، ورجع إلى الجزائر ومعه الماجستير والدكتوراه وابنان. إذن، الرابط بيني وبين دمشق عضوي أيضا.

أثناء الأحداث المؤسفة التي ضربت دمشق وسوريا عمومًا، كان عندي رغبة في زيارة سوريا، ولكن بالمقابل أصدقائي يُقتلون ويُنفون من بلدهم.. من الصعب أن تزور البلد في تلك الظروف.

الآن فعلا أفكر في زيارة دمشق قريبا، وستكون هناك فرصة لهذه الزيارة، وأستمتع بها.

رواية واسيني الأعرج الأولى "وقائع من أوجاع رجل غامر صوب البحر" صدرت عام 1981، ونشرتها وزارة الثقافة السورية (الجزيرة) المثقف السوري مثقف شجاع ما دور الأدب في فترات ما بعد الحروب؟ أين يقف الأدب؟ وبرأيكم إلى أين يتجه الأدب السوري، وماذا يناقش؟ وعلى ماذا يركز؟ هل يركز على الماضي أم على المستقبل؟

خلال إقامتي بسوريا كان الجو الثقافي مريحا لي، إذ في أغلب العواصم العربية إذا أردتَ العيش بها عليك أن تفصل بين السياسي والثقافي. وسوريا كانت مرجعا ثقافيا عظيما، بمجلاتها، بمثقفيها، بمنتجيها الثقافيين، سواء في مجال السينما أو المسرح.

سعد الله ونوس (1941-1997) قيمة ثقافية وحضارية، والمسرحي فرحان بلبل (1937-2025)، الذي توفي في الفترة الأخيرة، قيمة مسرحية كبيرة، وعندك سينمائيون وكتاب مثل حنا مينه (1924-2018) وآخرون، هؤلاء أيضا قيمة أدبية وثقافية، هؤلاء لهم وزن ثقيل بالقياس للمعطى السياسي.

بالعكس، أنا وجدت في مدينة دمشق كل ما يريحني من الناحية الثقافية، كما وجدت جرأة لكثير من المثقفين السوريين. كنت أحيانا أستغرب حدوث بعض الحالات لبعض المثقفين، فمثلا كانت تربطني صداقة مع الكاتب ميشيل كيلو (1940-2021)، ففي إحدى المرات سهرنا معا، وبعد يومين تعتقله السلطات الأمنية في سوريا.. طبعا سُجن بسبب أفكاره، فالرجل لم يسرق ولم ينهب.

إعلان

أنا كنت أستغرب من شيء: كيف كان معتقلا وكتبُه تُطبع في وزارة الثقافة؟ كان يبدو لي الأمر فيه شيء من التناقض. في الحقيقة، كان أيضا هناك مناضلون داخل وزارة الثقافة، كان هناك مثقفون أقوياء. نعم، أنتم سجنتم ميشيل كيلو، ولكن هو كاتب كبير وعظيم ومحلل سياسي كبير.

طبعا كنت أسمع ببعض الأحداث التي وقعت لزملائنا من السجن والاغتيالات، ولكن رغم أهمية ذلك وقسوته، فإن سوريا كانت مجالا ثقافيا شديد الاتساع.

ويجب أيضا أن أؤكد -لأن الناس ينسون بطبيعتهم- أن سوريا استوعبت كل مثقفي العرب، رغم ما يمكن أن يقال سياسيا، ولكن هناك طبيعة أقوى من السياسيين. كانت هناك أحيانا قسوة من قبل السلطة الحاكمة، ولكن بالنسبة للمجال الثقافي، وأنا أقول ما أؤمن به، كانت المساحة الثقافية كبيرة.

وإلا ما رأينا حنا مينه، وزكريا تامر.. زكريا تامر كل نصوصه كانت نقدا، كتبَ مقدمة لأحد أعداد مجلة "المعرفة" أثناء الصراع بين السلطة في سوريا والإخوان المسلمين في ثمانينيات القرن الماضي، وتمت مصادرة العدد من قبل السلطات، حيث عُدّ ذلك استفزازا للسلطة.

