لجريدة عمان:
2025-04-30@23:30:31 GMT

في سبيل تفريق القطيع

تاريخ النشر: 4th, September 2023 GMT

3 أبريل 2021م.. غردت في تويتر قائلا: (لولا الانسياق الجماعي «القطيع»: لما قامت حضارات، ولما استقرت دول، ولما هيمنت معتقدات، ولما ربحت تجارات، ولما سادت فلسفات). وبخلاف تصور الكثيرين بأن ظاهرة القطيع هي غياب للعقل أو تصرف بلا وعي، فإنها تعني أن هناك عقلا يعمل هو عقل الجماعة، يظهر في تصرفات الأفراد خلال التحامهم بها.

. فما هذه الظاهرة؟ وما سببها؟

دراسات كثيرة.. حاولت الإجابة على هذا السؤال، أشهرها كتاب «سيكولوجية الجماهير» للفرنسي جوستاف لوبون (ت:1931م)، وقد أبان فيه أن سلوك الإنسان في القضية الواحدة مع الجماعة يختلف عن سلوكه فردًا، فلو حدثت حادثة في المجتمع فإن الفرد ينظر إليها نظرة مختلفة عن نظرته وهو عضو في جماعة، حيث سيكون غالبًا موقفه مندفعًا معها، تحترق كل الحجج التي كان يبديها منفردًا في لهيب حماسة هذه الجماعة، وإن انفصل عنها فقد يعود لرؤيته الفردية مرة أخرى. يرى لوبون وهو فيلسوف اجتماعي وعالم نفس بأن الإنسان في سياق الجماعة تحكمه سيكولوجية لا تنبع من التصورات العقلية الفردية، وإنما تعصف به عاطفة الجماعة، ففي الجماعة يعلو صفير العاطفة، وفي الانفراد يتردد صدى الحجة.

«القطيع».. مصطلح انتشر بين الناس، تشبيها بحالة الحيوانات التي تنساق وراء بعضها دون تفكير. إن الحيوان.. عبارة عن خارطة جينية تملي عليه سلوكه، وعبر الوارثة ينتقل هذا السلوك، فنراه متكررا في أجيال الحيوان. يجتمع ذكر الطير بأنثاه فيبنيان عشا، ثم يتزاوجان فيضعان بيضهما فيه، ويرعيانه حتى يفقس، ثم يجلبان الغذاء لصيصانهما، إلى أن تتمكن من الطيران، فتأخذ طريقها لتعيد ذات السلوك الذي سار عليه والداها؛ كبعض الأمراض التي يرثها الأبناء عن آبائهم. وقد تطوّر العلم والطب؛ فتمكن علماء الهندسة الوراثية من قراءة الخارطة الجينية، وبدأوا يقرأون سلوك الحيوان بفك الشيفرة الوراثية، كما عرفوا كذلك العديد من الأمراض، وهو ما يجعل طريق الطب مشرقًا أمام البشر.

الخارطة الجينية ذاتها.. التي رُسم بريشتها الحيوان كُتب بقلمها الإنسان، لأنه «حيوان ناطق» كما يقول الفلاسفة، وما يميزه في مسير حياته الطويل أنه أصبح يتمتع بالإدراك والوعي. وبالعقل.. أقتدر أن يبني حياته بأساليب من العمران لم تتمكن منها الحيوانات، ولا يزال العلماء والفلاسفة في نزاع عريض وجدل عميق في تحديد سبب هذا الوعي والقدرة على التعقل، والذي عندي.. أن سببه الروح؛ وهو «النفخة» التي غرسها الله في الإنسان، وقد تحدثت عنها في أكثر من موضع، [انظر مثلا: مقالي «الفراغ الروحي.. مراجعات في المفهوم»، جريدة «عمان»، 21/ 6/ 2021م]، ومما قلته فيه: (في الإنسان.. روح نفخه الله فيه، جعله متعلقًا بخالقه، وأوجد الوعي لديه بطبيعة وجوده في الحياة، كما أوجد فيه الضمير الأخلاقي).

