التاريخ العظيم وغوايته الخطيرة
تاريخ النشر: 4th, September 2023 GMT
وراء الفوضى العالمية اليوم، نجد روايتين متصلتين حول مواطن القوة ونقاط الضعف النسبية لدى مختلف البلدان في المنافسة على القوة العالمية. تدور الرواية الأولى حول صعود وسقوط الأمم والحضارات في الأمد الطويل، في حين تدور الأخرى حول أوضاع وأحوال أقصر أمدا.
من المنظور الغربي، تنظر الرواية الأولى إلى الصين باعتبارها تهديدا بسبب قوتها غير العادية، في حين تعرضها الراوية الثانية على أنها تهديد بسبب ضعفها المتأصل.
على نحو مماثل، قررت الحكومة الصينية للتو، خوفا مما قد تتعلمه الولايات المتحدة من عمليات المراقبة وجمع المعلومات الاستخباراتية، تقييد البيانات الاقتصادية التي تنشرها، كما أقرت قوانين جديدة ضد التجسس. الواقع أن قسما كبيرا من الشعب الصيني ــ وقيادات الصين ــ مقتنعون بأن أمريكا عاقدة العزم على عرقلة صعود الصين الطبيعي ــ ويرون أن هذا من شأنه أن يعيد الصين إلى الحالة التي كانت عليها قبل «قرن الإذلال»، عندما أُخـضِـعَـت، ونُـهِـبَـت، وأُفـقِـرَت على يد القوى الغربية واليابان.
في بعض الأحيان، تصطدم وجهات النظر الأطول أمدا هذه باعتبارات أقصر أمدا. في الأشهر الأخيرة، على سبيل المثال، كان الساسة والصحافيون في مختلف أنحاء الغرب عاكفين على الاستنباط من التغيرات القصيرة الأمد في نمو الدخل الوطني للخروج بتكهنات كبرى حول من يفوز ومن يخسر في اللعبة العظمى الجديدة. في أوائل العقد الأول من القرن الحالي، عندما كان أداء الاقتصاد الألماني هزيلا، تَـمَـسَّـكَ المعلقون بفكرة مفادها أن ألمانيا كانت «رجل أوروبا المريض». لكن ألمانيا نظمت بعد ذلك عودة غير عادية، لتصبح واحدة من أكبر المستفيدين من التجارة في عصر جديد من العولمة. ولكن مع ضعف أدائها الاقتصادي نسبيا، أصبحت تُـعَـد رجل أوروبا المريض مرة أخرى. يركز المعلقون اليوم بشدة أيضا على مشكلات الصين الاقتصادية، وخاصة معدل البطالة المرتفع بين الشباب، وانهيار سوق العقارات، والذي يتناقض مع طفرة الاستثمار والتصنيع الجديدة في أمريكا، في أعقاب صدور تشريعات جديدة مثل قانون خفض التضخم. بطبيعة الحال، سوف يستنتج أولئك الذين يتبنون هذا المنظور القصير الأمد أن الصين بدأت تضعف، وأن أمريكا لا تزال على القمة. فهي على النقيض من توقعات الانحدار تستفيد من تفكك العولمة، في حين تعاني اقتصادات كبرى موجهة نحو التصدير (مثل الصين وألمانيا). يعمل هذا التفاؤل ــ الذي يعتبره بعض المراقبون غطرسة ــ على تغذية مخاوف الصين بشأن تخريب نهضتها، لأنه يستحضر أوجه تشابه تاريخية قوية.
الواقع أن القوى المهيمنة قادرة على الرد بشراسة على كل من ترى أنه يتحداها أو يباريها، وهي تفعل ذلك عادة: فقد دمرت بريطانيا الصين في أوائل القرن التاسع عشر بإغراقها بالأفيون، وكانت الولايات المتحدة حريصة على القضاء على التحدي الياباني في أواخر القرن العشرين. من السهل أن ننسى أن مخاوف الولايات المتحدة في ثمانينيات وأوائل تسعينيات القرن العشرين، بشأن المنافسة الصناعية غير العادلة من جانب اليابان، كانت شديدة الوضوح إلى الحد الذي جعل معلقين مشهورين ينشرون كتبا تحمل عناوين مثل «الحرب القادمة مع اليابان». عندما انفجرت فقاعة أسعار الأصول اليابانية في عام 1991، ظن كثيرون من اليابانيين أن في الأمر مؤامرة أمريكية، وخاصة بعد الدور الذي لعبته سياسة الولايات المتحدة في الديون غير المستدامة التي تراكمت على اليابان في ثمانينيات القرن العشرين. ومن السهل أيضا تحديث هذا السيناريو لينطبق على السياق الحالي. في النهاية، ألم يكن ارتفاع أسعار الأصول بشدة في الصين في العقد الثاني من القرن الحالي (بما في ذلك فورة المضاربة في العقارات) راجعا بشكل جزئي إلى النظام النقدي الأمريكي المتساهل بعد الأزمة المالية العالمية؟ الحقيقة المحزنة هي أن كلا من الروايتين تشكل دليلا هزيلا للمعضلات السياسية في الوقت الحاضر.
