التفاصيل الصغيرة في «ظل يسقط على الجدار»
تاريخ النشر: 4th, September 2023 GMT
عندما أعلنت الكاتبة منى السليمية عن صدور كتابها الجديد (ظلّ يسقط على الجدار) عن الجمعية العمانية للكُتّاب والأدباء ودار الرافدين هذا العام، سألتُها إن كان الكتاب في موضوعه مقالات سابقة قد جمعتها، لا سيما أنها فازت قبل ذلك بوقت قصير بجائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب عن مجال المقالة عام 2022م، لكنها نفت أن يكون الكتاب في المضمون ذاته، وأكّدت أن هذا السؤال صار يتكرّر عليها مؤخرا، وأنّ الكتاب هو أساسا نصوص إبداعية كتبتها في فترات زمنية مختلفة ثم قرّرت جمعها مؤخرا لترى النور في هذا الإصدار.
ورغم أنّ الكتاب قد صدر متزامنا مع معرض مسقط الدولي للكتاب هذا العام وقد خُصِّص على واجهته بعبارة (نصوص)، فإنه لا يمكننا تصنيف الكتاب تصنيفا محددا، فهو أشبه بالسيرة الذاتية، أو اليوميات، أو المذكرات، أو أدب المكان، أو النصوص الأدبية، وللقارئ أن يصنّفه ضمن الدوائر السابقة التي تتقاطع مع ملامح الكتابة فيه.
يقوم الكتاب في أسلوبه الكتابي على تقنيات البوح والشكوى والتعبير الداخلي المرتبط بعاطفة الكتابة النسائية، ويأخذ من الاعتراف ونبش الذاكرة موضوعا مهما، وهو ما يدفعنا لطرح سؤال مهم عن الكتابة في هذه الموضوعات: «إلى أي حد تكمن المصداقية والوضوح والشفافية والجرأة في الحديث عن الذات وإخراج الذاكرة المختبئة من أعماقها؟»؛ إذ يتحرج كثير من الكُتّاب في الحديث عن ماضيهم أو الكشف عن شيء من ذلك للقارئ، ولعلّنا نجد جرأة كبيرة عند الكاتبة في هذا المجال، فبالإضافة إلى كونها تكتب بقلم نسائي قد يخفي في العادة كثيرا من أسرار الذات، نجدها تكتب بوضوح وشفافية. ولعلّي أستشهد هنا بنص (في ذكرى ميلادي الأخضر) الذي على غير العادة تصرّح فيه أنثى بتاريخ ميلادها، فقد أشارت إلى ذلك معبّرة عن التاريخ قائلة: «كُتب هذا النص في عام 2014م في ذكرى ميلادي الثلاثين»، أو: «ولكني عرفت من شهادة ميلادي أني من مواليد 30 أكتوبر 1984م ففرحت كمن اكتشف تاريخ الأرض، أو بدء الخليقة؛ فقد أصبح لي تاريخ يؤرخني».
وبشجاعة كبرى تستطرد الكاتبة في ذكر تاريخ ميلادها معلّلة ذلك بقولها: «أحببت هذا اليوم الرقم (10/30) كثيرا؛ فلطالما أحببت مضاعفات العدد 10 التي تجد طريقها إلى الذاكرة سريعا، ولكن هناك ما ارتبط بهذا التاريخ فصبّه كخرسانة لا تتزعزع من ذاكرتي؛ فهو يوم ارتبط بوفاة أنديرا غاندي في اليوم نفسه والساعة نفسها من العام نفسه 1984م. هذا مما عرفته لاحقا، (أثق في ذاكرة عمتي رغما عن أنف جوجل الذي قال إنها اغتيلت في 31). أليس عظيما أن يؤرخ ميلادك بوفاة شخصية مهمة مثل أنديرا غاندي؟.
ولم أعرف أية فكرة كنت أهجس بها بأن روح أنديرا غاندي هي التي تسكنني الآن، وكنت أخاف من الوحدة؛ حتى لا تستفرد بي روحها لتكشف لي ما لم أعرفه ولا أريد أن أعرفه عن السياسة والاغتيالات، ولكني كعادة المسلمين أسارع بالاستغفار خشية أن أتلوث بفكرة تناسخ الأرواح دون سابق رغبة أو ترصد !.