القطيع.. غالبًا ما يتحدث عنه الناس بوصفه أمرًا سلبيًا، وهذا صحيح؛ عندما يتعلق الأمر بالتغيير الاجتماعي نحو الأفضل، فالمعارضة.. تشكل جدارًا صلبًا يقف حائلًا عن التغيير، وفي الوقت ذاته؛ قد يثور الناس لإحداث تحولات غير مدرِكة للمآل كما حدث في الربيع العربي. لكن علينا أن ننظر إلى هذه الظاهرة بأنها طبع في النفس، من خلال اشتغال الخارطة الجينية الحيوانية المشتركة. فالجينات البشرية.. تستنسخ نفسها، والتشابه ليس حاصلًا في تعاقب الأجيال وحده، وإنما كذلك في الأفراد، بمعنى؛ أن الفرد الذي يظهر لنا بأنه قادر على أن يتخذ موقفًا واعيًا وإن خالف الجماعة، فبوجوده فيها يندمج معها وتعمل لديه «جينات الجماعة»، وعلى هذا بُني الاجتماع البشري، فهو يقلد بعضه بعضًا.

إن الانتباه لظاهرة القطيع ليس حديثًا؛ نتاج علم النفس أو علم الاجتماع، بل هي معروفة منذ آماد غابرة، والناس الآن لا يكادون يخرجون عمّا عرفه السابقون، إلا بكثرة توصيف مظاهرها والحديث عنها. وما البيروقراطية إلا أثر من آثار هذه الظاهرة، وهي جِبلّة في الناس قبل أن تكون نظامًا حديثًا، ولنتصور مدى الفوضى التي تتحكم بالبشر لولا أنهم ينساقون إلى التقليد، وعلى ذلك؛ فلا غَرْوَ أن يتحكم «روح القطيع» في معظم البشر حتى تستقيم حياتهم.

و«جينات القطيع».. هي التي أورثتنا نحن البشر: الدين واللغة والآدب والأسطورة، وهذا ما يفسر بقاء هذه الأنظمة منذ الأزل، ولا زالت قادرة على رفد الاجتماع البشري بما يحتاجه من تغذية للنفس وإعمار للحياة.

ظاهرة القطيع مع أهميتها أدت إلى أمرين سلبيين:

- الصراع بين الجماعات البشرية.. فقد تحولت ظاهرة القطيع إلى معتقدات دينية، أو عصبية عنصرية، فكل جماعة تعتبر تقليدها الجماعي هو الحق، وفيه الخير للناس، وما عداه ضلال وخطر على البشر.

- بطء التطور في المجتمعات.. التي تهيمن عليها هذه الظاهرة، وبالتالي تجد نفسها في آخر قطار المدنية، مهما كانت حضارتها السابقة متقدمة.

ولأجل التخفيف من وطأة هذين الأمرين لا بد من «تفريق القطيع»، والمقصود به فسح المجال للإبداع الفردي أن يظهر، فإذا كان التقليد هو ما يتحكم في مفاصل الجماعة إلى درجة أن العقل الفردي يذوب فيها، فإن الإبداع هو أن يثبت هذا العقل قوته وحضوره أثناء التحام الجماعة بعقلها الجمعي، العقل الفردي المبدع.. هو وحده القادر على تفريق القطيع، فهو لا يستعمل العنف كما تفعل السياسة فتقمعه؛ حتى تحافظ على وضعها القائم، وإنما يفكك الأنظمة القديمة التي اصطفت جيناتها في الجماعة التي تثور حميتها لأجل ما اعتادت عليه، ثم يعمل على بناء نظام جديد يتجه بالمجتمع نحو الأمام.

وهذا ما نجده في حركة النبوات، حيث يأتي النبي بمنظومة دينية لنقض المنظومات القديمة، فالإسلام.. قوّض المنظومات الدينية القائمة في زمانه، التي باتت نظامًا جمعيًا عقائده فاترة؛ ينتصر لها الناس انسياقًا دون تفكير في مقاصد الدين. فجاء النبي محمد بالتوحيد؛ الحي في النفوس والمتفاعل مع الحياة، قبل أن يفقد كثيرًا من فاعليته على يد العقل الجمعي بمرور الزمن. فالأنبياء الكرام.. هم أحكم الناس الذين عملوا على تفريق القطيع لبناء نظام صالح لمجتمعاتهم.

