يقول وائل حلاق في مقدمة "الدولة المستحيلة" أن أطروحة الكتاب بالغة البساطة. وهذا القول وإن صح من وجه، يجب ألا يُخْفي أننا، من وجه آخر، أمام أطروحة معقدة من حيث كونها تريد أن تُفسّر كل شيء، شأنها في ذلك شأن أطروحات مشاريع النهوض الفكرية على امتداد القرن العشرين، هذه المشاريع التي كانت تصبو إلى تفسير أسباب التخلف وسبل الخروج منه تفسيرا منطقيا مفحما جامعا مانعا.

فبساطة الأطروحة قد تقوم دليلا على نزعتها التفسيرية الشمولية، هذه النزعة التي هي جزء لا يتجزأ من ثقافة سياسية شمولية.

ويقول حلاق إن معضلة المسلمين اليوم تكمن في رغبتهم في عودة الشريعة مع قبولهم، "بمن فيهم كبار مفكريهم، بالدولة الحديثة كأمر مفروغ منه وكحقيقة طبيعية". ويضيف بأنهم، أي المسلمين، "افترضوا في أغلب الأحيان أن هذه الدولة لم تكن قائمة على مر تاريخهم الطويل فحسب، بل ساندتها أيضا سلطة القرآن نفسه. ذلك أن هؤلاء يرون أن القومية، وهي ظاهرة غير مسبوقة وفريدة كعنصر تكويني من مكونات الدولة الحديثة، قد دشنت وأطلقت في العالم عبر الدستور الإسلامي المقدس الذي وضع في المدينة المنورة منذ 14 قرنا. كما اعتبرت مفاهيم المواطنة والديمقراطية وحق الاقتراع من إنجازات المجتمعات الإسلامية الباكرة".

ويعزز حلاق كلامه هنا بإحالات تجعلنا نحس بأننا أمام عمل علمي لا ينطلق من فراغ، بل يتأسس على معرفة واطلاع وتوثيق لما قاله ويقوله المسلمون أنفسهم. والواقع أن حلاق لا يزيد على أن يعتمد حيلة من حيل البلاغة، يقوم بموجبها باستدعاء شخوص من عالم الأذهان لا من عالم الحقائق الخارجية. فنحن لا نُسَلّم لحلاق بأن غالبية المسلمين يفترضون بأن مفهوم الدولة الحديثة تسانده سلطة القرآن نفسه وأن مكونات هذه الدولة ذات صلة بالدستور الإسلامي المقدس. ومن الناحية المنهجية نجد في كتاب حلاق نزعة اختزالية تقفز على الحقائق الخارجية لتقر أحكاما ذهنية مجردة.

ومن يقرأ "الدولة المستحيلة" يحصل له انطباع بأن سؤال الدولة مركزي في حياة عامة المسلمين وعلمائهم اليوم. وفي هذا الأمر مجانبة للصواب. لماذا لا نقول، مثلا، إن المسلمين، في عمومهم، لا يتعاملون مع الدولة كمفهوم، يربطونه بمرجعية فكرية دينية أو لا دينية، وإن قبولهم للدولة الحديثة كأمر طبيعي هو من جنس قبولهم للدولة ما قبل الحديثة، يدخل في إطار خضوعهم لسلطة متغلبة قاهرة لا يَأْمَنون جانبها ويخشون بطشها؟

تصطبغ دعوة حلاق المسلمين إلى الخروج على الدولة الحديثة بصبغة "البلاغة الطهرانية الكالفينية"، والخطورة أنها تساهم في بلورة طهرانية إسلامية تقوم على أساس الاعتقاد في وجود ظاهرة نموذجية مقدسة. والحاصل أن الشريعة كانت في أصلها نتاج تفاعل المسلمين الأوائل مع "روح الدين" من جهة، ومع "روح عصرهم" من جهة أخرى

وقد يعترض حلاق على هذا بالقول إن في مرحلة ما قبل الدولة الحديثة الغربية لم تعرف المجتمعات الإسلامية دولة، وإنما سلطة أو قوة إسلامية (Power) تنضبط بأخلاق الشريعة فينضبط لها المسلمون. وفي هذا القول اختزال كبير يتحول بموجبه الحكم في تاريخ الإسلام إلى مجرد علاقة بين الإيمان من جهة والسلطة من جهة أخرى، كما أن فيه تهميشا للمحاولات التي كان أصحابها يسعون إلى تقنين هذه العلاقة لتفادي الوقوع في آفة استغلال الدين وتوظيفه لأغراض سلطوية محضة. وهنا يقفز حلاق على الواقع التاريخي، موظفا ترسانة من المفاهيم الحديثة من قبيل "الظاهرة النموذجية". والواقع أن في لجوء حلاق لهذه المفاهيم ما يوحي بخلل منهجي كبير في التوفيق بين الأحكام الذهنية والحقائق التاريخية. ويعود هذا الخلل، في نظرنا، إلى بساطة الأطروحة وشمولية الطرح.