هذه الأمور الصغيرة أعُدّها أشكالا من المقاومة للظلم الذي كان يعاني منه الإخوة السوريون في مجال الرقابة على الكلمة. إذن، كانت الرقابة هي الضربة القاصمة، ولا أستثني سوريا، هناك رقابة عربية على الكلمة.
وأيضا كانت بعض الكتب المطبوعة في بيروت ممنوعة في دمشق، وأنا شخصيا كنت أحصل على الكتب الممنوعة في دمشق من مكتبة نوبل. قصدي، مهما حاولت السلطات أن تردع وتضطهد، فإن الأدب يخرج، الأدب له قوة غريبة.

وأيضا المثقف السوري مثقف شجاع، صراحة. طبعا المثقفون التبعيون لا أتكلم عنهم، وهؤلاء لا يُعدّون مثقفين. أما الأسماء الكبيرة التي ما تزال مستمرة حتى اليوم، وحتى الذين توفي منهم قبل فترة، يظل هؤلاء على وفائهم، وعلى أعمالهم، وأعتقد أنهم كانوا اللبنة والأرضية الأساسية، فقد فضحوا المظالم الاجتماعية.

إعلان روايات ظهرت في عز القهر

أعتقد أن الأدب العربي عموما، لو نتأمله، سنكتشف أن هذا الأدب كان له دور في حياة الناس وفي مشاكلهم، وكان للمظالم الاجتماعية دور، ولهذا ما ظهر من روايات في التسعينيات، أعتقد أن هذه الروايات ظهرت في عز القهر، صورت ما يجب أن يصور، وفعلت ما يجب أن يفعل، وكانت نصوصا عظيمة.

طبعا أنا قرأت كل المنتج، وأستطيع أن أقول كل المنتج المهم الذي أنتج خلال السنوات 15 من الحدث السوري، كان أدبا عظيما حقيقة وشجاعا، وأصحابه دفعوا الثمن بالخروج من البلد والتشرد في المنافي.

أما المثقفون الذين لم يغادروا البلد، فأنا في الحقيقة هناك مسألة لم أتقبلها من الإخوة السوريين، بأن كل شخص يبقى في البلد فهو عميل. لا.. لا.. لا، هذا حدث معنا في الجزائر أيضا، بالعكس، هذا حدث مع الفلسطينيين.. تخيل الذي بقي في فلسطين يسمونهم عرب إسرائيل! لماذا عرب إسرائيل؟ لماذا لا يسمونهم عرب فلسطين؟!

أنا زرت بعض المدن الفلسطينية: حيفا، والناصرة، عندما كنت أشتغل على رواية "مي ليالي إيزيس كوبيا"، عن الكاتبة مي زيادة (1886-1941)، الفلسطينيون من أكثر الشعوب ارتباطا بأرضهم. لماذا تمنع زيارتهم؟ ولماذا تقول عنهم عرب إسرائيل؟ كان يُمكن تغيير المفهوم إلى "عرب الداخل"، هذا معقول.

وكأن كل من يبقى يقاوم في بلده، لديه وسيلة أخرى، هذه الوسيلة الوحيدة التي يمتلكها. ربما لم تتوفر لديه وسائل المغادرة، وربما لديه ارتباط بشكل جذري بالأرض، لا يستطيع مغادرة البلد. فأنت لا تستطيع أن تلومه.

أنا عندي أصدقاء لم يغادروا سوريا، هل أخوّنهم؟ هؤلاء لم يغادروا سوريا، لاحظ ماذا كتبوا أيضا. فمثلا، عندما أقرأ للكاتب خليل صويلح وغيره.. فهل أقول هؤلاء تابعون للنظام؟ هم صوّروا ما حدث في مجتمعهم بقوة، وجرأة، وشجاعة، وبالتالي الحكم على هؤلاء عيب بهذه الطريقة.