وعندما يفكر صناع السياسات في الأمد البعيد، يجب أن يتجنبوا إغواء مذهب الحتمية. فلا يوجد قانون تاريخي يُـمـلي مدة صلاحية المؤسسات الجديرة بالثقة. لقد دام التفوق المالي البريطاني أكثر من قرنين من الزمن، من أواخر القرن السابع عشر إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى. لكن هذا لا يعني أن التفوق المالي الأمريكي قد يدوم لفترة مماثلة. أما التقلبات القصيرة الأمد فتشكل دليلا أشد سوءا. فقد شهدت بلدان عديدة استفادت من العولمة صدمات وانتكاسات، لكنها تكيفت وعادت أقوى مما كانت. ولا ينبغي لفقاعة العقارات المنهارة أن تدمر الصين، تماما كما لم يدمر انهيار سوق العقارات في عام 2008 الولايات المتحدة. وقد تتعلم الصين من تجربة اقتصادات آسيوية أخرى سريعة النمو، مثل كوريا الجنوبية، التي شهدت ارتباكات شديدة في سبعينيات القرن العشرين (أزمة النفط)، وفي أوائل الثمانينيات (أزمة الديون الدولية)، ومرة أخرى في أواخر التسعينيات (الأزمة المالية الآسيوية). وفي كل من هذه المناسبات نجحت في تكييف نموذج النمو وتحقيق الازدهار. الجميع يريدون قصة بسيطة. لكن المهمة الحقيقية التي يجب أن يضطلع بها التحليل التاريخي لابد وأن تكون تفكيك الروايات الحتمية، وليس مسايرتها.
هارولد جيمس أستاذ التاريخ والشؤون الدولية في جامعة برينستون. وهو متخصص في تاريخ الاقتصاد الألماني والعولمة، ومؤلف مشارك لكتاب «اليورو» ومعركة الأفكار، ومؤلف كتاب «إنشاء وتدمير القيمة: دورة العولمة».
خدمة بروجيكت سنديكيت
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الولایات المتحدة القرن العشرین
إقرأ أيضاً:
سيناتور أمريكي يصف الكونغرس الحالي بأنه الأسوأ في التاريخ
الولايات المتحدة – وصف السيناتور الأمريكي جو مانشين الكونغرس الحالي بأنه الأسوأ في التاريخ.
وقال مانشين في مقابلة مع شبكة “سي إن إن”: “لقد كان هذا أسوأ كونغرس في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، والمجلس ضعيف عاجز عن التحرك”.
وبحسب مانشين، فإن استمرار توزيع المقاعد مع أفضلية طفيفة للجمهوريين على الديمقراطيين يسمح لأي عضو جمهوري بالتهديد بإقالة رئيس المجلس من منصبه.
وأشار السيناتور إلى أن الطريقة الوحيدة للبقاء رئيسا للمجلس هي عدم القيام بأي شيء، وإلا فسيكون هناك خطر على بقائه رئيساً.
وتابع: “مجلس النواب سيئ أكثر من مجلس الشيوخ، أشعر بالإشفاق الشديد عليهم”.
في يناير 2025، يبدأ الكونغرس الأمريكي الـ119 أعماله في الولايات المتحدة.
وفيه سيظل مجلس النواب خاضعا لسيطرة الحزب الجمهوري الذي سيشغل 220 مقعدا من أصل 435 مقعدا.
وسيخضع مجلس الشيوخ أيضا لسيطرة الجمهوريين، وسيحصلون على 53 مقعدا من أصل 100 مقعد هناك، مما يضمن السيطرة على مجلسي الكونغرس الأمريكي.
المصدر: نوفوستي