ومن الحيل البلاغية الأخرى التي يوظفها حلاق هو أنه يحدد سلفا وجوه الاعتراض التي قد ترد على أطروحته، في محاولة منه لتسويغ مذهبه في النقد والتحليل. ومن أنواع الاعتراض التي يندب نفسه للتصدي لها الاعتراض الذي قد يذهب أصحابه إلى القول إن أطروحة حلاق تستبطن دعوة ماضوية. وللرد على هؤلاء يَسُل سيف نقد التقدم ويحمل معاول هدم المنظومة الحديثة، مُشيِّدا في مقابل هذا التقدم وهذه الحداثة صرحا نظريا يقوم على استقراء لتاريخ الشريعة وقوانينها.

ويغفل حلاق أن هناك أوجه اعتراض أخرى، لا حصر لها، قد تأتي من أناس يتفقون معه في نقد التقدم والحداثة ويختلفون معه في تشخيص واقع الشريعة التاريخي؛ أو يتفقون معه في تشخيص هذا الواقع ويختلفون معه في نقد التقدم والحداثة؛ أو يتفقون أو يختلفون مع نقده وتشخيصه بدرجات. وما يقلق في أطروحة حلاق البسيطة هو اعتمادها على نوع من الفصل الثنائي "المانوي" (الذي يقيم سدا منيعا بين مجالات لا يفصل بينها إلا فكر متعصب متطرف، ويجمع بين مجالات لا يجمع بينها إلا فكر متساهل ملفق).

ويمكن للقارئ أن يقف عند تفاصيل كثيرة يمر عليها حلاق مرور الكرام، وهي في الواقع تفاصيل تحتاج إلى تمحيص. غير أنه يكتفي بالإحالة على المصدر الذي ترد فيه، معتبرا أن في الإحالة ما يغني عن التفصيل فيها، كحديثه المختزل عن جوهر التنوير وعلاقته بالقومية على لسان جون غري أو كارلتون هايس، وإشارته إشارة عابرة إلى كيركجرد وهردر على أنهما وإن كانا يمثلان استثناء فالواقع أنهما لا يخرجان عن النطاق المركزي للتنوير.

وبإمكاننا أن نقف عند تفاصيل كثيرة من تفاصيل الكتاب وقفة نقدية تجلي هذا الوجه من القصور أو ذاك. غير أن هذه المنهجية قد تعود بنا إلى مرحلة طرابيشي والجابري، حيث كان جهد المفكر يُهْدَر في تعقب هفوات صاحب مشروع النهوض الفكري. والحقيقة أن لكل بحث، كيفما كان كاتبه، هفوات وثغرات تجليها التفاصيل الصغيرة، وأن حلاق يستحق أن يلتفت إلى جوهر أطروحته، احتراما لجهوده التنظيرية القيمة.

بين كتابين

واسمح لي عزيزي القارئ أن أبوح لك بأن اعتراضي شخصيا على كتاب "الدولة المستحيلة" هو في جزء كبير منه اعتراض على ما سبق لي وأن كتبته في "من مضايق الحداثة إلى فضاء الإبداع الإسلامي والعربي"، شعورا مني بأن المرحلة أصبحت تقتضي جهازا مفاهيميا جديدا. حين أتأمل في عنوان الكتاب ومحتوياته أجده لا يختلف في جوهره عن فكرة "الدولة المستحيلة". فالعنوان بداية فيه إشارة إلى أن شرط تحقق الإبداع الإسلامي والعربي هو الخروج من الحداثة.

وفي كتاب "من مضايق الحداثة" فصل يتحدث عن الغيبوبة الثقافية التي أسقطت الحداثة شعوب الأرض فيها، بمن فيهم المسلمون. كما أن فيه فصلا تحت عنوان "التنمية مطلوب لا يلحق"، أفصل فيه كيف أن فلسفة التقدم التي يقوم عليها مفهوم التنمية تتعارض مع المرجعية الفكرية الإسلامية والعربية. وفي معرض التنبيه على وجود اختلافات جوهرية بين العقل الحداثي والعقل الإسلامي والعربي أقول إن العقل الحداثي عقل يتوخى "بسط العقل على الوجود بغرض محق الغيب"، كما "يتوخى بسط الصناعة على الطبيعة بغرض محق الصدفة"، في حين أن العقل الإسلامي العربي مرتبط بالغيب، يرى، على لسان بن حزم مثلا، أن "أكثر ما يقع لا يتوقع، وأن الحزم هو التأهب لما تظنه سيقع".

وفوق هذا وذاك فعنوان الكتاب مأخوذ من فصل عنوانه الكامل هو: "من مضايق الحداثة إلى فضاء الإبداع الإسلامي والعربي: طه عبد الرحمن نموذجا". ففضلا عن التوافق بخصوص استحالة تحقق الفكرة الإسلامية، شريعة أو أخلاقا أو إبداعا بصفة عامة، مع وجود الحداثة، هناك توافق بخصوص التطلع إلى فكر طه عبد الرحمن كأفق فكري تشرئب له الأعناق.