ولكن يجب التريث، ويجب أن نقرأ هذا الأدب في أفقه الإنساني، وأن نخرج من الدوائر الإقصائية السهلة. واليوم، قراءاتي كلها تقريبا روائية ونقدية، وأشعر أن الأدب السوري أدب عظيم، وأدب أسس، بطريقة أو بأخرى، بكل التحولات التي حدثت في المجتمع السوري. هذه رؤيتي بالنسبة لهذا الموضوع.

الأدب يقاس بقيمته وليس بحركة صاحبه، يمكن أن تبقى داخل البلد وتنتج نصا عظيما، ويمكن أن تكون خارج البلد وتنتج نصا تافها (شترستوك) الأدب السوري.. طاقة نقدية وقوة فنية هل من مقارنة بين الأدب الجزائري في فترة ما بعد الاستقلال في الجزائر (1991-2002)، وبين الأدب السوري اليوم، برأيكم ماذا يجب أن ينتج عن هذا الأدب؟ إعلان

طبعا الظاهرة موجودة في العالم، فمثلا في أدب الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، هناك عدد من الروايات العظيمة الإنسانية التي تناولت وضعا معينا واشتغلت عليه، مثل رواية "الأم" (1906) للكاتب الروسي مكسيم غوركي (1868-1936)، التي تناولت الثورة، أو الحركة التي قامت في روسيا القيصرية، وهي حركة احتجاجية ضد القيصر الروسي، وضد المظالم الاجتماعية.

إذن الأدب دائما على تماس مع الأوضاع العامة، يعني غير منعزل عنها، ولكن لا بد أن يظل أدبا ولا يتحول إلى تقرير سياسي أو عسكري. إن الأدب عندما يخسر وظيفته الأدبية ويذهب نحو سياقات أخرى يكون فاشلا، لأنه لا يستطيع أن يكون سياسيا، ولا يستطيع أن يكون عسكريا أو أيديولوجيا، لأنه في نهاية المطاف تذهب قيمته، لأن قيمته جمالية وفنية بالأساس.

ولهذا الإلحاح كان دائما على هذا الأدب الذي يحتفظ بهذه القيم بالدرجة الأولى، لأنها هي التي تشكل هويته.

نفس الأمر وقع مع الحركة الوطنية في الجزائر، هناك كتّاب عظام، فهناك الروائي الجزائري محمد ديب (1920-2003)، الذي كتب ثلاثية "النول، الحريق، الدار الكبيرة" التي ترجمها الراحل سامي الدروبي، كان ذلك نصا عظيما، وهذا النص العظيم لم يكن أيديولوجيا ولا تقريرا سياسيا، تحدث عن الجزائر في مدينة تلمسان في فترة ما بين الحربين، من خلال شخصية صغيرة وهي شخصية الشاب الصغير عمر، وكيف ينشأ الوعي السياسي، وهذا الوعي السياسي هو الذي سيصنع أقدار الغد.

لأننا عندما نصل إلى الجزء الثالث، الذي هو "الحريق"، ينشأ هذا الحريق الكبير، ونرى أن الشخصية التي كانت بسيطة تعمل في مصنع للنسيج، أصبحت شخصية نضالية لأنها تعاملت مع شخصيات كبيرة. هذا هو الأدب البطل، هو ليس أدبا أيديولوجيا، وليس أدب الخطابات السياسية المتراصة، ولكنه الأدب الذي ينشئ خطابا فنيا، لكن داخل الخطاب الفني طبعا تنشأ قضية ما.

إعلان

أدب ما بعد الاستقلال في الجزائر كان أدبا ناقدا للأوضاع العامة، انتقد مثلا فترة ما بعد الاستقلال الوطني (1962)، كيف أن المسارات التي كان يجب أن تسير في مسار، اتجهت في مسارات أخرى، فكان الكتاب لديهم وجهة نظر تجاه ذلك، وهذا الأدب أعطى وجهة نظره التي أثبتت التحولات السياسية اللاحقة أنه كان على حق تماما.