وفي القرآن.. تمييز واضح بين الوعي الفردي والانسياق الجماعي، فالله.. يحمّل الفرد مسؤولية اتخاذ قراره: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَة) [المدثر:38]، (وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) [الأنعام:164]، وفي الدعوة للتفكر يقول الله: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) [سبأ:46]، ويقول ذامًا الانسياق الجماعي: (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) [العنكبوت:63]، و(إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) [الزخرف:23].

العلم.. بحركته المستمرة، سواءً في اكتشافاته أو اختراعاته أو مناهجه، عمل كذلك على تفريق القطيع، وهو يعمل ببطء لكن مفعوله قوي ودائم. والعلم.. ارتباطه وثيق بحركة الحياة وتحولاتها، فمدده لا ينقطع، يجدد مناهجه ومعارفه باستمرار، وهذا لا يعني أنه نفذ تمامًا من هيمنة ظاهرة القطيع، فكثيرًا ما تتشكل للمناهج قدسيتها التي تصبح من الصعب مخالفتها فضلًا عن التجديد فيها. والفلسفة.. كذلك لها قدرة نافذة في طرح الأفكار التي تؤدي إلى تغيير الناس لرؤيتهم في الحياة، وتتميز الفلسفة عن العلم بأنها تخوض معترك الجدل مع الناس في أفكارهم، منتصرة للرؤية الفردية.

عصرنا الرقمي.. الذي يبدو للوهلة الأولى أنه يُذكي من ظاهرة القطيع؛ هو في الواقع أحدّ مُدية لفري أديمها. وهذا الواقع سيترك فراغًا في الاجتماع البشري على مختلف الأصعدة، إن لم يتمكن الفلاسفة والمفكرون من تقديم رؤية جديدة للحياة يملؤونه بها، والخشية من أن يُملأ هذا الفراغ بالجريمة القاتلة للفرد والمدمرة للمجتمع.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: هذه الظاهرة

إقرأ أيضاً:

التصالح مع الذات (السعادة الأبدية)

دعني أبحر وإياك في تلك القيمة النبيلة التي إذا امتثلناها عشنا حياة سعيدة أبدية وهي التصالح مع ذواتنا، الله عز وجل لما خلق الدنيا قدر فيها الأقدار ووزع الأرزاق،

فتجد الغني والفقير والقوي والضعيف والصحيح والسقيم والمعافى والمبتلى والمتعلم والجاهل وغيرها على هذه البسيطة، تجد أخوين في بيت واحد أحدهما قد رزقه الله مالاً والآخر يسأل الناس الحاجة، وآخر قد فتح الله له من العلوم والرفعة في العلم والثاني ليس معه إلا المرحلة الثانوية، وآخر قد رزق بالولد وأخيه قد حرم منه،

وتجد امرأة قد ترزق بزوج شديد الطباع غليظ في التعامل وأختها أو صديقتها قد أرتبطت بزوج دمث الأخلاق هين لين،فهذا كله من علم الله وهو من يقدر الأقدار وقس على ذلك الشيء الكثير في هذه الحياة ، فعلينا بالرضى وأن نتصالح مع أنفسنا فيما رزقنا الله به ، قلَّ أن تجد شخصين لهما نفس الظروف المادية والتعليمية ويعيشان بسعادة فغالباً يخرج لهما ما ينغص عليهما حياتهما من معارك الحياة ،

نحن اليوم نعيش في زمن الماديات وأصبحت هي المحرك الأساس في حياتنا لأننا نظرنا لها بذلك وتحولت الكماليات إلى أساسيات وذهبت القناعة والتصالح مع الذات وأصبحنا نجري خلف المتغيرات ونبحث عن كل جديد ونطالع بما في أيدي الناس،

