الحقائق والفرضيات بين علوم الطبيعة والعلوم الإنسانية
تاريخ النشر: 4th, September 2023 GMT
هناك تمايز واضح اليوم بين علوم الطبيعة والعلوم الإنسانية ليس على مستوى النتائج فحسب؛ بل حتى على مستوى الأدوات، لهذا لا يمكن اليوم الخلط بينهما، قد يشتركان فيما يتعلق بالإنسان من آثار، كما لعلوم الطبيعة من تأثير واضح في العلوم الإنسانية وتشعبها وتطورها، ولكن لا يندمجان، بمعنى لا معنى لعبارة الجمع بين العلم الطبيعي والدين، أو العلم الطبيعي والفلسفة، أو بين العلم الطبيعي ذاته والعلم الشمولي؛ لأن الثاني كما يرى بدوي عبد الفتاح محمد في فلسفة العلوم «بالرغم من أن ميلاد العلم يعود إلى ثلاثة قرون مضت؛ إلا أنه ما يزال حتى اليوم مصطلحا غامضا تتضارب حوله الآراء، هذا التضارب لا يعود إلى العلماء بالطبع؛ بل إلى كثرة الأنشطة الإنسانية التي تحاول الانتساب إلى العلم.
وفي جلسة معرفية بعنوان «علوم الطبيعة: حقائق ثابتة أم فرضيات متغيرة» ألقاها المحاضر في جامعة السلطان قابوس حيدر أحمد اللواتي يرى أن هناك فريقين: فريق يخلط بين الحقيقة العلمية والظاهرة والتفسير العلمي، فيجعل الجميع حقائق، وفريق يقلل من الحقائق العلمية فيجعلها لا تتعدى الفرضيات، بينما علوم الطبيعة تضم الحقائق والنظريات والفرضيات العلمية، وعدم انتقال الدلائل العلمية إلى الحقائق العلمية لا يعني الشك، فهناك مساحة واسعة بين الحقيقة العلمية والشك، ولا يوجد في علوم الطبيعة تجارب مشكوك فيها، فإما صحيحة أو يضرب بها عرض الحائط، لهذا لا بد من الممايزة بين نتائج التجربة والتفسير العلمي للتجربة، قد يُختلف في التفسير، لكن لا يمكن الاختلاف في التجربة، مثل السكريات المصنعة هل تسبب مرض السرطان أم لا؟ لا يوجد خلاف في تجربة السكريات المصنعة، والكل يرجع إلى ذات التجربة، ولكن الاختلاف في التفسير.
لهذا الممايزة بين علوم الطبيعة والعلوم الإنسانية يتمثل في جوانب عديدة، أهمها في نظري المرجعية والمعيار ومفردات منهج البحث والنتائج، فأما المرجعية فعلوم الطبيعة معنية بما في الطبيعة، وليست معنية بما وراء الطبيعة أكان غيبيات أو ماورائيات، أو بما فيها مما ليس خاضعا للرصد أو التجربة، فيرى اللواتي أن حقائق علوم الطبيعة انحصرت سابقا فيما يمكن كشفه من خلال الحواس الخمس، مثل تعاقب الليل والنهار والمد والجزر والأعاصير، إلا أنه في القرون الخمسة الماضية تقدم العلم لدرجة إدراك العلم أن الحواس لا تَدرك إلا قدرا محدودا من الظواهر الطبيعية، مثلا حاسة العين تدرك من الضوء فقط واحدا بالمائة، وبالتالي هناك عوالم ضخمة لا تدرك بالعين الجارحة، فأصبحت حقائق علوم الطبيعة لا تُدرك فقط بالحواس الخمس بل بامتدادات هذه الحواس، مثلا التلسكوب الذي هو امتداد لحاسة البصر من حيث البعد، والمجهر الذي هو امتداد لحاسة البصر من حيث الحجم، فظهرت حقائق علمية لا تُدرك بالحواس الخمس وإنما بامتداداتها مثل الميكروبات والبكتيريا والفيروسات والفطريات الصغيرة، فتوسعت الحقائق العلمية، مثلا كروية الأرض ودوران الأرض حول الشمس، وظاهرة الثقب الأسود، و DNA.