والأدب السوري أعتقد أنه لا يخرج عن هذه الدائرة، طبعا أنا لا أتكلم عن الأدب الذي له طابع حربي، فمثلا في رواية "المرصد" (1997)، لحنا مينه، وأعتقد أنها من أسوأ رواياته، رغم أن جانبها الوطني مميز ضد إسرائيل، لكن لا يوجد بناء حقيقي فني في الرواية، على عكس رواياته الأخرى مثل "الياطر" (1972)، و"الشمس في يوم غائم" (1973).

روائي آخر روائي عظيم، تحدث عن مأساة الشعب السوري في فترة الحرب العالمية الثانية، ولكن من أفق فني وأدبي راق جدا. إذن هذا الذي يبقى، البقية كلها تزول، لا تقاوم الزمن.

الأدب يقاس بقيمته وليس بحركة صاحبه

بالنسبة للجيل الموجود الآن، وخصوصا في السنوات 15 الأخيرة تحديدا، أنا كنت أقرأ وأتابع الروايات السورية، حيث وجدت أن الطاقة النقدية، والقوة الفنية لتلك الروايات شيء كبير.
قرأت "القوقعة" (2008) للروائي مصطفى خليفة، حتى قبل انطلاق الثورة السورية، في الحقيقة أرعبتني تلك الرواية داخليا، ولكن هذا الذي كان يقع، لأن التاريخ فيما بعد أثبت أن ذلك موجود بالفعل، والكاتب كان أيضا ضحية لهذه الأوضاع، فهذا النوع من الأدب الذي يرسم تحولات المجتمع السوري يستحق أن يصبح أيقونة ويتحول إلى مرجع بالنسبة للقراء والكتاب.

وأعتقد أن سوريا سارت في ذلك، ومن أراد الاطلاع على الواقع السوري في السنوات 20 الأخيرة، يرجع إلى النصوص الأدبية، سيكتشف أولا القدرات الجمالية المتوفرة في هذه الأجيال الجديدة، وأيضا الطاقة الخلاقة الإيجابية الموجودة عند هذا الجيل، فرغم العذاب والمعاناة، استطاع هذا الجيل أن يثبت نفسه سواء من الداخل أو من الخارج.

إعلان

في سوريا يجب أن تنظر إلى هذه المسألة بشكل دقيق، هناك أدبان، أدب الداخل وهو الذي نشأ داخل سوريا، وعبر عنها من خلال بعض الكتاب، وعبر عنها بصدق، لأنه يعيش اليوميات في الشارع، يشاهد التفجيرات، الخوف ليلا.. طبعا تلك الوقائع من قبل كل الأطراف، السلطة وغيرها.

إذن الذين هم في الداخل يشعرون بذلك، وبالتالي الذي يكتب في الداخل يكون له شعور بأنه تجرأ أن يكتب متجاوزا المخاطر المحيطة به، وطبعا زملاؤنا الكتاب السوريون الذين غادروا البلد لظرف ما، بسبب خوف ما، إرهاب ما، خرجوا من البلد وكتبوا أيضا.

فالأدب يقاس بقيمته وليس بحركة صاحبه، يمكن أن تبقى داخل البلد وتنتج نصا عظيما، ويمكن أن تكون خارج البلد وتنتج نصا تافها، والعكس صحيح، يمكن أن تكون داخل البلد وتشاهد الأحداث ولكن لا تستطيع أن تعبر عن شيء عظيم، وممكن أن تكون خارج البلد ولكن كمتابع في اليوميات، في الحياة، من خلال الاتصال بالأهل والأصدقاء، من خلال التواصل مع الحركة السياسية السورية التي نشأت خارج البلد وداخله، هذا كله يمكن أن يعطيك فرصة لتكتب نصا عظيما.

إذن المسائل لا تقاس بالخارج أو الداخل، ولكن تقاس بقيمة النصوص التي أنتجت. ولكن ترى هناك أحكاما جاهزة، وهذا يدل على قلة الوعي صراحة عندما تحكم على الناس في الداخل: لماذا لم تغادروا البلد؟ وأنتم عملاء للنظام!