في زمن مضى قبل أربعين سنة كان التصالح مع الذات أساس الحياة تجد الرجل يكدح ويبني نفسه ومن يعول ولا يمد عينيه إلى ما لا يستطيعه ويعيش الحياة والسعادة الأبدية لم يكن يفكر أن يسافر خارج البلاد للفسحة ويحمل نفسه ما لا تطيق من التكاليف لم يكن ليشتري سيارة فارهة أو ذات تكلفة عالية وهو ليس معه مالاً لم يكن ليستدين لشراء الكماليات بل كان متصالحاً مع نفسه يعيش قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَن أصبحَ منكم آمِنًا في سِربِه، معافًى في جسَدِه، عِندَه قُوتُ يومِه، فكأنما حُيزت له الدنيا)،

نعيش تحديًا كبيرًا في كيف نتصالح مع ذواتنا وننقلها لمن نعول فوسائل التواصل الاجتماعي تنقل الغث والسمين وأصبحت وسيلة ضغط والكل يتطلع لعيش الحياة الوهمية أو السعادة المؤقتة، عندما نرى الحياة بالعين المجردة نجد أن الإنسان خلق فيها في كبد فلا تستقر له حال وهذا على كل البشر الصغير والكبير، الذكر والأنثى، الغني والفقير، ولكن السعيد الذي عرف مفتاح السعادة وتصالح مع ذاته،

على سبيل المثال عندما تشتري سيارة ما هو هدفك هو قضاء حاجاتك الدنيوية أم أنك تريد أن تريه الناس، قد يكون عندك تحدي في المال فالأول الذي فهم الدنيا وتصالح مع ذاته سوف يشتري ما تيسر ولا يمد عينيه إلى ما لا يستطيعه ويعيش حياته، أما الآخر الذي يرى كيف تكون نظرة الناس له سوف يكلف نفسه ما لا تطيق ويستدين ويقتر على نفسه، ومثل ذلك شراء المنزل هل أشتري منزلاً جديدًا أم أتصالح مع ذاتي وأشتري منزلاً يتناسب مع إمكانياتي وظروفي المادية ، السعادة في الدنيا نستطيع أن نعيشها ونستطيع أن نحرم منها ويعود ذلك لطريقة تفكيرنا وتصالحنا مع ذواتنا وطريقة الحياة التي نود أن نكون عليها،

في الأخير يجب أن نفهم أن ما كُل ما نريده ونصعد له سوف نناله نحن علينا فعل السبب ولكن النتيجة من الله، فلا نلطم الخدود ونشق الجيوب ونتحسر لرزق لم يسوقه الله لنا أو مرض ابتلينا به أو حاجة من حوائج الدنيا فاتت ولم نصب منها خيرًا، ابتسم دومًا وتصالح مع نفسك وانظر أنك في الدنيا مسافر إلى جنة النعيم والسعادة الأبدية، فكل شيء سيفنى ولن يبقى لك إلا ما قدمت من عمل صالح.

مقالات مشابهة

  • قاض أمريكي يخلي سبيل الطالب الفلسطيني محسن مهداوي.. أوقف بسبب دعمه غزة
  • سجناء المُطالبات المالية
  • بكفالة 50 ألف حنيهًا.. إخلاء سبيل طبيب الفيوم المتهم بإجهاض طالبة الإعدادية
  • حبس المتهم بمعاشرة نجلة شقيقه بالفيوم على ذمة التحقيقات وإخلاء سبيل الأب وشقيقته بكفالة
  • هل مجزرة صالحة دي هي أول مجزرة للميليشيا
  • التصالح مع الذات (السعادة الأبدية)
  • محافظ الغربية: التعليم هو سبيل النهوض وأمل الأجيال القادمة
  • وجهت له شتائم وسباب “بالأم”.. إخلاء سبيل المتهم بصفع زميلته داخل مطعم
  • كانوا في رحلة للعين السخنة.. إخلاء سبيل فتاة المرج وصديقتها
  • أمن الدولة بمصر تخلي سبيل أحمد الطنطاوي بعد تدويره في قضايا تحريض