لست أعاني عُقدا عمرية في إعلان عمري الحقيقي، فهو الشيء الوحيد غير القابل للسرقة أو الإنقاص، ولست أجد في نفسي رغبة في العودة إلى الخلف يوما.
وتذكروا أن غدا (أي 31 أكتوبر) هو يوم الشجرة، يوم آخر اقترن بتاريخ ميلادي في ذاكرتي أيضا، فلعلي كنت سببا في اخضرار العالم!!
حسنا لا تغضبوا، أقصد: اخضرار ذاكرتي».
لعلّ هذه الشجاعة المتمثلة في ذكر اليوم يقابلها شجاعة في مواجهة التفاصيل التي تضعها في النصوص: تفاصيل مكانية تحيل على الذاكرة والطفولة والقرية والمدرسة، وتفاصيل مرتبطة بالشخوص التي مرّت على ذاكرتها وأثّرت فيها وعملت على إضافة الكثير لها، أو تفاصيل وقائع وحوادث وفعاليات شهدتها وعاشت أيامها ونقلتها بعفوية كاملة وأسلوب مباشر بسيط.
تمتد هذه التفاصيل من حدث المرآة الذي تنطلق منه منى إلى جهات أوسع، وذاكرة أعم، فكأنّ المرآة المنطلق الأول للجهات التي ترى منها الأشياء، فالجهات تتعدد بتعدّد المرايا، والأحداث أيضا تتعدد، وكذلك الذكريات والأشخاص.
ما يدفع التفاصيل إلى الانطلاق بوضوح وشفافية وشجاعة أنّ الكاتبة عمدت إلى استخدام أساليب مهمة في السرد والاعتراف لعل أهمها:
طغيان (تاء المتكلم) في السرد وهو ما أضفى مصداقية على الأحداث، وواقعية، وعودة إلى المنابع الصافية للذاكرة فكانت التفاصيل أكثر التصاقا بالذات، وأكثر حميمية في التعبير.
ومن الأساليب التي لجأت إليها الكاتبة المزج بين الأسلوب المَرِح وبين الأسلوب الحزين والأسلوب الجاد؛ نجد ذلك في غير موضع من النصوص، نجد روح المرح في نص (أمي وأم جوزيف) حين تقول: «تحب أمي أم جوزيف. وليس على القابض على «الريموت» أن يستغرب إذا ما طلبت منه فجأة العودة بالقنوات إلى الخلف، فقط لأنها لمحت لقطة لأم جوزيف في مشهد ما تقول عنها: صح إنها حرمة ما واغشي». ترفض أمي التصديق بأن أم جوزيف في باب الحارة تصبح أم جبل في الهيبة، أو أما لشخص آخر في مسلسل آخر. وعلى تيم حسن أو غيره- أن يكون جوزيف رغم أنفه في كل مسلسل تكون فيه منى واصف أمه. لم تكن أمي تعرف قبل البارحة أن أم جوزيف لبست الـ «ليسو» العماني يوما. بقيت مدة غير قصيرة تتأمل صورة أم جوزيف بـ«ليسوها» في دور السيدة موزة بنت الإمام أحمد بن سعيد».
أتراها اقتنعت أخيرا أنه لا يمكن لامرأة تلبس «ليسو» عمانيا أن يكون اسمها أم جوزيف؟ ولكن المؤكد أن أمي باتت تحب منى واصف أكثر وهي بالليسو، وقد صارت أكثر شبها بها من أي لقطة أخرى بمفرقها الذي يشق شعرها نصفين.
ونجد الأسلوب الحزين في نص (عليا) كما في: « ثواني ونزلتُ مباشرة. قلت لها: «لا أريد»!.
ترى هل رأيتُ الموت من النافذة؟ ما عدت أتذكر.
هل صعدت بعدي ورأت ما رأيت؟ لم أسألها. لم أبك يومئذ، ولا في الأيام التي تلت ذلك. بكيت بعد انقضاء الإجازة الصيفية، عندما سألتني إحدى المعلمات في أول يوم دراسي: أين عليا؟ في تلك اللحظة فقط عرفتُ أنها ماتت، وبدأتُ معها حدادا متأخرا كان ينقصه الوقت اللازم للإدراك. كم عشتُ معها؟ كم عرفتها؟ لستُ أدري. ليس لعليا سوى صورتين اثنتين وربما ثلاث غادرت ولها من العمر 7 سنوات، وعشتُ لأتذكر شذرات من حياة قصيرة لم تتسع لأكثر من اجتياز الصف الأول الابتدائي بتفوق.