يا أخي لم نتعامل مع النظام، الذي بقي في الداخل بقي في وطنه، لم يبق في بلد أجنبي، ولكن الذي غادر البلد أنا لا أتهمه بالخيانة، فهذا الذي غادر له أسبابه التي دفعته إلى المغادرة، الخوف أو غيره.. في نهاية المطاف، المقياس ليس الداخل أو الخارج، ولكن المقياس هو القيمة الأدبية للمنتج الروائي.

كتاب للمجاهد الجزائري بشير حاج علي، يتحدث فيه عن فترة السجن وألوان العذاب التي ذاقها خلال تلك الفترة، وقد توفي وهو فاقد للذاكرة بعد الاستقلال (الجزيرة) ذاكرة العنف.. المثقف رهين التهديدات كيف سيتعامل الروائي مع ذاكرة العنف التي حصلت بسوريا على مدى 14 عاما؟ إعلان

إن مجتمعاتنا العربية للأسف مؤسسة على العنف رغم الاستقلالات الوطنية التي منحت لبعض البلدان فرصة لأن تنشئ بلدا عظيما وراقيا وديمقراطيا، للأسف هذا لم يحدث في أي بلد عربي، مهما كانت الفوارق بين هذه البلدان، فالمثقف دائما رهين التهديدات. العنف المطبق عنف شنيع، مثل أن يتم تذويب جسد شخص معارض بواسطة حامض الأسيد، تخيل أن يوضع شخص في حمام من الأسيد وتتم إذابته! لا، لا!

هناك كتاب للمجاهد الجزائري بشير حاج علي (1920-1991)، الذي يتحدث فيه عندما سُجن وكيف استخدموا ضده الخوذة الألمانية حيث يتم ضرب المطرقة بالرأس وتعطي صدى في الآذان حتى سال الدم من الأذنين، وقد توفي وهو فاقد ذاكرته بعد الاستقلال. هذا كله حدث عام 1965، بعد الانقلاب على الرئيس الجزائري الأسبق أحمد بن بلة (1916-2012)، حيث أخذه قائد الانقلاب هواري بومدين (1932-1978) وسجنه وطبقت عليه هذه الأحكام بهذا الشكل من التعذيب.

إذن، غير الأشياء الأخرى، أعطيك مثلا في تجربتنا الوطنية الجزائرية، هناك أعمر رمضاني (1935-1960) وهو واحد من القادة الثوريين الجزائريين قيل عنه إنه استشهد وأبلى بلاء حسنا، حيث كانت هناك سردية كاملة ركبت بشأنه، وأنه كان مسافرا مع فيلق جيش إلى تونس، وفي الطريق حصل صدام مع الجيش الفرنسي "المحتل" الذي كان يراقبهم، وهو قال لأصدقائه: اذهبوا أنتم، وبقي هو يقاوم الفرنسيين ويوهمهم بأن هناك مجموعة تحارب معه، لغاية استشهاده، هنا طبق الإيثار، حلو، هذا يجسد أخلاقية القائد العسكري.

على العموم، يجب أن تكون الحقائق متوافرة للرأي العام خلال فترة معقولة، أيام، أشهر، وليس سنين، ربما تصل لفترة 50 سنة حتى تكشف بعض الحقائق، بعد تصفية الحسابات بين القادة في السلطة. وبالنسبة للقائد الجزائري رمضاني، راجت معلومات تؤكد أنه قتل بالمغرب أثناء دعوته لحضور اجتماع، حيث خنق بشكل شنيع، ويصف أحد الحاضرين عملية الشنق بأنها حالة من العنف الفظيع.