أما العلوم الإنسانية سواء كانت دينية أو تاريخية أو فلسفية قارية أو رياضية فهي أوسع مرجعيا من علوم الطبيعة كما يرى بدوي عبد الفتاح «أن ما نعنيه بالعلم هو العلم الطبيعي أو التجريبي وليس العلم الرياضي أو امتداداته المنطقية، رغم الاعتراف الكامل بأنه لولاه ما حققت العلوم الطبيعية أدنى تقدم، ولوقفت عند حدود الوصف الكيفي البسيط»، لهذا لا معنى لتقييد علوم الطبيعة بنتائج العلوم الإنسانية، كما أن علوم الطبيعة قد لا تدخل في الابتداء في العلوم الإنسانية، وإن دخلت فقد تتمايز النتائج بينهما بشكل طبيعي، وقد تتوافق في بعض الأجزاء.
وأما المعيار فكما يرى اللواتي أن المعيار المستخدم في علوم الطبيعة لإثبات الحقائق العلمية هي التجربة، وتتحقق بالرصد والمختبر، فمنها ما يمكن رصدها مثل النجوم والمجرات، ومنها ما يمكن أن تدخل في المختبر كالميكروبات والفيروسات، لهذا في العلم الطبيعي يمايزون بين الظاهرة الطبيعية والظاهرة التأريخية، فالأولى يمكن رصدها واختبارها، وأما الظواهر العلمية التأريخية التي لا يمكن إعادة تكرارها ورصدها مرة أخرى مثل الانفجار العظيم أو السلف المشترك عند دارون هي ظواهر علمية ترصد بالحواس، لكن لا يمكن تحقيقها بالمختبر أو التجربة لهذا تبقى ظاهرة علمية لا حقيقة علمية، كما أنه لابد من التمييز بين الظاهرة وأثرها، أحيانا لا يمكن الوصول إلى الظاهرة لرصدها، ولكن يمكن رصد آثارها، مثل الجاذبية الأرضية، لهذا من الخطأ اعتبار الجاذبية الأرضية حقيقة علمية.
وأما المعيار في العلوم الإنسانية كانت دينية أو تاريخية أو فلسفية أو رياضية فيختلف تماما، لهذا سيدخل مفردات منهج البحث مع المعيار، كما أنها تتمايز العلوم الإنسانية فيما بينها أيضا، فالعلوم الإنسانية الدينية تتمايز مع العلوم الإنسانية التأريخية، فقد يشتركان في الأخبار التصورية والتصديقية من حيث الابتداء، إلا أنهما يتمايزان من حيث البعد الماورائي في الخبر من حيث التصديق، ومن حيث مفردات البحث كالأسطورة والخرافة والواقع، كما أن العلوم الإنسانية التأريخية الخبرية والروائية تتمايز مع العلوم الإنسانية التأريخية القائمة على ماديات الآثار والنقوش، وهكذا في العلوم الإنسانية الفلسفية تتمايز العلوم الفلسفية التجريبية عن العلوم الفلسفية الإغريقية والقارية، سواء من حيث المعيار، أو من حيث مفردات منهج البحث.
ومن هذه المفردات مثلا نظرية الشك، فالشك ومساحته في العلوم الطبيعية يختلف عن العلوم الإنسانية، كما أن مساحة وجوده تتباين ذاتها في العلوم الإنسانية، فالشك عند اللاهوتيين يختلف عن الشك عند الرياضيين، كما قد يختلف عند الفلاسفة، فلا يوجد شك في علوم الطبيعة، فإما أن ترتفع الظاهرة العلمية إلى حد الحقيقة العلمية، ولكن لا تقبل الشك في الأدلة ولا النتائج فهي واحدة، بيد أن التفسيرات تختلف، بينما في العلوم الإنسانية فالشك وراد بقوة، لأن الخبر بذاته قائم على الشك، أي الصدق والكذب من خلال الواقع، ثم إن مساحة الشك تضيق عند اللاهوتي خصوصا فيما يتعلق بالمقدس، فهو غير وارد فيه، بيد أن معيار رفضه هنا ماورائي غير قابل للتجربة، وإنما قائم على الخبر التأريخي، ويرون أن الخبر لا يخالف الواقع وإن كان الواقع متقدما ظاهريا، كما سيضيق عند اللاهوتيين أنفسهم فيمن يتوسع في القطعي وتضييق دائرة الظني، وهذا ما يرفضه الفلاسفة، فالأصل في الأخبار الشك، والانتقال منها إلى القطع قائم على الأدلة العقلية والطبيعية، والتجريبيون يتوقفون عند الأدلة القائمة على تحقق التجربة، فيستندون إلى أدلة علوم الطبيعة، بيد أن علوم الطبيعة ترفض الشك من حيث الابتداء، والذي لا يخضع للرصد والتجربة ليست معنية به كما أسلفنا.
