لجريدة عمان:
2024-11-24@11:56:27 GMT

ما لا يجب أن نخافه في «إحراق إنسان»

تاريخ النشر: 4th, September 2023 GMT

ترددت أنباء بأن الآلاف من رواد مهرجان (إحراق إنسان) قد طولبوا بالحفاظ على ما لديهم من الطعام والماء بعد أن حاصرتهم الأمطار الغزيرة وتركتهم محبوسين في وحل لا يمكن اجتيازه في صحراء نيفادا، فدفعت هذه الأخبار بالبعض إلى المزاح بأن أحداث رواية «لورد الذباب» [لمؤلفها البريطاني الحاصل على نوبل وليم جولدنج] تتكرر في التجمع الشعبي السنوي مع أباطرة التكنولوجيا.

ومن أسف أنني مرغمة على إفساد هذه السخرية الكارهة لأثرياء التكنولوجيا. فمهما تكن الطريقة التي ستُحَلُّ بها هذه الفوضى ـ ويبدو أن كثيرا من الحلول في الطريق ـ فإن الاعتقاد بأن الحضارة إن هي إلا قشرة رقيقة سرعان ما تنهار فور غياب السلطة ليس فقط اعتقادا خاطئا، ولكن الاعتقاد في ذاته ضار.

لقد قرأ روتجر بريجمان ـ مؤلف كتاب «الإنسانية: تاريخ متفائل» ـ في مراهقته رواية «لورد الذباب» شأن كثير من المراهقين، ولم يشك في إيحاءاتها الرهيبة المتعلقة بالطبيعة البشرية. غير أن الفضول اعترى بيرجمان إزاء سؤال عما لو أن هناك حالات واقعية لصبية في ذلك العمر تقطعت بهم السبل في جزيرة نائية.

وعلم بريجمان بواقعة جرت أحداثها على نحو مختلف تماما، إذ حدث في عام 1965 لستة أولاد تتراوح أعمارهم بين الثالثة عشرة والسادسة عشرة أن ضجروا من مدرستهم في بلدة تونجا في بولينيزيا، فسرقوا قاربا وأبحروا به، ثم انجرفوا بلا أمل بعد أن انكسر شراع قاربهم ودفته. وألقى بهم الموج على جزيرة بقوا فيها لأكثر من عام. وبدلا من الانحطاط إلى فوضوية قاسية، بقوا على قيد الحياة متوسلين بالتعاون. وعندما كسرت ساق واحد منهم اعتنى به البقية.

ولقد قضيت شخصيا بعض الأسابيع التي لا تنسى من حياتي في المساعدة في جهود الإنقاذ والإغاثة في أعقاب زلزال سنة 1999 في تركيا الذي أسفر عن مصرع آلاف الناس. كان مركز ذلك الزلزال هو مسقط رأسي في طفولتي، فكنت أعرف المكان جيدا، فسارعت إلى مد يد العون، غير واثقة مما قد أعثر عليه. وبدلا من الفوضى والنهب اللذين أشيع عنهما، رأيت الناس يتقاسمون كل شيء مع بعضهم بعضا. مفتونة بذلك، تعمقت في علم اجتماع الكوارث لأجد أن هذا هو المنحنى الشائع بعد وقوع حدث مؤسف مماثل.

في كتاب ريبيكا سوليت «فردوس مقام في الجحيم: المجتمعات الاستثنائية التي تنشأ في الكوارث» توثيق لكثير من التجارب المماثلة، حيث يتعاون الناس ويتسمون بالإيثار في أعقاب الزلازل والبراكين وغيرها من الكوارث، في حين أن السلطات تفترض العكس وتتدخل لفرض القانون والنظام لكنها في نهاية المطاف هي التي تلحق الضرر الحقيقي.

ولقد كان من أبشع الأمثلة وأحدثها على هذا ما تعلق بشائعات الأوضاع في أعقاب إعصار كاترينا في سوبردوم بولاية نيوأولينز، حيث عجز عشرات الآلاف عن الإجلاء مبكرا فتجمعوا معا. قال رئيس الشرطة لأوبرا وينفري إن الأطفال الصغار يتعرضون للاغتصاب. وقال العمدة إن «الناس واقفون هناك، في سوبردوم اللعينة لخمسة أيام يشاهدون جثث الموتى، ويشاهدون الهمج يقتلون الناس، ويغتصبون الناس». وترددت تقارير عن مروحيات إنقاذ تتعرض لإطلاق نار.