ونجد الأسلوب الملتزم جدية في نصوص عديدة مثل نص (أمي وشريط الندم) الذي يصنع من العتاب واللوم موضوعا مهما تنطلق منه في تأنيب الذات، تقول: «أمام أمي لست حرة أبدا. وحتى أنتزع شعور التحرر من هذا الامتنان الأبدي سأحتاج إلى طاقة هائلة أقوى بها على المحو والانسلاخ والتشظي. لا شيء يستطيع جعلي متجردة في نظرتي لأمي ما دام كل شيء يجعلها إلها، ويوجعني أن أكفر به.
أحاول بشكل يائس ترقيع حاضر يجنبني الندم غدا، ولكن أمي رغما عنها -لا تجعل ذلك ممكنا. كيف سأعوّض المرات التي امتنعت فيها عن تلبية طلبها بالذهاب إلى السوق؟ أو معاندة رغبتها في استيقاظي باكرا لنفطر معا ولم أستيقظ؟ أو اتصالاتها التي لم أستطع الرد عليها؟ أو انشغالي بهاتفي وهي تجلس بجواري؟ أو أن أقول لها أحبك ولم أفعل؟ أو أن أدس في يدها مصروفا ولم أفعل؟ أو أن أشتري لها راشن البيت ولم أشتر؟. ما أطول القائمة التي لن تجعل غدي أفضل ! ستجعلني أمي أندم على كل شيء صائبا كان أو خاطئا. الأمهات لا يربيننا وهن على قيد الحياة، إنهن يبدأن في تربيتنا بعد رحيلهن وما أكثر ما ستربيني أمي! وما أقسى التربية التي تبدأ بغياب أحد أطرافها.
أين المفر يا أمي؟ لا مهرب منك إلا إليك، وليتني آمن وأصل فلا أندم بعدك أبدا. ستغفرين كل هذا، أعرف، ولكن مغفرتك دليل إدانة بأني مذنبة أبدا، ولا أملك وسيلة لأكون غير ذلك».
هذا التنوع في الأساليب جعل النصوص منفتحة على أفكار متعددة وشخوص متنوعة كما دفع بالذاكرة إلى الاتساع.
ثالثا استخدام الكاتبة اللغة المباشرة السهلة البعيدة عن التعقيد. فهي تمسك بلغتها جيدا وتحاول إيصالها إلى القارئ، أيا كان مستواه الثقافي؛ فالتعبير واضح لا يُمثّل إشكاليةً في عملية التواصل بين القارئ والنص.
ولعلّ ما يميز أسلوب الكاتبة أيضا هو العودة بالقارئ إلى فضاءات مختلفة، وأزمنة متعددة، فمن القرية/ البيت/ الدكان/ الحارة إلى المدينة/ الجامعة/ بيت الزبير/ المعبيلة، إلى أرض الطفولة التي تتكرر بصورة كبيرة في الكتاب حتى شكّلت مرجعية زمنية مهمة انطلقت منها الكاتبة في بناء نصوصها كونها السابق التي أدّت إلى تشكّل أحداثٍ لاحقة منها على سبيل المثال: (زمن المدرسة في الطفولة، والحديث عن جودي أبوت وسالي) إلى فضاءات الدراسة الجامعية والتأهيل والعمل.
لقد أدى هذا التنوع إلى الانفتاح على روايات مختلفة شكّلت مسارا مهما في السرد، امتدّ من زمن الطفولة وحوادث القرية إلى الحياة الجديدة والعمل وهو ما دفع بالكاتبة إلى وضع القسم الرابع المرتبط بامتداد الحياة الزمنية والمكانية فكان الحديث عن (الكتابة فنا للعيش) حديثا يجمع بين الثقافة التي تشكّلت في ذاكرتها. فمن الكتابة الحلم التي تناولت فيها علاقتها مع الكتابة كونها فنا إلى السؤال الأهم: لماذا أكتب؟ المتمثل في الدافع والرغبة الكائنة في عقلها البشري تمتد هواجس الكتابة وشؤونها وعلاقتها بالأفراد والمؤسسات وهنا نقرأ صفحة من مسيرة كاتبة في الشأن الثقافي والإبداعي امتدت منذ المدرسة إلى الجامعة إلى العمل التربوي ثم العمل المؤسسي وما رافقه من أنشطة وفعاليات شكّلت يوميات مهمة رصدتها النصوص في هذا الكتاب.