ولهذا من الطبيعي أن تتمايز العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية في النتائج، وكما يرى اللواتي أن من شروط النظرية العلمية أن تكون قادرة على تفسير الظاهرة العلمية، وأن تكون قادرة على التنبؤ لظواهر علمية غير مكتشفة، مثلا النظرية النسبية لما فسرت الجاذبية الأرضية تنبأت بتنبؤات غير متوقعة مثل الضوء عندما يمر عند الأجسام الكبيرة كالشمس ينحني ولا يمر طوليا، وحددت درجة الانحناء، وتنبأت كذلك بالثقب الأسود، والتنبؤ بالأمواج الثقالية.
وأما العلوم الإنسانية فقد تكون غير معنية بالتنبؤ، كما أن النتائج قد تكون مبنية على أدلة ماورائية أو خبرية أو عقلية أو رياضية غير خاضعة للتجربة، لهذا قد تكون أصل القضية سالبة أو حتى كاذبة، وتفسيراتها متباينة ومتناقضة، وهذا يتمايز كليا مع العلوم الطبيعية، لهذا لا حاجة اليوم في البحث عن المعاجز والتكلف في إثبات الماورائيات والماضويات من خلال العلوم الطبيعية، وفي الوقت ذاته تترك العلوم الطبيعية لتتحرك في أوسع مساحات البحث والكشف والسير بعيدا عن المعوقات اللاهوتية والسياسية والاجتماعية، وعن الاستغلال الاقتصادي الرأسمالي والسياسي، وتوجيهها بطرق غير أخلاقية، خصوصا فيما يتعلق بالأمراض وأدوات الحروب وتدمير الإنسان والحياة، فهناك من المشترك الأخلاقي والأثري بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية، ولكن في الوقت نفسه منهجيا ومعرفيا كل علم يدرس وفق أدواته ومعياره ونتائجه.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی العلوم الإنسانیة والعلوم الإنسانیة علوم الطبیعة لا یمکن لهذا لا کما أن من حیث
إقرأ أيضاً:
للتاريخ وللسياسة وللممكن!
يوسف عوض العازمي
@alzmi1969
"نحن في حاجة إلى رؤية للقوة، تكون أشمل من الرؤية التقليدية التي تركز على القدرة على كسب الحرب" يورغ سورنسن.
***
عندما تتفكر فيما يحدث من تطورات في تمكن والتزام ومسببات ومقتضيات ومتحركات السياسة الدولية تجد التطور هو الثابت الأكثر تحركا بها، تطورت حوادث الحياة السياسية المعاصرة بحسب وجود السيد الأقوى على سدة القرار، وهنا القصد بالسيد الأقوى من يملك إمكانات تخطيط وتنظيم وصنع وتنفيذ القرار السياسي، وعلى أثر ذلك ستلاحظ بما يتدثر به من مبادئ وقيم، وأخلاق ووفاء، ومعاهدات واتفاقيات، وهل تصب في صالح النظام العام أم متسقة فقط مع نظامه الأحادي، وهل يتغير رئيس وتبدل نظام تذهب مبادئ وتأتي أخرى؟
التاريخ وبصفحاته وضح كل شيء، ومن لا يقرأ التاريخ ليس تكون خطواته على ورود، بل سيكون الشوك عنوانها، القوة إن لم تقودها العقلانية والمصلحية العامة وسط إطار يضع المصالح بجانب القيم التي تعبئ مصالحها بمبادئ القوة المتمكنة من تحقيق الأهداف بإمكانات فعالة قد تفضي إلى تحقيق هدف وأكثر لكنها لن تستطيع الصمود لفترات طويلة، ولن تتحمل الضغط العالي لإن الأساس أصبح هشا، فهل هناك من يستطيع بناء الدور الثالث من مبنى دون بناء أساسات ودور أرضي؟
لنرجع قليلا إلى ماض قريب عندما كف ميخائيل غورباتشيف عن مساندة الديكتاتوريات الشيوعية في أوروبا الشرقية، فتساقطت واحدة بعد الأخرى، وفي بلده هو انتهت سياستا غلاسنوست glasnost وبيريسترويكا perestroika إلى انهيار الاتحاد السوفييتي (1)، هنا يتبين دور القوة المساندة في تحديد مسارات الإطار العام للسياسات المنظمة بين الدول؛ فالدول التي تضع اعتماديتها الكاملة أو الشبه كاملة في يد دول أخرى فدرب ابتزازها وطريق طلب فواتير سياسية واقتصادية باهظة كونها لا تتحكم في كل خيوط اللعبة، الأقوى هومن يملك تحريك الخيوط وقيادتها وإيقافها كذلك، تصور لولم تجمع الأقوى مصالح مع طالبي المساندة، فكيف سيكون الوضع ؟
في العلاقات الدولية قواعد أخلاقية لعملية اتخاذ القرارات الخاصة بالسياسة الخارجية للدول أهمها قاعدتين: على الدول الوفاء بالتزاماتها وعهودها + للدول الحق في الدفاع عن نفسها ضد الاعتداء الخارجي (2)، ومن الصعب على أية وحدة سياسية الصمود وسط تيارات المتغيرات السياسية الدولية دونما وجود أساس متين تتكأ عليه من استقرار سياسي وقوة عسكرية، ونهضة اقتصادية، زائد تحالفات مع دول موثوقة تملك قيما ومبادئ مشتركة، وربط هذه التحالفات بشبكة مصالح طويلة المدى كمصالح اقتصادية مثلا.