إعلان

هذا العنف طبعا تتولد عنه آلام، وثقافة، ومشاعر رعب ستغلف الكتابات الأدبية والفنية به. وسوريا لم تكن بعيدة عن هذا، فالسجن والتعذيب والخطف، هذه كلها تحولت إلى مادة أدبية في الحدث السوري، وفي السنوات الأخيرة التي كانت حادة بكل المقاييس، هي صراع عسكري مباشر، فهذا أيضا تولد عنه نصوص أدبية فيها شيء من العنف أو مقارب لذلك، وأنا أعده عنفا طبيعيا.

المهم، الكاتب أو الأديب يبين لنا الحالة في سياق قصصي روائي، مثلا، انظر إلى العنف الذي يتحدث عنه الكاتب نبيل سليمان في روايته الأخيرة، عنف شنيع، كيف يُقتل الناس، كيف تأتي رصاصة طائشة وتقتل شخصا وهو يمشي في الشارع، هذا كله سيتحول إلى مادة أدبية، وهذه المادة الأدبية ستنشأ من خلالها روايات وقصائد شعرية، ربما الروايات أكثر، وأنا بالنسبة لي أشعر بأن النص الروائي بالنسبة للأدب السوري هو أقوى من عبر عن حال السوريين.

وهناك الشاعر والروائي السوري محمد الماغوط (1930-2006)، كان له دور بارز في النقد الموجه للسلطات الحاكمة، وهناك الشاعر نزار قباني (1923-1998)، حيث كان الشعر عنده هذه القوة الضاغطة، إذن هناك معبر تمرّ من خلاله النصوص الأدبية، وأيضا الحالات الوجدانية في مواجهة العنف وفي إنشائها أيضا، لأن مواجهة العنف يفترض أنها تؤدي إلى إنشاء وجدان إنساني أكثر، وليس وجدانا عنيفا فقط.

لا أنتظر من الأدب أن يتحول إلى أدب سلام إلى أي حد يمكن أن تلعب الرواية على مستقبل السلم الأهلي في سوريا؟ وهل للأدب دور، أم أنه اليوم غير قادر على أن يعبر عن كثير من الأسئلة؟ وبالتالي ما الذي يمكن فعله برأيكم؟

أنا باعتقادي بكل تواضع، لا أنتظر من الأدب الآن أن يتحول إلى أدب سلام، نعم هو في طبيعته حالة سلام لأنه هو حالة غير عسكرية، حالة ثقافية حضارية، تنتصر للأجمل، تنتصر للإنسان، هذه طبيعته وهدفه، لأن النصوص التي استمرت في الوجدان الإنساني هي النصوص التي راهنت على البعد الإنساني.

إعلان

عندما أقرأ مثلا رواية "الأم" لغوركي، هي ما تزال إلى اليوم، من بداية القرن 20 حتى اليوم ما يزال هذا النص خالدا فينا ويعطي صورة جميلة للأم، هذا هو الوجدان الإنساني الذي ربما ينتج عنه فيما بعد شيء من السلام.

عندما أقرأ الأدب الفرنسي كاملا أو جزئيا، وخصوصا الروائي، لنأخذ الروائي الفرنسي أنوريه دي بلزاك (1799-1850)، في كتاب "الكوميديا الإنسانية"، الذي جاء كنص مضاد للكوميديا الإلهية للشاعر الإيطالي دانتي أليغييري (1265-1321م)، التي تتكلم عن الأرض وليس السماء، وهناك حوالي 80 كتابا للروائي بلزاك، وعند قراءتها ستكتشف المجتمع الفرنسي بكامله، بصراعاته، بناسه الجيدين، بناسه البؤساء، السخيفين، والمرابين، والمحتالين، والمناضلين، والثوريين، تكتشف كل هذا المناخ العام.

لكن عندما تخرج، تخرج مرتاحا بأنك عرفت هذا المجتمع، وعرفت جوهر هذا المجتمع. قوة الأدب -كما ذكرت آنفا- تكمن في أنه يعطينا نوعا من السكينة، هذه السكينة ستستمر فينا، ولكن هي التي تصنع السلام، وهي التي تصنع العلاقات بين الناس، وهي التي تصنع الحب.