في حين كان الواقع أنه حتى مع تدهور الوضع في سوبردوم، حسبما يوثق كتاب ريبيكا سولنيت، فقد بقي كثير من الناس يحافظون على بعضهم بعضا، ويعتنون بكبار السن والضعفاء بصفة خاصة في ظل ظروف مرهقة للغاية.

لكن شيطنة أهل نيوأورلينز ـ والغلبة فيهم لسود البشرة ـ هي التي كانت تغذي القبح الحقيقي: فقد تأخرت بعض المساعدات وتم تخصيص الموارد لمنع «النهب»، واللاجئون الين حاولوا الهروب من المدينة سيرا على الأقدام تعرضوا لإطلاق الرصاص من سكان الضواحي ذات الأغلبية السكانية البيضاء.

فماذا عن الجانب الرهيب من الإنسانية، الممثل في الحروب والإبادات الجماعية؟ ماذا عن مبدأ البقاء للأصلح؟

في كتابه «المخطَّط: الأصول التطورية للمجتمع الصالح»، يوضح نيكولاس كريستاكيس، عالم الاجتماع والطبيب، أن الناس حيوانات متعاونة واجتماعية، وليسوا ذئابا منفردة. وسر بقاء البشر لا يتمثل في أنهم كانوا الحيوانات صاحبة المخالب الأحدّ أو العضلات الأقوى، وإنما لأنهم كانوا أذكياء ولأنهم كانوا لبعضهم بعضا.

نظر كريستاكيس إلى حوادث تحطم السفن في الفترة من 1500 إلى 1900 ووجد أن الناجين غالبا ما كانوا يتمكنون من التعاون وأن العنف والقبح كانا أبعد ما يكونان عن الوضع الطبيعي.

وليست هذه رؤية وردية تتجاهل الجوانب الرهيبة من السلوك البشري. فمن الممكن تنظيم الجماعات سياسيا واجتماعيا ضد بعضها بعضا. وهذا هو أساس الحروب والإبادات الجماعية. ولكن هذه أبعد ما تكون عن كونها العناصر الحقيقية في الطبيعة البشرية، أو أنها ما ينكشف فور انتزاع قشرة الحضارة الرقيقة، بل إن هذه الفظائع تنتظم من خلال مؤسسات الحضارة، من خلال السياسة والثقافة والجيوش والحملات السياسية المستمرة لنزع أنسنة بعض البشر.

وقد يتم تجنيد مؤسسات الحضارة لمقاومة نزع الإنسانية هذا. فقد لا يكون الاتحاد الأوربي مثالا كاملا، لكنه ساعد على قمع كثير من أشكال الصراعات التي دمرت القارة على مدار قرون.

وقد أغامر فأقول إن كثيرا من الآلاف المحاصرين في وحل نيفادا يتجمعون على الأرجح، متشاركين في المأوى، والطعام، والماء.

ولو أن نجوم عالم التكنولوجيا وأثرياءه موجودون بين من يعانون في الوحل، فبدلا من الشماتة في معاناتهم، علينا أن نرجو أن تعزز تجربتهم هذه أهمية التعاضد في أي مجتمع.

وإن بوسعنا أن نساعدهم بتمرير قوانين تنزع الشرعية عن الملاذات الضريبية، وتخلق بنية ضريبية أقرب إلى المساواة وإطارا دوليا قويا لإيقاف غسيل أرباح الشركات، وإرغام شركات التكنولوجيا وغيرها على معالجة الأضرار الناجمة عن تدخلاتهم والتغلب على الوضع القائم الذي تكون الأرباح فيه شخصية، والأضرار عامة.

ليست الطبيعة البشرية عقبة دون المجتمع الصالح، لكنها بحاجة إلى مساعدة من القوانين والمؤسسات، لا من الوحل، من أجل أن تسنح للقيم الصالحة فرصة أكبر.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

أمين المجلس الأعلى للشئون الإسلامية يلقي محاضرة بكلية التمريض بداغستان

فى ضوء الرؤية التجديدية التى تتبناها وزارة الأوقاف والتى أعلن  وزير الأوقاف الأستاذ الدكتور أسامة الأزهري عن محاورها الأربعة، ألقى الأستاذ الدكتور محمد عبد الرحيم البيومي، الأمين العام للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، محاضرة هامة في كلية التمريض في جمهورية داغستان حول موضوع "البناء الحضاري في التراث الإسلامي في مهنة الطب من خلال الرؤية التجديدية لوزارة الأوقاف المصرية".