لماذا إذن الاعتراض على فكرة "الدولة المستحيلة"؟

يقول حلاق في خاتمة الكتاب كما في مقدمته: إن المسلمين، بمن فيهم مفكروهم، "قبلوا، في الوقت الحاضر، الدولة الحديثة وعالمها بدرجة كبيرة، ولو كان على أساس الافتراض الخاطئ بأن نظامها يمكن تحويله إلى دولة إسلامية حين تتاح الفرصة". ثم يطرح بعدها السؤال: "أين المخرج؟". والمخرج عنده هو قانون الشريعة بوصفه ظاهرة نموذجية مكتملة يمكن العودة إليها.

وتصطبغ دعوة حلاق المسلمين إلى الخروج على الدولة الحديثة بصبغة البلاغة الطهرانية الكالفينية (نسبة إلى تعاليم جون كالفن البروتستانتية التي تقدم رؤية متطرفة ومبسطة للعالم تقسمه إلى مجموعتين متناقضتين). وتكمن خطورة هذه الدعوة في أنها تساهم في بلورة طهرانية إسلامية تقوم على أساس الاعتقاد في وجود ظاهرة نموذجية مقدسة. والحاصل أن الشريعة بوصفها ظاهرة نموذجية، باصطلاح حلاق، كانت في أصلها نتاج تفاعل المسلمين الأوائل مع "روح الدين" من جهة، ومع "روح عصرهم" من جهة أخرى. ولقد شعر المسلمون في زمن ما قبل الحداثة، كابن خلدون مثلا، بأن هذا النموذج يوشك أن يستنفد أغراضه. وقد كان لاحتكاك المسلمين مع الحداثة دور كبير في تنبيههم إلى وجود عصر جديد وجب التفاعل معه بغرض إنتاج "نموذجية" جديدة. وأكثر من هذا وذاك، فالحداثة لم تكن إنتاجا غربيا خالصا كما نتوهم، بل كان للمسلمين دور في بلورة الأدوات العقلية التي أنتجتها.

وللحديث بقية..

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معناوظائف شاغرةترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssجميع الحقوق محفوظة © 2023 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: الدولة الحدیثة معه فی من جهة

إقرأ أيضاً:

داعية إسلامية: الرزق ليس مالا فقط.. النعم الخفية لا تعد ولا تحصى

أكدت الدكتورة هبة النجار، الداعية الإسلامية، أن رزق الإنسان هبة من الله سبحانه وتعالى، وأنه لا يقتصر على المال أو الغنى فقط، بل يتنوع في العديد من النعم التي قد تكون خفية عن البعض.

وقالت الداعية الإسلامية خلال حلقة برنامج ربنا بيحبك، المذاع على قناة الناس، اليوم الثلاثاء: «ربنا بيحبك سبحانه وتعالى فاعتق رزق لا يقدر بمال، الرزق ده ربنا وهبه لكل الناس، وخص كل واحد برزق مختلف عن الثاني».

وأضافت أن البعض قد يعتقد أن الرزق يكمن فقط في المال أو الغنى، لكن في الحقيقة، الرزق يشمل النعم الباطنة التي قد تكون أكثر قيمة وأثرًا في حياة الإنسان.

واستشهدت الدكتورة هبة النجار بآية من القرآن الكريم حيث قال الله تعالى: «وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً»، موضحة أن الرزق قد يتجسد في نعم لا تُرى بعيوننا ولكننا نشعر بها، مثل: «ابن بار، صديق وفي، أسرة سعيدة، زوج وزوجة، بركة في الأموال والأولاد، أو حتى محبة الناس».

ودعت إلى شكر الله سبحانه وتعالى على هذه النعم، مؤكدة أن الحفاظ عليها والاعتراف بها دليل على محبة الله لنا.

مقالات مشابهة

  • «إسلامية دبي» تطلق مبادرة «مساجد الفريج»
  • هل أصاب التحديث في الوطن العربي التراجعات والإخفاقات؟
  • دعاء قضاء الحاجة الذي لا يُرد .. يقضي الأمور المستحيلة
  • «إسلامية دبي» تفتتح جامع عـبد الرحـيـم قـرقــاش في الورقـــاء
  • داعية إسلامية: الرزق ليس مالا فقط.. النعم الخفية لا تعد ولا تحصى
  • «إسلامية دبي» تنظم ندوة «ضيف قد أطل»
  • حلاق سفاح المعمورة يكشف تفاصيل الأشهر الأخيرة قبل اكتشاف جرائمه.. فيديو
  • حلاق سفاح الإسكندرية يكشف تفاصيل الأشهر الأخيرة قبل اكتشاف جرائمه.. فيديو
  • في ذكراها الـ14.. الرفادي: متمسكون بأهداف فبراير لبناء الدولة المدنيّة الحديثة
  • إسلامية الشارقة تفتتح 3 مساجد في الشارقة وكلباء