لهذا يذهب الناس نحو الأدب حتى في أصعب الظروف وأقساها، وهناك من يقول: نحن في حالة حرب، ومن سيكتب أدبا الآن؟ ونحن في حالة حرب، من الجيد أن الناس يكتبون أدبا، والأدب السوري الذي نشأ في السنوات 30 الأخيرة صورة حقيقية عن هذا الوضع العنيف المؤدي إلى هذه السكينة الإنسانية في نهاية المطاف، والبحث عن نموذج آخر ثقافي وإنساني ومجتمعي، آخر غير النظام الموجود حاليا، وهو نظام ظالم.

واسيني الأعرج: ما ننتظره من المثقف السوري أن يلعب دورا داخل السياق السوري الجديد، أولا كمواطن وثانيا كمثقف وأديب وغير ذلك (مواقع التواصل) المواطنة.. رهان حضاري وثقافي ما هي رسالة الروائي واسيني الأعرج للمثقفين السوريين؟ وما دورهم؟ وماذا سيفعلون؟ وعلى أي جانب يحب أن يركزوا؟ إعلان

اليوم سقط نظام وجاء نظام آخر، والمجتمع السوري الآن سينعم بشيء جديد غير الذي بقي جاثما على صدره لمدة 50 سنة، لكن الأمر أيضا يحتاج إلى تحليل حقيقي لما قام به النظام السابق، أين أصاب وأين أخطأ، يجب ألا ينتصر الهاجس السياسي فحسب، وإنما أن ينتصر الهاجس الحضاري أيضا.

والنظام الجديد كان في مكان ما في زمن ما، هو نظام إسلامي، ولديه أطروحات واضحة تماما فيما يتعلق بالمرأة والتعددية، فيما يتعلق بالإيمان، فيما يتعلق بالأديان، والأمر لا يحتاج إلى توصيف.
إذن، نحن اليوم أمام نظام جديد يجب أن يخرج من الدائرة الضيقة وهي ضيقة فعلا، ويتسع، لأن سوريا ليست دولة إسلامية، سوريا دولة متعددة الأديان، كل التيارات الدينية موجودة، إذن، كيف تتعامل الإدارة الجديدة مع هذا الواقع؟ إذا كانت تريد بناء مجتمع على أسس منطقية، يجب الأخذ بكل تلك التعددية سواء كانت صغيرة أو كبيرة.

فحتى المسلم متعدد مذهبيا بين السني والشيعي، وهناك العلوي والمسيحي (الأرثوذكس، الكاثوليك) والدرزي، هذا أولا. ويجب الأخذ بعين الاعتبار ما تسبب في تكسير سوريا أيضا، هذه النظرة الأحادية بالنسبة للأعراق الموجودة، هناك العربي، وهو ليس بمفرده، وهناك الكردي والشركسي، هناك تعددية بالنسبة للأجناس التي دخلت إلى البلد في فترات تاريخية معينة، هذا أيضا يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار.

أيضا هناك ثقافات متعددة في سوريا، إذن، الاستحقاقات التي تنتظر النظام الجديد كبيرة جدا وتحتاج إلى وقت وتحتاج إلى تفهم، تحتاج إلى عدم اللجوء إلى العنف؛ لأن اللجوء إلى العنف يدمر هذا الكيان ولا يسمح له بالتوحد.

طبعا الأمور ليست سهلة، هناك تيارات متعددة تظهر من هنا وهناك، يمكن أن تكون سيئة ومؤذية للبلد. نقول: ما ننتظره من المثقف السوري أن يلعب دورا داخل هذا السياق، أولا كمواطن وثانيا كمثقف وأديب وغير ذلك.