وتناولت المحاضرة دور الطب في التراث الإسلامي باعتباره أحد أبعاد الحضارة الإسلامية التي تجمع بين العلم الديني والعلمي.

كما قدم البيومي رؤية حديثة حول كيفية تطوير مهنة الطب في ضوء المبادئ التجديدية التى تتبناها وزارة الأوقاف المصرية حيث نبعت من الريادة الطبية فى الحضارة الإسلامية،وكذلك الأخلاق المهنية فى الجانب الطبى والتى تناولتها النصوص التراثية التى واكبت النهضة الطبية فى الحضارة الإسلامية.

كذلك عرض البيومي في محاضرته نماذج من لجنة الطب التابعة للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، والتي تعمل على تطوير مفاهيم الطب في ضوء القيم الإسلامية الأصيلة، وأكد أن لجنة الطب لا تقتصر على نشر المعرفة الطبية الحديثة، بل تسعى أيضًا إلى إعادة إحياء التراث الطبي الإسلامي، الذي كان له دور محوري في تطور الطب في العصور الوسطى. وأضاف أن الوزارة تبذل جهودًا حثيثة لتوفير التدريب والتعليم المتخصص في الطب، مما يعزز من تطوير هذا المجال ويعود بالنفع على المجتمع.

ناقش البيومي أهمية الربط بين التراث الطبي الإسلامي والطب الحديث، مشيرًا إلى أن الحضارة الإسلامية ساهمت بشكل كبير في تقدم مهنة الطب من خلال العناية بالصحة العامة، وتطوير الأدوات الطبية، وتقديم أسس علمية مبنية على التوازن بين الجسد والروح، وأوضح أن وزارة الأوقاف المصرية تسعى إلى تجديد هذا التراث من خلال تنظيم برامج تدريبية وورش عمل تهدف إلى تعزيز الوعي لدى الشباب حول أهمية الطب في بناء المجتمع وحفظ الصحة وفقًا للرؤية الإسلامية التي تركز على الحفاظ على كرامة الإنسان.

اختتم البيومي محاضرته بالتأكيد على أن البناء الحضاري في مهنة الطب لا يتوقف عند دراسة العلوم الطبية فقط، بل يشمل أيضًا تعزيز القيم الإنسانية والإسلامية التي تضع الإنسان في قلب الاهتمام، وأوضح أن هذه المحاضرات تأتي في إطار الجهود التي تبذلها وزارة الأوقاف المصرية لتعزيز التكامل بين العلوم الدينية والعلمية في مجالات مختلفة، بما في ذلك الطب، بما يساهم في بناء مجتمع صحي ومتوازن قادر على مواجهة التحديات الحديثة.

مقالات مشابهة

  • كندا تعلن أول حالة إصابة مؤكدة لسلالة جدري القرود
  • كانوا على بعد امتار.. اعلاميون ينجوون من غارة صور
  • كاتب صحفي: بناء الإنسان المصري محور أساسي في الجهود الحالية للدولة
  • أرفع معكرونة سباغيتي في العالم.. أرق من شعرة إنسان بـ200 مرة
  • منصور بن زايد: متحف نور وسلام نافذة لاستكشاف ثراء الحضارة الإسلامية
  • مركز حقوقي عراقي يصف إجراءات حظر التجوال بـالفاشلة: الصحفيون كانوا ضحيتها
  • حرب المسيّرات.. التكنولوجيا التي أعادت تشكيل وجه النزاعات العسكرية
  • محمد عبد الرحيم البيومي: الحضارة الإسلامية ساهمت بشكل كبير في تقدم مهنة الطب
  • أمين المجلس الأعلى للشئون الإسلامية يلقي محاضرة بكلية التمريض بداغستان
  • الأمين العام للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية يلقي محاضرة عن البناء الحضاري في التراث الإسلامي