في دول الديمقراطيات العريقة قد يتبدل فكر إدارة الدولة بمن توصله صناديق الاقتراع، وهنا على الحلفاء مراقبة أوضاع المتنافسين وخلفياتهم السياسية والقيم التي بسببها قد يصلون لسدة القرار، ودراسة هذه القيم ومدى مناسبتها للقيم المطلوبة، وكيف التعامل معها ومواجهتها بما يحقق الصالح العام، وهذا يتطلب وجود مستشارين على درجة عالية من التبصر في مراقبة ما يحدث، ويملكون بصيرة معرفة التاريخ، ومكر أهل السياسة، وتبدل أحوال الدول .
من أهم أسباب جودة السياسة لأي وحدة سياسية (دولة) هي وجود حدود ثابتة لا غبار حولها، وقيادة سياسية مستقرة، وأمن داخلي وخارجي راسخ، واقتصاد لدبه مرونة القدرة للتطور، وانخفاض نسبة البطالة، وأنظمة صحية وتعليمية تحقق حد جيد من الإطار العام المطلوب، وتعزيز ذلك بشبكة تحالفات إقليمية ودولية موثوقة قائمة على مصالح مشتركة طويلة المدى، هنا سيكون الوضع معقولا إلى حد ما، في عالم تتقاذفه العواصف من كل جانب، ولا بقاء به إلا للأقوى والأدهى!
للتحليلات السياسية مناهج ومخرجات وأنواع منها: تقييم حالة، وتقدير موقف، وتنبيه سياسي، واستشراف سياسي (3)، ولكل منهج نظرية وتفاعل وأسلوب، والجدل حول التحليل السياسي لأي لم ولن يتوقف وهذه طبيعة الأمر، في العلوم الإنسانية يعتبر الجدل عاملا مهما للوصول لقناعة ما، وهذا فارق العلوم العقلية عن النقلية، العلوم التي يلعب بها الفكر دورا مهما قد تتبدل أفكارها من حين لآخر مع بقاء ثوابتها. في السياسة- التي هي جزء من العلوم الإنسانية- قد تتبدل قيم وتتغير مبادئ بحسب المصلحة، والمصلحة هي تعبر عن طبيعة الإنسان الناظرة للأعلى وللأكثر وللأقوى، وطبيعة النفس البشرية قد تحدد أحيانا ماهي السياسة القادمة للدولة "س" عندما يأتي الرئيس فلان، وكيف تواجه سياستها الدولة "ص"؟
السياسة بحر غبه عميق جدا لا يجيد السباحة فيه سوى الماهر ومن يلبس على ظهره أوكسجين يكفي في حال الغوص إلى غب المحيط!
قال تعالى: "وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُو اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ" (الأنفال: 60).
**************
بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك، أتقدم لكم بخالص التهنئة، ومبارك عليكم الشهر، وعساكم من عواده. وأسأل الله أن يعيننا على صيامه وقيامه وأن يجعلنا فيه من المقبولين.
مراجع:
كتاب: "إعادة النظر في النظام الدولي الجديد"، تأليف يورغ سورنسن، ترجمة أسامة الغزولي، الفصل الخامس، ص 147 و148، سلسلة عالم المعرفة 480 يناير 2020م. المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، دولة الكويت. كتاب: "قواعد اللعبة". الكتاب الرائد في العلاقات الدولية، تأليف مارك أمستيوز. الفصل الثامن، ص 296 و297، الطبعة الثانية، دار الفاروق للاستثمارات الثقافية، جمهورية مصر العربية. كتاب: "أصول التحليل السياسي" تأليف د. فوزي حسن الزبيدي. المبحث الثالث ص 31، طبعة أولى 2018م. دار ثقافة للنشر والتوزيع. أبوظبي، بيروت. رابط مختصر