إعلان

الآن داخل هذه التعددية ما الشيء الذي يحب أن نركز عليه؟ مثلا مسألة المدارس، فأنا أتابع ما يجري في سوريا، فحول إلغاء مقرر التربية المدنية (الوطنية) من المدارس، التي تشيد بالنظام السابق، فلتذهب إلى الجحيم لم تعد هناك حاجة إليها، ولكن يجب تعويضها بدرس في المواطنة مثلا، أعوضها بدرس ديني لم يكن ظاهرا في السابق، فيجب إعطاؤه مكانه اليوم، ولكن الأديان أيضا متعددة، فمثلا إذا تم تدريس تاريخ الأديان في المدارس، لماذا لا يتم تدريس المسيحية واليهودية؟ الأديان الموجودة في البلد متعددة، يجب أن لا يشعر المسيحي أنه مقصى من الجانب التربوي.

ولتكن هذه المادة التربية الوطنية، ولكن تربية المواطنة، كيف تكون مواطنا، كيف يهمك أنت كهاجس، أنت بالدرجة الأولى كسوري بغض النظر من تكون من الناحية الدينية والعرقية.. الناحية العرقية والدينية هي ملك لك، لكن أنت بالدرجة الأولى سوري، متى ما اعتُدي على بلدك تحمل السلاح، وتدافع عن سوريا ولا تدافع عن تيار أو مجموعة.

لهذا يجب الاعتماد على متخصصين، فسوريا بلد عظيم تملك كل التخصصات، وسوريا ستفيد كل العالم العربي، هناك مؤسسات كبيرة وسوريون يعملون في كل بقاع الأرض، يجب أن أستفيد ممن هم في الخارج أو في الداخل الذين سيساهمون بالدفع بالحركة الوطنية إلى الأمام.

شيئا فشيئا تتأسس الدولة، نحن الآن في اللا دولة، في المرحلة الانتقالية، ولكن يجب على المثقف ألا يضغط كثيرا، ولكن في مسائل مبدئية يجب أن يكون حاضرا أيضا.

لهذا أنا أقول: أي مشروع لا يضع في الواجهة الأولى مسألة المواطنة كرهان حضاري وثقافي، فهو مشروع خاسر، لأنه سيدخلك في خلافات دينية وعرقية. أما المواطنة فهي تتعمق في خصوصيتك، والتي تتعمق فيك من خلال حبك لوطنك، وحبك لبلدك، وحبك للتحولات الإيجابية في البلد.

أتمنى كل الخير لسوريا وشعبها.. لديّ حقيقة رغبة في زيارة سوريا، ما تتخيل، أنا وزوجتي وأولادي، باسم وريما، لنا تاريخ في هذا البلد ونحبه كثيرا ونتمنى له كل الخير، ونتمنى أن يكون التحول في سوريا بقدر ما هو إيجابي وغيّر الأوضاع، بقدر ما سيكون أكثر إيجابية إذا استجاب لانشغالات السوريين.

إعلان

مقالات مشابهة

  • وفاة الفنان السوري إلياس الناصر .. والنقابة تنعيه
  • شاهد بالفيديو.. وسط ذهول واستغراب الجمهور.. عمارة “آراك” الشهيرة بالسوق العربي تحافظ على حالتها الطبيعية رغم احتراق ودمار جميع المباني التي من حولها
  • سرايا القدس توجه رسالة عتاب أخوية إلى النظام السوري بعد اعتقال قادتها في دمشق
  • أنباء عن اعتقال الأمن السوري لمسؤوليْن في حركة الجهاد الإسلامي
  • حسين الشرع.. تعرف إلى والد الرئيس السوري
  • أنباء عن اعتقال الأمن السوري لقياديين في حركة الجهاد الإسلامي
  • منتدى “قادة الشمال 2025 ” يناقش قضايا القيادة والتميّز المؤسسي
  • افتتاح معرض “إحياء وإعادة تأهيل المباني والمواقع التاريخية” في كلية ‏الهندسة المعمارية بجامعة دمشق
  • “الآلة التي عطشت” .. “من رواية: قنابل الثقوب السوداء”
  • واسيني الأعرج: المثقفون السوريون وضعوا اللبنة التي فضحت المظالم الاجتماعية