إذن يتشكل كتاب (ظلّ يسقط على الجدار) لمنى السليمية وفق نصوص إبداعية مهمة، منفتحة على الآخر وعلى المكان، نُسجت من ذاكرة فتاة قادمة من عمق الإبداع، أصرّت أن تكون الكتابة متنفسا تبوح من خلالها، وترصد منها المتغيرات الزمانية مُشكّلة انطلاقا أكبر للبوح الكتابي والاعتراف الداخلي.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
المنظمة العربية للتنمية الصناعية تفتتح الملتقى الدولي للصناعات الصغيرة والمتوسطة بالمغرب
افتتحت المنظمة العربية للتنمية الصناعية والتقييس والتعدين، فعاليات الملتقى العربي الدولي العاشر للصناعات الصغيرة والمتوسطة الذي تعقده بمدينة أكادير- بالمملكة المغربية، وذلك بالتعاون مع جهة سوس ماسة، جامعة الغرف المغربية للتجارة والصناعة والخدمات، غرفة التجارة والصناعة والخدمات لسوس ماسة، والمركز الجهوي للاستثمار سوس ماسة، والبنك الإسلامي للتنمية.
واستهل المدير العام للمنظمة المهندس عادل صقر الصقر كلمته الافتتاحية بالترحيب بجميع المشاركين في أعمال هذا الملتقى، ورفع أسمى آيات الامتنان وخالص عبارات الشكر والتقدير للملك محمد السادس على ما يبذله جلالته من جهود مباركة للنهوض بالعمل العربي المشترك ورعاية مؤسساته، وعلى ما تقدمه حكومته الرشيدة من دعم للمنظمة لأداء مهامها وتحقيق أهدافها.
وقدم الشكر لكافة الدول العربية على تعاونها ودعمها للمنظمة بما يمكنها من تنفيذ برامج عملها وأداء رسالتها لتحقيق التكامل الصناعي العربي.
وأكد المدير العام أن تنظيم هذا الملتقى الدوري الذي يعقد هذا العام تحت شعار "الاقتصاد الرقمي ومستقبل المشروعات الصغيرة والمتوسطة " يأتي ضمن الجهود المتواصلة للمنظمة العربية للتنمية الصناعية والتقييس والتعدين وشركائها للنهوض بهذا القطاع الهام.
وأضاف أنه من هذا المنطلق، يكتسب ملتقانا هذا قيمة فعلية تستدعي منا إيلاء مزيد من الاهتمام نحو تسريع وتيرة التحول الرقمي في هذا القطاع الواعد وتعزيز استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي التي تفتح آفاقا جديدة لهذه المشروعات، مما ينعكس إيجابا على خدماتها ومنتجاتها وقدراتها الابتكارية والتسويقية".
وأوضح أنه تبعا لأهمية وضرورة العمل على تسريع وتيرة التحول الرقمي في القطاع الصناعي، فقد اتجهت العديد من الدول والمنظمات الإقليمية والدولية إلى إطلاق المبادرات لترسيخ ثقافة التحول الرقمي واستثمار الفرص التي يُتيحها لفتح آفاق جديدة للدفع بعجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
وفي هذا السياق بادرت المنظمة إلى إنشاء منصة طلبات وعروض المنتجات الصناعية والتعدينية "APIP.online"، لتصبح أول منصة رسمية صناعية متخصصة تشمل بيانات أكثـر من 60 ألف شركة صناعية وتعدينية في 21 دولة عربية بمختلف أنواعها وتصنيفاتها.
وتتيح المنصة للشركات الصناعية والتعدينية العربية ومن بينها تلك الصغيرة والمتوسطة العديد من المزايا التي تمكنها من التعريف بمنتجاتها وخدماتها المختلفة ومنحها فرصا ترويجية وتسويقية كبيرة من خلال المتاجر الإلكترونية المخصصة لها.
وشدد المهندس الصقر أن هنالك آمالا كبيـرة تعقد على هذا الملتقى للخروج بتصورات بناءة من خلال ما يعرض من أوراق عمل وما يثار حولها من نقاشات وآراء للوصول إلى نتائج إيجابية تصب في اتجاه دعم الصناعات الصغيرة والمتوسطة في المنطقة العربية وتسريع وتيرة التحول الرقمي في كافة المجالات الصناعية.